ترانيم روحيّة بين اللغة والإبداع ،
للمبدعة اللبنانيّة رانية مرعي *
لقد حقّقَ العالمُ تقدّمًا كبيرًا على كلّ المستويات المادّيّة والاقتصاديّة وعالم الوسائط . لكنّه أفلسَ من دون أدنى شك في مجالاتٍ عِدّة، وعجزَ عن إعادة الرّوح الإنسانيّة للإنسان . والسببُ ببساطةٍ أنّه تخلّى عن الفنون والإبداع ، وصُرِفَ عن الجمال .
سارَ خلف آدم سميث صاحب كتاب ( ثروة الأمم بحثٌ في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها) ولم يستمع إلى صوت شكسبير ، وانتصر كاسيوس على قيصر .
إنّ الإبداع يخلقُ مجتمعًا متجانسًا لا يتقاتلُ ولا يتناحرُ ، وإنّما يحيا متناغمًا ومتفاعلًا مع الحياةِ ، يفيدُها وله تُفيد .
إنّ ترانيم روحيّة للمبدعة رانية مرعي ، تجلٌٍّ في ثوبٍ إنسانيّ . يحملُ الديوانُ أربعةً وعشرين نصًّا تحت عنوان “لو كنتُ “.
ولو كنتُ ، نوعٌ من التّمنّي . ولو حرف امتناع لامتناع مبنيّ على السكون لا محل له من الإعراب . وكان فعلُ ناسخٌ والتاء ضمير متصل . والتّمنّي :رغبةٌ في الحصول على شيء فُقِد . ولله درّ شوقي :
وما نيلُ المطالب بالتّمنّي
ولكن تُؤخذُ الدنيا غلابا
وما استعصى على قومٍ منال
إذا الإقدامُ كان لهم ركابا
وماذا تتمنّى رانية مرعي ؟ تتمنّى أن تدخلَ في عالم اللاوعي وهو لبُّ الإبداع ، إنّه نوع من المشاعر الناتج عن عدم تحقيق رغبةٍ ما ،يُدرك حينها صاحبُها أنّه لن يكونَ كما تقولُ في نصوصها وكما سنرى لاحقًا ” لو كنتُ ” .
إنّ اللاوعي نوعٌ من الرّغبات المكبوتة بسبب الرّفض القبليّ أو المجتمعيّ أو النّظر إليها من منظور أخلاقيّ ، وكلُّها أمورٌ ساعدت في عدم تحقيق الأمنيات . يحاولُ اللاوعي ساعيًا بشكل دائمٍ تمرير التّصوّرات التي لا يُمكنُها الوصول إلى الوعي أو بدايته فتصبحُ خيالًا يُترجمُهُ المُبدعُ نغمًا إبداعيًّا . ولنأخذْ مثالًا على ذلك من نصوصها الماتعة
” لو كنتُ حبًّا ” وكأنّ غيابَ الحُبِّ بسبب الرّأسماليّة وغلبةِ روح المادّةِ جعلَ المُبدعة رانية مرعي تتمنّى ما ليسَ لهُ وجود . إذًا ، ماذا ستفعل ؟
” لهمستُ لكلّ القلوب بسرّ الخلود وأفتيتُ للنّبض أن يعزفَ لحنَ الأمل مع كلّ لقاءٍ كي يتعمّدَ السّلامُ بالعطر “
” لتدلّلتُ على الشّفاهِ العاشقةِ ، أقطفُ من لهيبِ أشواقها قبلاتٍ تنطقُ بآياتِ الغرام “
وهي في حالة الحبّ غيرَ ما قالت ، نعم لا يوجد الحب ، ولا توجدُ هذه المشاعر المتدفّقة . من هنا ، يُفتقدُ الأمل ويغيبُ اللّحنُ لدى المُحبِّ وتُنسى القبلات .
تتمثّلُ المبدعة هنا حالة الحُبِّ بذاته وهو كينونةٌ لا تُدركُ، إنّما تُحسُّ ، تسري كالكهرباء وتصِلُ الرّوحَ بالجسد ليعمَّ السّلامُ النّفسيُّ على الأحباب بعد َ طولِ غيابٍ ويربِطُ الأرضَ بالسّماء .
ترانيم روحيّة طربٌ أصيلٌ وُلِدَ من لغةٍ أصيلةٍ ومبدعةٍ أصيلةٍ تتمسّكُ باللّغةِ العربيّةِ الجميلة على حدِّ تعبيرِ شاعرنا الرّاحل فاروق شوشة ” لغتنا الجميلة ” .
هذه النّصوصُ تحملُ روحَ التّرانيم والغناء الخفيف المنبعث من الرّوحِ في حضرةِ البوح وخلوة النّفسِ وانفعالِ الحِسِّ وانطلاقِ الهمسِ حيثُ لا يُوجدُ إلّا الأُنس . إنّه الجمالُ الكامنُ في اللّغةِ ، الذي يكادُ يُحسُّ ، نعم يُحسُّ باللّمس .
رانية مرعي لغويّة عملت بالتّدريس ممّا أكسبَها خبرةً في التّعاملِ مع مع اللّغةِ بلاغةً ونحوًا وصرفًا وسياقًا وسباقًا ولِحاقًا ، فجاءت نصوصُها فنيّةً بلاغيّةً باقتدار . إنّها عودةٌ إلى النّثر الفنّيِّ الجميل وعصرِ الازدهارِ الأدبيِّ . وعملُها بالصّحافةِ أتاحَ لها مجالًا واسعًا لرؤيةِ النّفوس والأحوال ، فصارت ترصدُ وتُراقبُ وتُبدعُ وترسمُ لنفسها بهذه التّرانيم الرّوحيّة طريقًا لم يمشِ فيه غيرها ، اتّكأت على اللّغةِ والصّورةِ والمَجاز .
ومهما تحدّثَ النّقّادُ حول الإبداع وشروطه ، إلّا أنّ اللغةَ ستظلُّ هي العامود الفقريّ لكلِّ إبداعٍ . وإذا كانت اللّغةُ أصواتًا يعبّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم ، فإنّ لغةَ الإبداع لغةٌ شعوريّةٌ تنشأُ من الشّعورِ وتبعثُ على الجمال وتتأتّى من التّراكيب والمجازِ والبناءِ الفنّيِّ . فاللّغةُ فكرٌ، اللّغةُ ثقافةٌ وكلّما زادَ الاهتمامُ باللّغة لدى الأجيالِ ، زادَ تفكيرُهم ونمت ثقافتُهم . اللّغةُ تعبيرٌ وإحساسٌ نفسيٌّ
وعقليٌّ وكونيٌّ .
في نصوصِها المعنونةِ ” ترانيم روحية ” نجدُ ذلك واضحًا لدى رانية مرعي . إقرأ معي :
” أنفخُ الحياةَ في نبضِهِ ، أمسحُ غبارَ المرايا ، لاختبأتُ في أنفاسِ الصّباحِ ، أمرُّ على نوافذِ الانتظار ، لسكنتُ ذاكرةَ الفرحِ ، لبعثرتُ أزمنةَ الضّياعِ ، لتعلّمتُ لغةَ المطر ، لغزوتُ كهوفَ الهاربين من الأحلام ، لزرتُ كلّ الأبجديّات التي خبّأَت أسرار َ الزّمنِ ، لرافقتُ الثّائرين القابضين على وطن ، لرقصتُ في عرسِ الحقيقةِ ، أرافقُ الصّدى في رحلةِ البشارةِ ، لأربكتُ الليلَ الغارقَ في حدادِهِ ، أسرقُ من كلّ نجمةٍ باقةَ حنانٍ أكحّلُ بها جفنَ الأرق الباحثِ عن الأحلام …”
اللّغةُ حقيقةٌ ومجازٌ ، والمجازُ في الشعرِ أولى وأجمل لأنّه يتداخلُ مباشرة مع منطقة اللاوعي وما يستحيلُ وجوده وتحقيقه .
رانية مرعي في ترانيمها الرّوحيّة تتكئُ على عدّةِ محاور أرادت ذلك أو لم ترد : الحب ، الوطن ، الصدق ، الحلم ، الفكر ، الثّقافة ، الثّورة ، التّصوّف ، عودة الوعي ، الضّمير .. وكلّها محاورُ يرتبطُ بعضها ببعض . فالحب وطنٌ ، والوطنُ صدقٌ وأملٌ وتعلّقٌ به ويُبنى بالثّقافةِ والثّورةِ وعودةِ الوعيِ وصحوةِ الضميرِ ويقظته .
ترانيم روحيّة تجربة شعوريّة بكلِّ تجلّياتها المُحلّقةِ عبرّ التّمنّي تمارسُها المبدعةُ ولا تربطُها بالأنا كالمعتاد . وبالضرورة ، كلٌّ منّا يُسقطُ جزءًا ولَو يسيرًا من ذاته من دون أن يشعرَ سواء كان يكتبُ عن نفسه أو عن غيره ، لأنّ الإنسان تستميلهُ النّزواتُ، النّزعاتُ، الرّغباتُ، الطموحُ، الأحقادُ، الحبُّ … وهي عمليّةٌ لا إراديّة . والّذي يُطالع شعرَ المتنبّي يجدُ ذلك واضحًا حدَّ التّضخّمَ :
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا
أصبح الدهر منشدا
المبدعُ الحقيقيُّ هو الذي يستطيعُ أن يُفرّقَ بين تورّم الذّاتِ و النّرجسيّة أو ما يُسمّى ” الإيجو ” أو الأنا المزيّفة و الذّاتِ المتصالحةِ مع نفسها والحياة . و تعطي خلاصة التجربة كنوعٍ من التّحفيز وكطرحٍ وظيفيٍّ ، وهذا الفرقُ يجب أن يُدركَهُ المبدعُ . ورانية مرعي تفوّقَتْ على ذاتِها وعلى الأنا وأدركَتْ ذلك جيّدًا وحلّقَتْ بروحٍ صوفيّةٍ تتماشى مع العنوان الذي هو عتبة النّص ، فجاء الختامُ محلّقًا بروحٍ صوفيّةٍ وترانيمَ روحيّةٍ عبر الحب والوطن والصّلاة والنّدى والورد والوعد والقدر والرّضى بهِ .
علّمتني الحياةُ أن أتلقّى كلَّ ألوانِها رضًى وقبولا
ورأيتُ الرّضى يخفّفُ أثقالي ويُلقي على المآسي سدولا
وكأنها تردد مع إيليا أبو ماضي في وحداة من أجمل ما أبدع الشعر :
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا
والذي مطلعها :
أيهذا الشاكي وما بك داء
كيف تغدو
أذا غدوت عليلا
إنّها حكايةٌ صوفيّة من أرضِ الفينيق وأرزِهِ الضّاربِ في حبِّ الحياة والتّرانيم والصّلاة والنّور والعناق والدّفء والوحي . عودةٌ إلى الإبداع الجميل والزّمن الجميل .
تُحلّقُ بنا رانية مرعي وتأخذُنا عبرَ رحلةٍ ماتعةٍ من اللّغة والإبداع بعيدًا عن الحروب والرّأسماليّة المتوحّشة لعلّ الضّميرَ يصحو ويستيقظُ ويحكمُ بقسطاطٍ مستقيم ، فهو الحارس اليقظان رقيب ضمن ذاتي لا يحور
وقاض لا يميل ولا يجور
وسلطان تحكم في كياني
بقسطاس يقال له الضمير
إنّه السّلطان الذي يتحكّمُ بالإنسان فيضبطُ حركة حياته ويعرفُ كيف يبني وطنَه ونفسَه بحبٍّ .
إنّها الأمنيات تلوَ الأمنيات جُمعَتْ في قلبِ شاعرةٍ مبدعةٍ حرّةٍ تنبضُ بالحب وبالجمال .
*ناصر عبد الحميد
عضو اتّحاد كُتّاب مصر
رئيس ملتقى الشعراء العرب
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي