على هامش الحياة للأديبة جمال عبيد – بين الذات والموضوعية*
حين أطالع كتاباً أسأل نفسي سؤالًا يلاحقني منذ الصغر.. ماذا أستفيد من قرآءته وما الذي يضيفه؟ وإنْ صح التعبير، هل يستحق القراءة أم لا ؟
والسبب في ذلك أنني من كثرة ما قرأت اكتشفت، ولعلك مثلي اكتشفت هذا أيضاً، أنَّ معظم الكتب ينقل بعضها من بعض، بل ربما تجد الكاتب الواحد ينقل في كتبه ويسود الصفحات بموضوعات متكررة من أجل الكتابة فقط، وأنت حين تقرأ كتابا وتسأل مثلي هذا السؤال، فتكون بذلك قد نجوت من تسليم عقلك للكاتب وما يكتب.
إنها الحرية الفكرية التي تفتقد في وطننا العربي، والسبب منذ البداية أن التعليم صار كجهاز الحاسوب، مدخلات و مخرجات وتتحكم فيه السياسة بلا أدنى شك، وقليل من ينجو من هذا الداء العضال.
ومن السهل أن تقرأ ومن السهل أن تفهم ومن السهل أن تكتب، ولكنَّ الصعوبة الحقيقة تكمن في ما يجب أن تقرأ وكيف تكون القراءة النقدية وكيف تكون فيها روح الحرية، بعيدا عن الأفكار المسبَّقَة والقوالب الجامدة التي حشرت النقد في زاويا غربية و استباقية.
في كتاب على هامش الحياة للأديبة جمال عبيد مجموعة من المقالات التي تحمل روح الأدب و روح السرد و روح الجمال، تجعلك وأنت تقرأ تنفعل ولا تسطيع السيطرة على انفعالك إلا بعد إتمام القراءة.
وفي حضرة الحكي الذي غلِّف المقالات بروح الجمال و الأدب، وتداخلت المقالات مع القصة والسرد الماتع لا نملك إلا أن نقف خاشعين.
والعلوم بلا أدنى شك، لا سيما الأديبة أصبحت متداخلة، الشعر فيه من المسرح والقصة، والقصة فيها من الشعر والمسرح ، وهكذا صار الفن إن صح التعبير (كوكتيلا) .
إن الكتابة لها قواعد للتعلم وقوانين ولكنها عند الإبداع شيء آخر. إن الكتابة قوة دافعة تنَّمي شعورنا وقلوبنا لنخرج ما بداخلنا من أفراحٍ و أتراحٍ وأعماق سحيقة حتى لا يعترينا شعور أننا لا شيء.
حلقت جمال عبيد في مقالاتها وغردت على أيك الإبداع وكتبت في كل شيء بأسلوب أدبي خال من الوعظ والخطابة و الرتابة. كتبت عن طائر الحسون، الحنين لدمشق، القرية الغالية، المرأة، الوفاء، الغربة الصمت، الدموع، الرجل، الشيب، الجمال، التعليم. كل هذا الجمال بأسلوب أدبي يميل أحياناً إلى السرد وقالب القصة القصيرة. تذكرنا بالمنفلوطي والعقاد وأحمد حسن الزيات و محمد رجب البيومي و القائمة تطول فهي لاتكتب مقالا بشكله المعتاد، إنما بروح الأدب و جمال الأديب وصوره البلاغية والفنية الماتعة. فهي حينما تتحدث عن الألم تخاطب شجرة ذابلة كناية عن الإنسان الذي أذبله الألم وحطمه، ولكنها تستحضر فيه وفي الشجرة روح الحياة وإعادة النمو والفرح .
إن السماء تمطر والمطر حتماً سيعيد للشجرة حياتها فحق لها أن تفرح.
أستمع إليها :حتى الغيوم المتبلدة في السماء تضيق بسوادها فتحرك جمودها لترسم على طبقاتها شقوقا ينبعث منها أجمل الابتسامات. و النجوم تزداد جمالاً وتتلألأ على وجه السماء في عتمة الليل فيبرق الألم ليرق الشعور وليتحول لودِّ وحبور(سعادة) ، وليخرج الماء من الصخور والماء هو سرُّ الحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)
ثم تعرِّج الكاتبة على دانتي شاعر إيطاليا صاحب الكوميديا الإلهية استدعاءً لروح الثقافة الغربية ودليل على كثرة إطلاعها وكيف حول دانتي المحنة إلى منحة وكيف عانى لكنَّ المعانة أخرجت ما بداخله من كنوز وأشعار وصار علماً يذكر في تاريخ الأدب الغربي والإيطالي.
وكيف أنها تستدعي التراث أيضاً وتأخذ النموذج العربي الأنسوي (الخنساء) التي ملأت الدنيا بشعرها.
وهكذا نجد كيف تريد الكاتبة بمقالها أن تأخذ بيد من يتألم ليتعلم وكيف لا يعير ألمه إهتماماً كنوع من التحفيز والتنمية البشرية فالإنسان بلا أمل لا يستطيع أن يحيا وعليه أن يقاوم، وما الكتابة إلا شكل من أشكال المقاومة.
ومع اتساع رقعة الأدب وسيطرة الرواية على العقول يظل المقال له وقع في النفوس، بداية من المقال الصحفي والأدبي ونهاية بالمقال السياسي، والعرب يطلقون على الشعر مقالاً أيضاً، يقول حسان ابن ثابت: وما مدحت محمدا بمقالتي ولكن مدحت مقالتي بمحمد.
و المقال في اللغة: هو الشيء الذي يقال نثراً كان أو شعراً، وهو في النثر أولى، لأن الشعر هو الغناء و الذي يختلف في أغراضه وأبعاده عن النثر و عن فن المالقة، وإنما اطلق عليه مقالاً من باب المجاز، فالمقال نص نثريٌّ له موضوع محدد وأسلوب مبسط، يعبر فيه الكاتب عما يريد وعما يجيش في صدره بعيداً عن الحشو والتنظير والتعقيد، وينقسم من حيث الموضوع إلى سياسي ، ثقافي، علمي، أدبي، ديني، نقدي .. إلى آخره، ومن حيث المضمون، إلى ذاتي و موضوعي، وله خصائص منها الإقناع،، تعدد الأسلوب،، الذاتية، الموضوعية.
والذي يعنينا هنا وفي هذا المقام هو المقال الأدبي، وفي عالم المقال الأدبي لا بد للكاتب أن يستمد مقاله من حياته ومشاهداته وتجاربه وخبراته في الحياة وقراءاته ليكون موضوعياً، و من الموضوعية يَعْبُر بذكاء إلى ذاته ليشكِّل الوجدان، ويربط العالم الآخر بالذات الأنا، حتى لايكون مقاله عبارة عن وصف وشرح وعرض لما يرى ويفقد روح الأدب. بذلك يقترب من روح الشعر فالشعر ذاتي وموضوعي شريطة كما قلت سابقاً أن لا يتوه في بحر الـ (أنا) المتضخمة، وإنما يحيا الكاتب أو الشاعر ما بين بين كليهما بذكاء وحرفية، يعرف كيف يعبِّرعن مقاله دون أن يشعر القارئ بالملل أو النرجسية، مبتعداً عن المباشرة. ويدرك القارئ الفطن أنه سينتهي من طرحه دون تفكك أو ملل، وحدته الموضوعية متماسكة، متسلسل في عرضه، منطقي في أفكاره واضح المعنى بسيط المبنى، وتظل اللغة هي العمود الفقري وعمود الخيمة للكاتب بنحوها وصرفها وبلاغتها.
استطاعت جمال عبيد أن تدرك ذلك جيداً وأن تعرج بنا عبر واحد وأربعون مقالاً في ماتريد أن تقول، بأسلوب أدبي ولغة سهلة و أفكار منطقية.
والذي يطالع هذه المقالات يجد أن الكاتبة تتكأ على عدة محاور، منها الدعوة للحرية، حب الحياة، استدعاء التراث،، الإلمام بالثقافة العربية، الإلمام بالثقافة الغربية، حتى لا يكون الكاتب في عزلة عن العالم، احترام المرأة ، الوطن ، الغربة ، المعرفة ، الطبيعة ، وكلها مقالات تحمل روح الأدب والشعر والقصة. عالم متداخل من الجمال، وإن كانت أحيانناً في مقالاتها تميل للغنائية أو إلى القص، إلّا أنَّ الطابع العام والأغلب هو غلبة روح المقال الأدبي، تستدعي فيه الذكريات، الجدة، الأحفاد، نهربردى، دمشق، طائر الحسون، أيام الربيع، وكيف تجعل الطبيعة ناطقة جميلة كمقالاتها، أستمع إليها:
شمس الربيع تبدو متسللة ترسل أشعتها الخفيفة لتنعكس على نضرة الشجر وعلى الورود المتنوعة الألوان التي أصبحت فراشاً ناعماً.
ثم تنادي على الربيع بحرف النداء (يا) الذي ينادي به البعيد: يا ربيعا رد لي شبابي طال انتظاري ،، كأنها تردد مع البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا .. من الحزن حتى كاد أن يتكلما.
وفي استدعاء الشباب تردد مع أبو العتاهيه: بكيت على الشباب بدمع عيني .. فلم يغني البكاء ولا النحيب..
ألا ليت الشباب يعود يوماً .. فأخبره بما فعل المشيب .
تحية الى الأديبة المبدعة جمال عبيد.
*ناصر رمضان عبد الحميد عضو اتحاد كتاب مصر – رئيس ملتقى الشعراء العرب
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي