دروبٌ إلى الحياة.
ثريّا فيّاض
جلسَتْ ذلكَ الصّباح على شرفتِها المُطِلّةِ على البحرِ المُمْتَدِّ الواسعِ وأخذَتْ تتأمّلُهُ. أطلقَتِ العنانَ لنفسِها، وفتحَتِ البابَ لِقلبِها، فَشَقَّ طريقَهُ بينَ الأمواجِ وَوَصَلَ إلى تلكَ الأيّامِ المُخْتَبِئَةِ في مفارقِ الحياة، الضّائعةِ في مُنعطفاتِ السّنين. راحَتْ تُطاردُ دخانَ ذكرياتِها المُحترقةِ بِنيرانِ الشَّوْقِ. أخذَتْها ذاكرتُها إلى حيثُ تؤلمُها العودة، سرقَتْها منَ النّسيانِ، أَعادَتْها إلى أيّامٍ اعتقدَتْ أنّها ماتَتْ على مذبحِ الزّمنِ واندثرَ رمادُها في غياهبِ الحنين.
من ذلكَ الشّاطئِ كانتِ البدايةُ. كانَتْ جالسةً في المقهى القريبِ تُحاولُ إتمامَ قصيدتِها الأسبوعيّةِ الّتي تنشرُها في إحدى المجلّاتِ الثّقافيّةِ. كانَتْ تستلهمُ أفكارَها منْ أمواجِ البحرِ المتكسّرةِ على الرّمالِ، المُخَبِّئَةِ في أعماقِها آلافَ الأوهامِ. وبينما كانتْ غائبةً في عالَمِها، لا تدري لِمَ لَفَتَ نظرَها ذلك الرّجلُ القادمُ ناحيتَها. اختارَ أن يجلسَ إلى طاولةٍ قريبةٍ في المقهى.
” وجهُهُ مألوفٌ”، هي متأكّدةٌ أنّها رأتْهُ في مكانٍ ما.
طلبَ فنجانَ قهوةٍ وأخرجَ منْ حقيبتِهِ أوراقًا أخذَ يُقَلِّبُها بهدوءٍ وانتباهٍ وكأنّ أصابعَهُ تحتضنُها خائفةً عليها منَ الضّياعِ.
” إنّهُ لا بُدَّ شاعرٌ يخافُ على كلماتِهِ خَوْفَ الأمِّ على أولادِها”.
وفي غَمْرَةِ ذلك السّحرِ، التقَتْ نظراتُهما. هو أيضًا ارتبكَ، وَسَرَتْ رجفةٌ صغيرةٌ في قلبيهما معًا.
وفي لحظةٍ، ارتعشَتْ أوصالُها. لقد عرفَتْهُ. هو الّذي التقتْهُ ذاتَ مساءٍ بين الصّفحاتِ. قرأَتْهُ في كلماتِهِ، فعرفَتْ أنّهُ لا يُشبِهُ أحدًا وأنَّ سِحْرًا يملأُ أبجديّتَهُ ويُحوّلُها ألفَ حكايةٍ وحكايةٍ. ولكنّها ما عرفَتْ حينَها أنّ سحرَهُ سَيَطالُها وأنّها ستمتلئُ به حَدَّ الطّوفان، وأنَّ غيابَهُ سَيُبَعْثِرُها، فتبقى تائهةً في شوارعِ الصّمتِ تنتظر. لم تعرفْ حينَها أنَّ حضورَهُ وحدَهُ سَيَجْمَعُها، وأنَّ كلامَهُ وحدَهُ سَيُحْييها. نعم! إنّهُ هو! رجلُ الغموضِ والسِّحْرِ، رجلُ الغيابِ والحضورِ، فارسُ الأحلامِ والواقع!
استجمَعَتْ قواها ونهضَتْ متّجهةً نحوه، فهي لن تُضَيِّعَ على نفسِها فرصةَ التّعارُفِ من قُرْبٍ بعيدًا من العالَمِ الافتراضيّ. اقتربَتْ منْهُ، ألْقَتْ عليهِ تحيّةً مُعَطّرةً بِعَبَقِ ورودٍ ربيعيّةٍ بدأَتْ تَتَفَتَّحُ في خيالِها، فَبادَلَها بِأرْوَعَ منْها.
- “مساء الخير أستاذ سامي. أنا يارا، صديقتُكَ على الفايسبوك. عرَفْتُكَ منْ صورَتِكَ. لِيَ الشّرَفُ بِأنْ أقِفَ أمامَكَ وأتحدّثَ معكَ”.
- “الشّرفُ لي سيّدتي الجميلة، تفضّلي أرجوكِ… عندما وَقَعَتْ عينايَ عليكِ شعرْتُ بِأنّي أعرفُكِ منذُ زمنٍ طويلٍ. يبدو أنَّ الأرواحَ تتلاقى في الخفاءِ دونَ إذْنٍ مِنّا، ثمّ يأتي اللّقاءُ وجهًا لِوجهٍ منَ المُتَمّماتِ لا أكثر”.
- “وأنا كذلك أشعرُ أنّني أعرفُكَ من خلالِ كلماتِك. إنّها تُلامِسُ الرّوحَ وَتَسري في أعماقِها فَتَرتجف حُبًّا وأملًا”.
- “وكلماتُكِ سيّدتي أيضًا تجري في النّفْسِ جريانَ الدّمِ في الشّرايين. تَلْبَسُنا فَنَتَقَمَّصُها وبدلًا من أن نَنْطقَ بها تَنْطقُ هي بنا وبِما يجولُ في خواطرِنا”.
- “كلماتُنا ليسَتْ مُلْكًا لَنا، تأبى أن تَظَلَّ سجينةَ أنفسِنا وأوراقِنا، لذلك نراها تتجاوزُن إلى الحرّيّة”.
- ” الكلمةُ جمعَتْنا عبرَ صفحاتِ الفايسبوك وهي الّتي تجمَعُنا الآنَ على هذا الشّاطِئ”.
- “أعتذرُ، عليَّ الذّهاب الآن”.
- سُرِرْتُ جدًّا بِلقائكِ. لقد ساقَتْني الأقدارُ اليومَ إلى أَلْطَفِ نساءِ الدّنيا … بل إلى أجملِهِنّ”.
خَطَتْ بِضْعَ خطواتٍ مبتعدةً عنهُ ولكنّها تفاجأتْ بِقلبِها يقفزُ رجوعًا إليه. هي تُعاندُ قلبَها، وقلبُها يُعاندُها، ولكنّها لن تسمحَ لَهُ بِأن يَفْرِضَ عليها قواعِدَهُ. فتابعَتْ عودتَها إلى يَوْمِيّاتِها مُتَجاهِلَةً دقّاتِهِ المُتَسارِعةَ.
كانَتْ تأوي إلى فراشِها تلكَ اللّيلةَ عندما وَصَلَتْها رسالةٌ عبر “مسنجر”. إنّها رسالةٌ منْ أحدِ مُتابِعي صفحتِها بالتّأكيد. غيرَ أنّها في تلك اللّحظةِ وعلى غَيْرِ عادتِها، لم تعرِفْ سَبَبَ ارتباكِها وهي تفتحُ هذه الرّسالة. وَكَمْ كانَتْ دهشتُها عظيمةً عندما قرأتِ اسْمَ المُرْسِل! عادَ قلبُها إلى الخفقانِ وأخذَتْ يداها ترتعشانِ ارتعاشةَ ورقةِ خريفٍ في مَهَبِّ الرّيح. ما الّذي يحصلُ لها وهي الّتي قرأتْ مئاتِ الرّسائلِ من قبل ولم ترتبكْ يومًا؟!
” مساءُ الخيرِ سيّدتي الجميلة.
كانَ لقاؤنا الأوّلُ مُمَيَّزًا جدًّا، وقد أضفى على أيّامي رونقًا لا مثيلَ له. فَقَدْ صَبَغَها بِأَلْوانِ الحبّ والفرح. سُرِرْتُ جدًّا بالتّعرّفِ إليكِ وأنا على يقينٍ أنّ هذا اللّقاءَ لن يَمُرَّ مرورَ الكرامِ في حياتي”.
ما كادَتْ تنهي قراءةَ تلكَ الكلماتِ حتّى تسمّرَتْ في سريرِها.
- “لقاؤنا الأوّلُ؟! هل سَيكونُ لنا لقاءٌ آخرُ؟!”
شعورٌ غريبٌ استعمَرَها لا تعرفُ كيفَ تُفَسّرُهُ. أَهْوَ الحيرةُ؟! أَهْوَ إعجابٌ سيبردُ نارُهُ بعد يومٍ أو شهرٍ؟! أَهْوَ بدايةُ حُبٍّ سيُزهرُ في قلبِها مدى الحياة؟!… حُبّ؟!… توقّفَتْ عند هذه الكلمةِ طويلًا. صحيحٌ أنّها اِحْتَرَفَتِ الحُبَّ في قصائدِها ولكنّها لم تَخْتَبِرْهُ حقًّا في الواقع. إنّهُ بالنّسبةِ لها شُعاعُ وَهْمٍ يتراقصُ بين الصّفحاتِ، يرسُمُ الحروفَ نجومًا، والكلماتِ كواكبَ، فَتولَدُ من بينِ السّطورِ سماءٌ تمطرُ قصائدَ وروايات. أغمضَتْ عينيها تسابِقُ حُبًّا هو إلى الآنَ حبٌّ في مَهَبِّ الحُلُم.
صارَتْ صباحاتُها تبدأُ برسالةٍ نَصّيّةٍ منه تُلقي تحيّةَ الصّباحِ، تتبعُها محادثةٌ قصيرةٌ قبل الانطلاقِ في رحلةِ يومٍ جديدٍ.
حلَّ مَوْعِدُ لقائهما الثّاني. إنّها في مقعدِها في المقهى تنتظرُ وصولَهُ. أحسّتْ بِخطواتٍ تقتربُ، بدأتْ أنفاسُها تتقطّعُ، وحواسُّها تترقَّب. إنّهُ هو. ربّما هو عطرُ الحبّ بدأ يفوحُ في كيانِها حتّى عرفَتْهُ قبلَ أن تراه. تبادلا التّحايا والكلماتِ الرّوتينيّةَ وجَلَسا مُتَقابِلَيْنِ. بعد برهةٍ من السّكوتِ وَمِنْ دونِ مقدّماتٍ سمعَتْهُ يقولُ:”أُعْجِبْتُ بِكِ حين رأيتُكِ، أحْبَبْتُكِ حينَ تبادلْنا الأحاديثَ، وأحبُّكِ الآنَ بِكلَّ جوارحي، وَأُمنيَتي أن تَتَّحِدَ دروبُنا المستقبليّةُ”. نزلتْ عليها كلماتُهُ كالصّاعقة. تلعثمَتْ. لقد خذلَتْها لغتُها لِأوَّلِ مرّةٍ في حياتِها، وهي الّتي لَطالَما كانتْ تُطَوِّعُ حروفَها وتبني منها كلماتٍ على هواها. أخذتْ همساتُهُ الدّافئةُ تُشَتِّتُ سكونَ أحاسيسِها المُخَيِّمَ من سنين، وتتمتّعُ بضجيجِ صمتِها تلك اللّحظة. بَقِيَتْ صامِتَةً، وبقيَتْ نهايةُ اللّقاءِ مفتوحةً على جميعِ الاحتمالات.
“عيونُنا تعانقَتْ منذ البداية بعد أن تلاقت أرواحُنا عبر الصّفحات”. راحَتْ تفكّرُ بينها وبين نفسِها. أحبّتْ نفسَها أكثر، أحبّتْ كلَّ ما حولها وتصالحَتْ مع الدّنيا. لا بدَّ أنّهُ الحبّ! هو الّذي كتبَتْ عنه يومًا أنّه القوّةُ الخفيّةُ الّتي تُحْيي قلوبًا تَعَوّدَتِ الموتَ في أجسادٍ متحرّكةٍ، وأنّه النّبضُ الّذي يسري في العروق الظّمأى فيبعثُ الحياةَ من تحتِ الرّكام… صار دومًا يُسْمِعُها أحلى الكلام. وكم من كلماتٍ صغيرةٍ منَ الواقعِ ترسمُ لنا عالَمًا كبيرًا عذبًا يصبحُ فيه البعيدُ قريبًا، والغريبُ مألوفًا، والمستحيلُ ممكنًا!… أحبّتْ ورودَهُ الصّباحيّةَ المُذَيّلةَ دائمًا برسالةٍ صغيرةٍ:”أهدي هذه الباقةَ منَ الورودِ إلى أجملِ وردةٍ تَفتّحَ لها قلبي حُبًّا”. طَرَحَتْ خوفَها بعيدًا، واستسلمَتْ لفارسِها الآتي على صهوةِ الكلماتِ. راحا معًا يحلّقانِ على أجنحةِ الفرحِ فوق الغيماتِ، يُدندنانِ أجملَ الأغنيات. نَسِيَتْ كلَّ شيءٍ وَلَمْ يخطرْ ببالِها أنّها يمكنُ أن تعودَ مَنْسِيّةً كما كانت دائمًا. كلُّنا نزرعُ الكثيرَ منَ الأحلامِ في حقولِ أيّامِنا وننسى أنّ القدَرَ يتربّصُ بنا دومًا فيغتالُ معظمَها على دروبِ الحياةِ ولا نحصدُ منها سوى أطيافٍ… وذكريات.
كانَ كلُّ شيءٍ عاديًّا ذلك المساء. شوارعُ المدينةِ فَرِحَةٌ بِزائريها، تستمعُ إلى أحاديثِهم بِصَمْتٍ صاخبٍ وَهُم يتابعون تفاصيلَ حياتِهم رغمَ ظروفٍ اقتصاديّةٍ ومعيشيّةٍ غيرِ مسبوقةٍ. وفي لحظاتٍ تغيّرَ كلُّ شيءٍ.
استفاقَتْ يارا مذعورةً على صوتِ دويٍّ اهتزّت له أوصالُ الوطن، فاهتزّت معه المشاعرُ والأفئدة. هرعَتْ إلى الشّرفةِ لِتَجِدَ أنّ الزّجاجَ قد تطايرَ هنا وهناك. خرجَتْ لِتَتَبَيَّنَ ما يحصلُ: لا شيءَ سوى أجسادٍ تتدافعُ هربًا دونَ وَعْيٍ إلى أينَ تهربُ أو مِمّا تهربُ. دخانٌ، دمارٌ، دماء… وحدَهُ الضّياعُ عرفَ طريقَهُ آنذاك.
- بدأَتِ الحربُ. اهربوا واختبئوا، هناك طائراتٌ حربيّةٌ في الأفق.
- إنّه زلزالٌ مُدَمِّرٌ. هو غضبُ الطّبيعةِ حلَّ علينا.
- إنّه اغتيالٌ سياسيٌّ، ولا نعرفُ بَعْدُ مَنِ المُسْتَهْدَف.
كَثُرَتِ الفَرَضيّاتُ حينَها والمُؤكَّدُ واحد. إنّه اغتيالٌ لأحلامِنا بحياةٍ أفضلَ ولآمالِنا في وطنٍ يحتضنُ الحقَّ والخيرَ والجمال لا غير. ثمّ وصلَ الخبرُ اليقين: إنّه حريقٌ في المرفأ سبّبَ اشتعالَ موادَّ متفجّرةٍ!!!
“يا الهي! إنّهُ الطّريقُ الّذي يسلكُهُ سامي عادةً في مِثْلِ هذا الوقت!” صرخَتْ يارا. تناولَتْ هاتفَها وطلبَتْهُ. الهاتفُ يرنُّ… ويرنُّ… ويرنُّ… اندفَعَتْ تركضُ في الشّارعِ لا تعرفُ إلى أين تتوجّهُ بالضّبط، تتعثّرُ بالرّدمِ مرّةً وبالأشلاءِ المتنقّلةِ مرّةً أخرى. نعم، حتّى وإن كانتِ الأجسادُ صحيحةً متحرّكةً، فالأرواحُ الّتي تسكنُها أشلاءُ متناثرةٌ بينَ حجارةِ الوطنِ وشوارعِهِ. ما زالَ الهاتفُ لا يُجيبُ. حالُها حالُ الجميعِ، فالكلُّ يبحثُ عن قريبٍ أو حبيبٍ أو صديق… غصَّتِ المستشفياتُ بالجرحى، وببقايا حياة. ما أقسى ما رأته وما سمعته!
- “هل رأيتم ولدي؟ عيناه عسليّتان جميلتان واسعتان، إنّه ابني الوسيم”.
- “تعالَيْ يا خالة، سأساعدُكِ في البحثِ عن ابنك”. أجابَ أحدُ المُسْعِفينَ وَدَمعةٌ خرساءُ تَقِفُ في عينَيْهِ تُقاوِمُ السّقوط.
- “أفتّشُ عن أخي وأبي، هما يعملانِ في هذا المحيط”.
- “لي أختي هنا، هي ممرّضةٌ”.
- “خطيبتي كانتْ معَ فَوْجِ الإطفاء، أريدُ أن أطمئنَّ عليها”.
كلُّ الأماكنِ في ذهولٍ، كلُّ النّاسِ في ذهول. إنَّ ما حصلَ يفوقُ الوصفَ ويتخطّى كلّ الكلام. إنّه إعصارٌ من نوعٍ آخرَ. إعصارٌ تتبرّأُ منه الطّبيعةُ والإنسانيّةُ. باحاتُ المستشفياتِ تحوّلَتْ إلى غُرَفِ طوارئَ متنقّلةٍ وإلى غُرَفِ عمليّاتٍ مؤقّتة.
كانتْ يارا في خضمّ هذا كلِّهِ تمشي صامتةً ولها أملٌ وحيدٌ أن ترى سامي بين الأجسادِ الممدّدةِ على الأرضِ وعلى المقاعدِ والكراسي بانتظار دورِها لمعالجة جروحِها. جروحُ الجسدِ تُعالَجُ وتُشْفى، ولكن، جروحُ الرّوحِ مَنْ يُداويها؟ وهل تُشْفى حقًّا؟! خائفةً منَ الآتي، تابعَتْ رحلةَ بحثِها. مرّتْ بالمستشفياتِ القريبةِ وبكلِّ الوجوه ولكنّها لم تتبيّنْ وجهَ حبيبِها. يُعتَبَرُ إلى الآنَ منَ المفقودين. على الأقلِّ لديها أملٌ بأنّهُ حيٌّ. راحَتْ تعزّي نفسَها بهذه الفكرة: “نعم، إنّه حيّ”.
هذا المساءُ كانَ نقطةَ تَحَوُّلٍ في حياةِ الجميعِ. لن يعودَ أيُّ شيءٍ كما كانَ قبلَه. الأذى مسَّ الجميعَ دون استثناء. ها هي المدينةُ تبكي حجرَها وناسَها، تبكي بِحُرْقةِ أمٍّ تركَها أبناؤها لِمصيرِها. إنّها لم تتوقَّعْ يومًا أن يَحُلَّ بها ما حلَّ. هجرَها الفرحُ، سكنَها الحزنُ كما سكنَ كلَّ الوطن. إنّها ضحيّةُ ضمائرَ مَيْتَةٍ ومصالحَ ضيّقةٍ. وَوَسط هذا الانكسار، وقفَتْ يارا حائرةً، مرتبكةً، خائفة، ما بِيَدِها سوى الانتظار، وما أقساه! ما أقسى ذلكَ الانتظار الّذي يرمينا على ضفافِ الحياةِ نتسوّلُ المعجزات!
وما كانت تخشاه تأكّد. سامي ضحيّةٌ أخرى انضمَّتْ إلى قافلةِ ضحايا هذه الجريمةِ البشعةِ بكلّ المقاييس، ضحايا لا ذنبَ لهم إلّا أنّهم أبناءُ وطنٍ تنكَّرَ له الكثيرون، أحبّهم فخانوه، أعطاهم فباعوه. تجمّدَتْ أوصالُها، شُلَّ تفكيرُها، لم تنطقْ بكلمةٍ واحدة. فجأةً بدأتْ تصرخ وتُعْوِلُ وكأنّها استوعَبَتْ أخيرًا ما يحدث.
توالَتْ عليها الشّهورُ طويلةً كئيبةً، أحسّتْ خلالَها كأنَّ عمرَها أيّامٌ تتلاشى وتتساقطُ من روزنامةِ الزّمنِ، الواحد تلو الآخر، مُطْفِئَةً معها كلَّ شعورٍ بالسّعادة، مخلّفةً وراءَها الفراغ. ابتعدَت عن أوراقِها وقلمِها. حتّى القلمُ باتَ قاصرًا عن أن يحملَ حبرُهُ أحزانَها، والورقُ باتَ عاجزًا عن استيعابِ كلِّ ذلك الألم.
- “حبيبتي، ما مَرَرْتِ به قاسٍ جدًّا، ولكن عليكِ أن تكوني قويّةً لتواجهي الحياة. فهي ستستمرُّ ولن تقفَ عند أحد”. قالت لها إحدى صديقاتِها اللّواتي لم يتركْنَها أبدًا في مصابِها.
- “صحيحٌ أنّ الحياةَ تكملُ مسيرتَها ولا تقفُ عند أحد، ولكنّها تكملُ بفارقٍ وهو أنّ كلَّ شيءٍ يصبحُ بِطعمٍ مختلف. فالفرحُ يكسوهُ صقيعُ القلبِ لِيصبحَ ثلوجًا متراكمةً بنكهةِ الحزنِ، والضّحكةُ تغطّيها سُحُبُ الفراغِ لِتصبحَ ابتسامةً صفراءَ بنكهةِ الكآبة. في الواقع، الزّمنُ هو الّذي يكملُ دورتَهُ ولا يتوقّفُ عند أحد، في حينِ أنّ الحياةَ تفرغُ من معانيها فتهجرُ قلوبَنا وترمي بنا على هوامِشِها نجوبُ أرصفةَ النّسيانِ لعلّنا نُوَفَّقُ يومًا بِجَعْلِهم صُوَرًا مرَّتْ في حياتِنا”.
- “لن ننسى شيئًا مِمّا قد حصلَ معنا يومًا. ولكن، مع الوقتِ، نتقبّلُهُ ونتعايشُ معه ونتعاملُ معه لنتخطّاه… ونكمل”.
- “حبّذا لو نستطيعُ أن ننزعَ عنّا مشاعرَنا كما ننزعُ ثيابَنا، لَما كنّا أعدْنا ارتداءَها أبدًا. حبّذا لو نستطيعُ أن نخلعَ ذاكرتَنا ونرميَها كما نرمي أشياءَنا القديمةَ، لَما كدّسْنا فيها ما يُرهقُنا”.
- “ليتَ هذه الحياةَ قصصٌ تَخُطُّها أقلامُنا، لَكُنّا جعلْنا مسرحَها عالَمًا يَسَعُ أحلامَنا وطوحاتِنا، كنّا رسمنا أحداثَها حسبَ هوانا، وتحكّمْنا بِمصائرِ أبطالِها وشخصيّاتِها حسبَ أمنياتِنا. لو كانتِ الحياةُ قصصًا لأغلقْنا فصولَها على أجملِ النّهايات… ولكنّنا لسنا فيها سوى أحجارٍ على رُقَعِ شطرنج، وكلُّنا، جنودًا كنّا أم قلاعًا، ملوكًا أم حاشية، تُحرّكُنا أيادي القدرِ الخفيّةُ فيخرج في كلّ مرّة ملكٌ من دائرة اللّعبة… هذه هي الحياةُ يا صديقتي مليئةٌ بالتّحدّياتِ دومًا، وأمامنا أن نتعاملَ معها إمّا بِسلبيّةٍ فنغرقُ فيها، أو بإيجابيّةٍ فننجو بما تبقّى لدينا من طاقاتٍ”.
نعم، الحياةُ تحديّاتٌ وهي ستقبلُ التّحدّي. لن تستسلمَ لليأس. لن تستسلمَ للموتِ القادمِ في وطنٍ جريحٍ يقاومُ كلّ يومٍ من أجل البقاء. نعم، ستجمعُ أشلاءَها المبعثرةَ في دفاترِ الذّكرياتِ، وستركَبُ عجلةَ الأيّامِ الهاربةِ إلى الأمام حيث وحدَه الأملُ يليقُ بالمستقبل، حيث وحدَها الحقيقةُ ستسطَعُ تحت الشّمس. ستعودُ إلى أحبّائِها وإلى قرّائها وإلى الّذين خذلَتْهمُ الحياةُ وصارَتْ هي صوتَهم . وأمامَ هذا الشّعورِ الّذي اجتاحَها فجأةً، تناولَتْ حاسوبَها؛ فتحَتْهُ وراحَتْ تخطُّ إليه :
“إلى سيّدِ قلبي…
إليكَ حبيبي، أكتبُ رسالتي لِأَبدأَ رحلتي في متاهاتِ النّسيانِ لعلّني أحظى بِمكانٍ لَسْتَ فيه، بِحكاياتٍ لسْتَ بطلَها، بِعَيْنَيْنِ لسْتَ بَريقَهما، بِأحلامٍ ليسَتْ أنت.
بالأمسِ، دخلْتُ عالَمَكَ بهدوءٍ عاصفٍ، وفي غفلة منّي رأيْتُني أحلّقُ في سماءِ حبِّكَ كالفراشاتِ. في مجالِسِ قصائدِكَ أضعْتُ نفسي، في ساحاتِ كلماتِكَ هدمْتُ أوّلَ أسواري، وعند أعتابِ قلبِكَ خسرْتُ آخرَ دفاعاتي.
وها أنا اليوم، سأخرجُ من عالَمِكَ بِعَصْفٍ صامتٍ، وحالي حالُ الأرضِ بعدَ أن نالَتْ منها الزّلازلُ والبراكينُ… والانفجار.
سأذكرُكَ فرحًا يداعبُ أحلامي، بريقَ أملٍ يُتَوِّجُ أيّامي، وَهْجَ حُبٍّ يُدفئُ أعماقي”.
أنْهَتْ رسالتَها وخرجَتْ إلى شرفتِها. فَرَدَتْ يديْها معَ الرّيح، ملأتْ رئتيْها أملًا وتفاؤلًا ثمّ زفرَتْ آخرَ تنهيداتِ الألم.
ارتَدَتِ الابتسامةَ من جديدٍ، وراحَتْ تخطو أولى خطواتِها إلى النّسيانِ في دروبٍ هي في الواقعِ… دروبٌ إلى الحياة.
______________________________________________
الاسم الثّلاثيّ: ثريّا توفيق فيّاض
تاريخ الميلاد: 26/3/1975
مكان الإقامة: بشتفين – الشّوف – جبل لبنان
رقم الهاتف: 71303087
العمل: مدرّسة لغة عربيّة
الوضع الاجتماعيّ: أرملة
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي