القرية الغالية
كان ذلك في الصيف الماضي في يومٍ مشرق كنت فيه أتجول حول القرية التي ترعرع فيها والدي ، رغم جمال الطبيعة ، التي لم ألمسها في المدينة ، كنت أحن إلى شوارع دمشق وحلاوة الحياة فيها ..
أثناء تجوالي رأيت رجلاً جالساً على حجرٍ ؛ إنه شيخ عجوز هرم بيده عصا حيّيته، حاول النهوض ليتابع السلام شكرته وطلبت منه أن يبقى جالساً.. رجل ملامحه فيها وقارٌ، له شوارب متهدلة ، وكأن التعب قد أخذ حقه منه ..
وبقي ساكتاً لا يدري ماذا يقول لي،
إلا أنني أحببتُ أن أتبادل معه الحديث ، إذ يبدو أنه قد عارك الحياة مجتازاً أدغالها .. وشقّ طريقه بين مصاعبها بكل ثقة ..
سمعته يتمتم قائلاً : الحياة تحتاج للإرادة والعمل المتواصل .. تمنيت أن يشاركني حديثه الصامت لكنه أراد ذلك .. قلت ولماذا لا أبادره أنا بالحديث؟
اقتربت منه أسأله : “هل تريد أي مساعدة أيها الشيخ ؟” شكرني بقوة “لا شيء …”
هل أنت من سكان المدينة ؟ نعم كيف عرفت ذلك ؟ أجاب “اللجهة هنا مختلفة عّما سمعت منك – ثم أردف ، إنني لم أرَ المدينة قط ….
أجبته : “لم تخسر شيئاً لعدم زيارتك لها” . فتح عينيه وأخجل الشمس بكفهِ.
المسموع أن المدنية جميلة .(قريتكم أجمل …. لأنها أهدأ )
ارتاحت أسارير وجهه لهذا الثناء ، وظهرت تجاعيد وجهه عندما ابتسم.. قريتنا! إن شبابها يغادورنها إلى المدارس – للتعلم – فلا يعودون إليها .. يطيب لهم العيش في المدينة ودقَّ الأرض بعصاه، وقال: “انا في هذه الأرض منذ ستين عاماً لم أهجرها .. أعجبني ارتباط هذا العجوز بأرضه .. “لأنها تاريخي كله” أكلت من أرضها ، وشربتُ من مائها، وأهلها هم أهلي فكيف لي أن أهجرَها ؟!
ثم انظري إلى هذه المساحات المترامية وراء السور فسيبدو لك جمال الغصون ، وجمال الأفنان عندما تلفح الشمس اشعتها على الأوراق فتبدو زاهيَة.. وهذا الجو الطليق ، والنسيم العطر يتجدد كل لحظة..
حبها يتدفق في عروق أبنائي وفي دمي ..
هذا مما يمنعهم من أن يبرحوها ..
الطبيعة الخلابة تشدهم كل يوم أكثر وأكثر للبقاء فيها ..
