رائحة شهيّة..!
قد تراودكم للوهلة الأولى فكرة عجول تشتمّ رائحة حساء تتذوّقه فاتنة خلف نافذة الشّتاء المتصدّعة بصفعات أمطارٍ جنونيّة، أو دعابةٌ صباحيّة تجذبكم بأثيرها إلى الغيمة المرتوية من كوب قهوة أُنسيَت لذّته بفعل تزاحم الدّردشات الفارغة..
لكنّها تغاير تصوّرك، لتنهالَ عليك بوشوشات من بين الجدران، فتجدَ نفسك سجين الذّكريات.. وما أدراك ما تلك من غرابة التّكهّنات..!
نعم، إنّها ليست برائحة طعام أو شراب، بل هي طاقة جذب غريبة، تخالها سحريّة.. غير أنّها تستوطن الذّاكرة وتنبعث منها وإليها، كما تنبثق الجاذبيّة من أرضٍ تشدّك إليها، ولا مناص غير الاستسلام..
أتعرفون هي ليست واحدة غير أنّها جامعة في وطنها الّذي تقطن فيه.. فقد تجدها في تفاصيل يهزأ الآخرون من سذاجتها، غير أنّها طاقتك أنت لا سواك..
عرفت فتاةً تاهت عشقًا في رائحة تفوح من عنق محبوبها، فتستغرب نفيها من قبل المحيطين، وكأنّها ضرب من الجنون.. لكنّ مقولة الالتقاء بين “العدم والوجود” أصابت في هذا المقام، ذلك أنّها اشتهت ما يروق لروحها غذاءً، لا يستهويه سواها..
كمن يحتفظ بوردة يابسة لا ذابلة فحسب، وتبقى رائحة الذّكرى تعشوشب في أنفه كلّما ألقى عليها التّحيّة، لأنّها الذّاكرة الّتي لا تنسى..
نعم، ذاكرة قد تماثل غيرها في التّسمية، غير أنّها تُسقط عنها مقولات التّخليد.. أوهل يستطيع الإنسان أن يبتكرَ واحدة تحتفظ بروائح الذّكريات، وعبق الوجدان..؟!
لو قرأتم شتّى الخيالات العلميّة، سترسخ في أذهانكم معادلة لا ثاني لها، تُختصر في أنّ إعجاز الخلق يكمن في طاقة الجذب تلك، في طاقة تجعلك ماضيًا وحاضرًا في آن معًا..
فهل شاهدتم يومًا آلة تسجيلٍ أو تصويرٍ وثّقت صوتًا أو صورةً مع رائحة شهيّة..؟!
إنّها وبلا تلك الطّاقة المنبعثة من جدران الذّاكرة تبقى هباءً منثورًا بين الرّفوف، وفي الأدراج.. لذا، تجدُ فاقد الذاكرة لا ينفعل إزاءها، وإلّا أفرغت من طاقاتها في كوامنه..
الرّائحة الشّهيّة طاقة جذب من وإلى عوالمنا الخاصّة.. حتّى سطورنا الّتي نخطّها تبقى طلاسم ما لم تحتكّ بها عقب ختامها.. وتبقى هي الطّاقة السّحريّة المنفعلة وكوامن الإبداع المتباينة بين البشر..
أعرفت يا قارئي، ما سرّها.. ؟!
إنّها مفاتيح الروّح الخالدة..!!
بتوقيت رائحة شهيّة تنبعثُ من ذاكرتي
الذّاكرة الّتي لا تنسى
#ملاك_درويش #بدايتي
الروائية العراقية ساهرة سعيد تعدّ من الأصوات الأدبية المميزة في الأدب العراقي المعاصر. تمتاز كتاباتها بالغوص في عمق التجربة الإنسانية،...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي