“شاي مع ماريو فيتالي” وعبقرية استشراف المستقبل القريب
بقلم: هيام فهيم
خلال مطالعتك لأحداث رواية “شاي مع ماريو فيتالي”، تلمس تجربة واقعية، تكاد تشم ريحها مع كل حدث – المعقول منه وغير المعقول. تجد نفسك أمام مجموعة من اللاجئين مختلفي الدوافع، تجد “ماريو” الكهل الإيطالي، عنصري النزعة، تجد “ليلاف الكردية” الفارة من عفرين، بما تمثله من: أولا: تسليط على قضية الكرد، ثانيا: ويلات الاحتلال، وأخيرا: شعور المرأة اتجاه كل القضايا المتناولة في الرواية.. تجد الضحية والجلاد في مواجهة واختلال واضح للصورة وميزان العدالة.
غير أن “شاي مع ماريو فيتالي” لم يقتصر فيها الصراع بين شخصيات الرواية، بل امتد إلى الكون وعناصره، فمع اندماج القارئ مع الأحداث وتعرّفه بشخوص العمل الأدبي، يجد نفسه أمام شبح وباء في هيئة غبار كونيّ يلوح في الأفق، كأن الكون يثور على البشر ويعصفهم بهبّات إنذارية – لا يفطن إليها إلا العاقل المتبصّر في آيات الله في خلقه.
طالعنا قبل أيام في الصحف المصرية والعربية أخبار العاصفة الترابية التي اجتاحت دول الخليج، فجاء: “وتسببت العواصف الترابية المستمرة منذ أيام فى تعطيل الرحلات الجوية وإغلاق المدارس ودخول آلاف الاشخاص المستشفيات فى مناطق متفرقة من الشرق الأوسط، فى ظاهرة يرجح أن تزداد سوءًا خلال السنوات المقبلة. وخيم الغبار وانعدام الرؤية على العراق والكويت والسعودية وإيران، فى ظاهرة مترابطة يعزوها الخبراء إلى التغير المناخى وقلة الأمطار والتصحر. وفى البحرين، تستمر العواصف الترابية لليوم الثانى على التوالي، بينما قامت بعض المدارس بتحويل الطلبة للدراسة عن بعد، وتسبب الأتربة المصاحبة للعواصف الترابية مشكلات صحية جمة لمرضى الربو والحساسية والأمراض الرئوية المزمنة وأمراض القلب، وكذلك كبار السن والأطفال والحوامل فى عديد البلدان”.
كذلك قرأنا عن ظهور ما يعرف بـ “جدري القردة / القرود”، والذي عرّفته منظمة الصحة العالمية: “جدري القردة مرض فيروسي نادر وحيواني المنشأ (يُنقل فيروسه من الحيوان إلى الإنسان) وتماثل أعراض إصابته للإنسان تلك التي كان يشهدها في الماضي المرضى المصابون بالجدري”.
عبر هذين الظاهرتين الواقعيتين نجد التناص بين الواقع والعمل الأدبي، الذي تلمس أول مظاهره حين تطالع ص136، لتقرأ: “دفعه شعوره هذا لتجاوز اليوم الذي صحي فيه أحمد القرمزي وهو يترقب رد فعل غيره من الناس حوله، يتطلع في الوجوه… يفحص العيون، للتأكد من أن ما يقرأه ويسمعه من أخبار الظواهر الأرجوانية التي بدت تطفو في أكثر من بقعة من العالم، كأنها بثور طفح جلدي، هي ظاهرة لا يراها وحده…”.
كأن الكون قد انتفض وثار على ساكنيه، في أرجاء العالم كافة، لم تقتصر ثورته على منطقة دون غيرها، ولا وطن جريح دون غيره، فكما جمع الكاتب أبطاله من دول شتى، جاء الاختبار الكوني لبلادهم جميعا، فإن طالعنا الواقع وجدنا المتخصصين يصفون العاصفة الغبارية الترابية على دول الخليج “يرجح أن تزداد سوءًا خلال السنوات المقبلة”، فلعله جرس إنذار يٌقرع يبحث عن سامعيه.
فإن انتقلنا إلى ص138، لمسنا الانتقال من العاصفة الغبارية للمظهر الثاني من مظاهر التناص مع الواقع: “الطفح الجلدي” الذي أصيبت به الابنة الصغرى “ريم”، أثر إصابتها بصاعق من عاصفة غبارية، في تقرير واضح لغرابة الوضع وتغير مناخ الخليج في الوقت الحالي وفي قادم الأيام: “صرف نظره فجأة عن التفكير في وجود القرمزي بإيطاليا، سماعه خبر من شقيقه الأصغر بالديار فؤاد الذي حدثه بالهاتف عن إصابة ابنته الصغرى ريم بصاعقٍ غريب من عاصفةٍ غبارية بينما كانت تمارس رياضة الجري بممشى في منطقة السلمانية بالعاصمة ونقلت للمستشفى مصابة برضوضٍ وبقع حمراء في جسدها، تشبه طفحًا جلديًا… أذهله الأمر، فبلاده منذ القدم من الدول الآمنة والبعيدة عن أي نمطٍ من أنماط الظواهر الكونية، فهي خارج حزام الزلازل والأعاصير وغيرها، أقسى ما تتعرض له طوال تاريخها، عواصف وزوابع رملية…”.
ليتابع فؤاد في نفس الصفحة وصفه لموجة الغبار وخائصها: “تعرضنا لموجة غبار غير مسبوقة، تشبه زوبعة خيالية، دفنت كل شيءٍ وجعلته غباريًا… وما زال الناس يعانون من حساسية غير مسبوقة في الجلد، حتى لا تكاد المستشفيات تتسع للمصابين بحساسية مفرطة”.
ومع الانتقال إلى ص139، تتابع التساؤلات في حيرة عن ماهية هذا الوضع المضطرب، أهي نهاية العالم؟!: “هناك مبالغة في الأمر، ما فهمته عن طبيب من العائلة، حدثني منذ ساعات، أن العاصفة رملية وهي من تداعيات موجة عواصف غبارية وإشعاعية غريبة، كانت آتية من جهات عدة، إيران والأردن والعراق حتى السعودية مرت علينا تداعياتها”.”
ما الذي يجري في العالم؟” سأل ناصر رجب بنبرةٍ محبطة…
“ظواهر كونية غير مسبوقة… لعلها نهاية العالم” قال ذلك بسخريةٍ ليخيف الآخر المعروف عنه هلعه من أخبار هذه الظواهر حتى لو كانت مجرد خبر عن الاحتباس الحراري…”.
لنتابع في ص140 مظاهر الوباء “الطفح الجلدي / جدري القردة” في المستشفيات البحرينية: “ماذا حدث في البحرين؟ هل صحيح ما وصلنا هنا عن انتشار وباء الحساسية بهذا الزخم؟”
“تعرضنا لثورة غبار غير مسبوقة ولكن الجميع بخير، لم يشهد الأمر وفيات باستثناء بعض كبار السن ومن يعانون من أمراض التنفس الذين اكتظت بهم أقسام العناية المركزة” رد عليه ابنه سمير وهو صحفي بجريدة الوطن..”.
لتتباع القضايا وتزيد حدة الصراع بين الشخصيات بما تمثله من عدل صريع وظلم تلوح مظاهر هلاكه في عناصر الكون، فننتقل لمشهد تقف فيه فتاتان في استعداد لدفن الأم التي ضربها الطفح الجلدي وتوفيت على أثر تداعياته، لتفاجئ إحداهما الأخرى بإصابتها بنفس الطفح الجلدي، في مشهد ذي وصف بارع ص362: “فكت مرام فستانها الممزق عند الخاصرة، منذ حادثة هذا المساء وظلت بملابسها الداخلية، كان جسمها نحيفًا ومتسقًا وبشرتها تميل للاصفرار، انبعثت شرائح من طفحٍ جلدي، ساحت على مساحاتٍ متفاوتة من أجزاء جسدها…
“يا الله… إنها بعدد النجوم”
صاحت ندا بصوتٍ مفزوع وقد تركت النافذة وقفزت تحدق بكتلٍ حمراء وبقع ملتهبة مع تمزق جلدي بمناطقٍ من جسمها…
“متى حدث ذلك؟”
سألت ندا بنغمةٍ من ارتباك وهلع…
“لم انتبه إلا وجسمي اشتعل بها… كان الأمر أسرع من طرفة عين”
“أخشى عليك مرام، لم يبق لي بالعالم سوى أنت… أليس هذا ما أصاب ماما؟”
سألت ندى باهتمام وقلق بالغ وهي تغرس عينيها في بقع الطفح… ثم اردفت بنبرة مشددة…
“لا بد، وضرورة أن نبلغ بابا… أعرف سينهار ولكن لا مفر من ذلك”
راحت مرام ترتدي فستانًا آخر غير الذي خلعته، كان أبيض قصير وبدون اكمام…
“ماذا بيده ليفعل؟ العالم توقف عن الحركة… دعينا ندفن ماما قبلاً ثم نتدبر أمرنا، سنواجه حياة صعبة، لكن سنجتازها، أنا على يقين”
“تعالي انظري للنجوم، لن تصدقي ما أرى كأنها رسالة لنا من السماء… تعالي مرام أرجوك”.
لتتفاقم الأحداث مع انتصاف الرواية، بتحول السماء إلى مناخ كارثي أشبه بأجواء فيلمٍ خيالي من هوليوود ص363: “هل رأيت المعجزة؟”
سألت ندا دون أن تشارك بالنظر…
“لا أرى الآن سوى قيامة”
“ماذا؟
اندفعت ندا تشاركها النظر، لتفاجأ بتحول السماء والأفق إلى مناخٍ كارثي أشبه، بأجواء فيلمٍ خيالي من هوليوود…”.
إننا مع “شاي مع ماريو فيتالي” نجد أنفسنا أمام عمل ملحمي، يقع في 632ص، متخم بمشاعر ونقضيها في تناغم يجعلك تميل للمقتول مرة وللقاتل أخرى، في محاولة للبحث عن القضية العادلة الحقيقية التي تضيع بين الحزبية والتمييز العرقي والديني والجنسي، بالإضافة إلى ما ناقشناه من تناص واضح مع الواقع في ظاهرة الغبار الترابي / الغبار الكوني، وجدري القردة / الطفح الجلدي.
جدير بالذكر أن “شاي مع ماريو فيتالي” صدرت مطلع شهر مايو / أيار 2022، عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع – مصر، وتعد التعاون الثاني للكاتب البحريني أحمد جمعة مع اسكرايب، بعد روايته “ليلة الفلفل في لوغانو”.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي