نكتب لننسى/ د. هدى معدراني
بين شهيق وزفيرتبقى على قيد الحياة؛ شهيق يُدخل الهواء إلى رئتيك، وزفير تخرج بوساطته السموم من الجسم، وتحصل الدورة التنفّسيّة.
وحياتك أنت دوّامة بين شهيق وزفير. شهيق يتمثّل بالتجارب التي تعيشها، بكلّ ما تحسّ وتسمع وترى، وكأنّ جوارحك عدسات كاميرا مصوّبة تجاه كلّ شي حولك، تلتقطه عن وعي، وقصد، وإدراك أو من دونها. والنتيجة أنّ هذه المرئيّات والسمعيات تتحوّل إلى مادّة تشكّلنا.
لذا لا بدّ لهذه المحسوسات والإدراكات من فضاء يحتويها، ومن حسن طالع المرء، أو من طبيعة تكوينه، أنّ في جعبة كلّ واحد منّا حقيبة غير مرئيّة للعيان ولا حتّى لنفسه، تتكدّس فيها ما تلتقطه أعيننا، وتسمعه آذاننا، وتختبره حواسنا، وتعيشه عواطفنا، وتدركه عقولنا، ويتراءى في مخيّلاتنا ومخيالنا.
تمتلىء هذه الحقيبة، التي سنطلق عليها اسم حقيبة الأحداث والأفكار، وبفعل الزمن، الأصح أن نسمّيها حقيبة الذكريات. تمتلىء حقيبة الذّكريات نتيجة عملية الشهيق الذي يزوّدنا بالأكسجين لنعيش، وبالتالي بالحياة وحوادثها، إذ مع ذرّات الهواء تدخل الأحداث وتتراكم، وتتلاقح مع ما سبق ولحق، وتتكاثر، وتبني لها غرفًا وأبنية، لكنها تتزاحم ويضيق بها المكان، فتبدأ عملية إعادة التدوير والترتيب والبناء، فمنها ما يُعاد تشكيله، ومنها ما يتقلّص حجمه، ومنها ما يتغيّر مكانه، وينتقل من المقدّمة إلى الخلف، ومنها ما يتوارى وينزوي في زوايا مهمَلة نظن مخطئين أننا تخلّصنا منها، ومنها ما لا بدّ من قذفه إلى خارج الجسم والروح.
يكتظ المكان، وعلى الرغم من سعي هذه الحقيبة جاهدة لترتيب الغرف إلّا أنّها تتعثّر، لأنّ المكان ما عاد قادرًا على استيعاب المزيد، فتبدأ الجدران بالتشقّق، وتتسرّب الذكريات وتنزلق، ويضيق الإنسان ذرعًا بهذه الموجودات، فتأتي عمليّة الزفير لتنقذه، ويتبلور صداها في الكلام وزلّاته، وفي الأفعال والكتابة.
يخفّف الكلام الضغط المحبوس داخل النفوس، تساعد الرياضة على التخلص من الطاقة السلبية، والكتابة فعل كلام يخلّص الإنسان من الهواجس الكامنة في الأعماق، وتتحوّل إلى آلية علاج يعقبها شفاء، إذ نحن نكتب أنفسنا، وتجاربنا، وأخبارنا، وحياتنا، وكلّ ما حصل معنا، وما يعتمل داخل ذواتنا، وما يؤثّر فينا سلبًا وإيجابًا. ولا يمكننا أن نتخلّص من تلك المكبوتات إلّا إذا أفرجنا عنها، وتصادقنا معها، وعبّرنا عنها بحياد، وإن كانت الموضوعيّة، هنا، وهمًا، والذاتية هي الوحيدة التي تتربّع على عرش الذكريات، فتغلّف حقائقنا وحياتنا ووجودنا.
لعلّنا، إذن، نكتب لننسى، أو نكتب لأننا نريد أن ننسى، ونريد أن نؤكّد لأنفسننا أننا شفينا. وهكذا تكون الكتابة علاجًا، وطريقًا نحو الخلاص، ومصالحة مع الذات، وعقد هدنة طويلة المدى مع الماضي الذي تجعلك الكتابة تتقبّله أو تنظر إليه بمنظور جديد.
قد يقول أحدهم إنّ الكتابة استرجاع للذكريات، وبالتالي هي حنين وتحيين، وإعادة الماضي في الحاضر. قد يكون هذا صحيحًا، لكن إن تمسك القلم، وتكتب الماضي يعنِ أنّك اتخذت قرارًا بشأنه، ستلبسه كلماتك وتشي به حروفك، وستسمع تنهداتك من بين الكلمات التي ستخلّصك أصواتها من الصراخ المكبوت داخل صدرك، وحتمًا أنت ما بعد الكتابة مغاير لأنت ما قبلها، فأنت عندما أفرغت ما في جعبتك ارتحت، تقاسمت المشاعر مع الكلمات والدّواة والأوراق . صارت كلها شريكة لك، تعيش معك الانتصار والهزيمة، الفرح والحزن، باختصار لم تعد وحدك الذي يتحمّل أثقال صدرك. ليس هذا فحسب، لقد فقدت حقّك الحصري في ملكيّة الذكريات، انتقلت الملكية إلى مالكين جدد سيتفاعلون معها بطريقتهم الخاصة. حتى أنت كاتب الكلمات، ما إن تنهِ الكتابة وتتحوّل إلى قارىء حتى تقرأ ما كتبت بروح جديدة، تتذوّق الكلمات بنكهة جديدة لانك ستقرأها من منظور القارىء لا الكاتب، ستنسى أنك أنت من عاش هذه الأحداث، وستقيّمها بطريقة جديدة. وعلى هذا تشبه الكتابة الدموع؛ فكما أن قدرة المرأة على البكاء تمنحها القدرة على التخلّص من أحزانها ومآسيها، وبالتالي يزيد عمرها لذلك ينصح الأطباء بعدم قمع نزعة ذرف الدموع، الأمر سيّان في ما يخصّ الكتابة، لا تترك المشاعر تتغلغل في داخلك، وتعشّش هناك، عبّر عنها لترتاح ولا تكن عصيّ الدمع ولا التعبير.
يأخذنا هذا الكلام إلى مسألة غاية في الأهمية تتجلى في السؤال الآتي: هل نكتب للآخرين أو نكتب لذلك القارىء الضمني الأول الذي هو نحن؟
إذا كنّا نكتب لنكون أوّل من يقرأ، تكون الكتابة شفاء وتمرينًا في طريق السعادة، لأنّ ما إن تخطّ مشاعرك على الورق حتى تقطع صلتك الأبويّة بها، وما إن تنهِ فعل الكتابة حتى تكون قد بدأت خطواتك على طريق السعادة لأنّك بالكتابة وبتحوّلك من كاتب إلى قارىء قطعت العلاقة مع مصدر ألمك.
أخيرًا، وكما أنّه لا يمكنك أن تمسك الزفير أو تمنعه، لأنك حينئذ ستكون في عداد الأموات، كذلك الأمر بالنسبة إلى خزان الذاكرة لا بدّ من إعمال الزفير لتتخلّص من الذكريات لأن الذاكرة تمتلئ وتَتعَب وتُتعِب ما لم يتم إفراغها.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي