أمتّه لأحيا
بعد أن شيّعت نظراتي حبّنا إلى مثواه الأخير، ونثرت التراب فوق كفن الهوى، رحت أستذكر رحلة الآلام؛ كنت دائمًا أخاف من لحظة البعد والفراق، أتوتّر عندما أفكّر أنّني لن أكون معه ذات يوم، أو أنّ كلّ شيء بيننا سينهار ويزول. لعلّي عرفت من البداية أنّ أساسات علاقتنا واهية، أو على الأقل من طرفه.
كان دائمًا يردّد:” إنّنا معًا حتّى الموت، ولن يفرّقنا أحد، أنت المرأة الوحيدة التي امتلكتني، واخترقت ذرّات وجودي. تعرفين تفاصيل حياتي. لم أحب امرأة كما أحببتك”. وأنا أُصاب بالنشوة إزاء تلك العاطفة. لكن هناك أمرًأ ما كان دائمًا يخيفني، لعلّه طبعي الذي اعتاد عدم الثقة بأحد، أو ربما هي السعادة التي نستكثرها على أنفسنا، فهل من الممكن أن نبقى سعداء من دون قلق، أو توجّس؟
رحلة العذاب تلك بدأت عندما راحت اتصالاته تقل؛ ففي حين كان يمضي يومه معي على الموبايل، صارت الاتصالات تتراوح بين مرتين أو ثلاث مرات يوميًّا، ثم صار يكتفي باتصال واحد إلى أن بدأ الكلام بيننا يتقطّع كأنّنا لم نعد نجد ما نقول. أنا أتذمر وأشكو من قلّة الاتصالات، وهو يتأفّف من شكواي، وينصحني:” تعلّمي الطبخ. لم لا تطبخين؟ هل تعتقدين أنّ هذا الأمر يقلل من شأن المرأة المثقّفة؟” وأنا أسكت ولا أجيب. كنت أفهم أنه يريدني أن أتوقف عن انتظاره؛ لأنّه يريد أن يقطع الاتصالات، أو لعله لم يكن يريد أن يقطعها كليًّا، كان يريد لتلك الاتصالات أن تقل. وأنا كنت أصمت، لم أكن أصمت لعدم قدرتي على الرّد، أو لأنّني ضعيفة تجاهه، إنّما لأنّني كنت قد عاهدت نفسي أن أبقيها معزّزة مكرّمة ولا أفرضها على أحد. من يردني فليبق، ومن يرد الرحيل لن يتعب في فتح الأبواب، سيجدها مشرعة. وهو نفسه اكتشف ذلك. سألني ذات مرّة:” لمَ لا تفعلين شيئًا لأبقى؟ لمَ لا تتصلين عندما تشتاقين؟” كنت أجيب باختصار:” أنا هكذا”.
مضى كلّ منّا في طريقه، لكنّ طريقي لم يكن معبّدًا، كان دربًا طويلًا، شاقًّا ومتعبًا. كانت الذكريات تحفّ به من كلّ جانب، كأنّ الذكريات بنايات شاهقة، لم أستطع أن أحجبها من مجال رؤيتي. كنت أتخيل أنني أطلق عليها القذائف والصواريخ وأهدمها، وتصير دمارًا وركامًا؛ لكن رحلتي مع الخيال كانت قصيرة فيتراءى لي أنها تهزأ بي وها هي في كلّ مرّة تعيد بناء نفسها فجأة وبقوة وأكثر صلابة من ذي قبل.
لم أستطع أن أتوقف عن حبّه. حاولت أن ألهي نفسي بوسائل التواصل، رميت نفسي في ميدانها الرحب، بدأت أتعرف إلى المشرقي والمغربي والعربي والأجنبي، فالفيسبوك عالم رحب، يضمّ نزلاء كثر لكنّ بوصلتي كانت تتوجه دائمًا إلى مكان آخر مع أنني وعدت نفسي بأنّني سأحبّ مرّة أخرى فلطالما كنت من أنصار المقولة: وما الحبّ إلّا للحبيب المقبل.
وجدت كلامي هذا ترّهات وخرافات، فعزمت على تخفيف عنفواني وتبنّيت مقولة أخرى، وهي أنّ الإنسان يحبّ أكثر من مرة مع أنّ هناك حبًّا يبقى بصمة، ووافقت أن يكون حبّه الأقوى والبصمة. لعلّي بذلك أعطي نفسي أملًا، أعلّل روحي بحبّ جديد، فالحياة من دون حبّ مملة ومقيتة. وأنا أردت أن أبحث عن حبّ جديد لأنتقم لنفسي من حبّها له: إذ كيف تصون من خان؟ وكيف تفكّر بمن سلاها؟ وكيف تتألّم لأجل من جرح ومضى؟
حاولت أن أنساه؛ لكن النسيان خانني وأبى أن يصاحبني، فبدأت أتأقلم على فكرة البعاد لا النسيان. عرفت أنّ حبّه ما زال متسلّطًا، وقرّرت أن أستسلم لهذا الشعور بطريقة جديدة لا أعرف كنهها، لا أدري أهو استسلام وجبن، أم تأقلم وتعايش؟
وجدتني أشبه امرأة مات زوجها الذي تحبّ وتهوى فلا هي قادرة على نسيانه ولا على استعادته، عندها قرّرت أن أصادق هذا الحبّ، ولا أتنكر له، صرت أعوّد نفسي على الدعاء له من بعيد، وعلى الاشتياق، والكتمان والرجاء بأن يكون سعيدًا وإن كان بعيدًا، فأنا ما زلت أحبّه وسأبقى؛ لكنني لن اعود إليه حتى لو كان الرجوع خياره، لأنّ من يهجرك مرّة سيعيد ذلك ألف مرّة، وأنا لا أرضى أن أعود ضعيفة، عودتي إليه هي عودة المهزوم المنحني والمثقل بخيبات العشق وأحوال الغرام، وأنا لا أستطيع إلا أن أكون أنثى يدلّلها رجلها، ويعمل جهده لإبقائها وإرضائها، وبابتعاده عنّي استنتجت أنّ أهميتي في حياته ما عادت كما كانت، وإن بقي يؤكّد في لقاءاتنا القليلة بعد الفراق أنّني حبّه الأقوى.
أنا الآن لست حزينة ولا سعيدة، مشاعري في حالة ضياع بين الإيجاب والسلب. لعلّها متجمدة، لكن قراري بعدم العودة نهائي لا رجعة فيه؛ لأنّ العودة إلى الماضي ستحمل معها أشواك الانفصال وأسى البعاد.
كنت أطلب منه دائمًا وأنا بين ذراعيه: إن فرّقتنا الأيام، وسار كلّ منّا في طريقه، وحصل والتقينا لقاء الغرباء، وسألتك إن أحببتني ذات يوم فليكن جوابك نعم.
كان يشدّني إليه، وينظر في عينيّ ويقول: بل سأقول لا، لأتركك تعيشين من دوني بسلام، صعبّ أن تفكّري بشراء أثواب جديدة وأنت تصرّين على الاحتفاظ بثوب لا تنزعينه عن جسدك.
وعندما يلحظ لألأة الدموع في عيني كان يرتشف تلك الدموع ويشدني أكثر، ثم يضربني على رأسي ضربة خفيفة محبّبة ويقول:” لماذا تسألين فنحن لن نفترق أبدًا”.
أمّا الان وأنا على حافة النسيان لن أسأله بل سأسأل نفسي: هل أحبّني يومًا؟ وسأجيبها: لم يحبني أبدًا.
بقلم الدكتورة هدى المعدراني
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي