رواية آلام فارتر
تلاقي إبداع السرد مع إبداع الترجمة
رانيا محيو الخليلي
آلام فارتر، رواية وجدانية، فلسفية، تجسد أدب الرسائل وتتميز باختلاجات الحب ومشاعر الألم التي تنتاب كل عاشق معذب. سردها الأديب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوتيه من خلال رسائل مرفقة بتاريخ اليوم والشهر، أما السنة فذكرها فقط في أول رسالة، وكانت في العام 1771. لنفهم من ذلك أنّ أحداث الرواية جرت خلال عام واحد.
معظم هذه الرسائل كتبها “فارتر” لصديقه “وليم” وبعضها كان عبارة عن مذكرات وجدانية خاصة احتفظ بها لنفسه، أما ما تبقى منها فكان موجّهًا ” لشارلوت”. “شارلوت” هي المرأة التي أحبها “فرتر” من اللحظة التي رآها فيها، أحبّها ولم يستطع منع نفسه من حبّها، رغم معرفته بخطوبتها من ألبير. رسائل لم نقرأ لها ردودًا، وإنما استنتجنا ردودها من خلال رسائل لاحقة كتب فيها فارتر “ردّه على الرد”. وكأنّ الكاتب أراد أن يظهر بطله وكأنه وحيدًا وعالقًا في عالم صامت لا يعيش فيه أحد سواه. كان يئن وحيدًا، ويحلم وحيدًا ويتخبط مع كلماته وحيدًا. لم يكن يكترث لأي مدى ممكن أن تبلغ رسائله صداها، فكل ما أراده أن يكون الصدى كافيًا ليصل إلى شارلوت وتشعر به وتنقذه من عذابه.
هذه الرواية محورها يدور حول ثلاث شخصيات فقط، ألبير وشارلوت من ناحية وفارتر من ناحية مقابلة. نلاحظ في بعض المواقف أنّ شارلوت كانت عالقة في الوسط بين خطيبها والشخص الذي يحبها. فطوال الرواية لم نشهد لها موقفًا عاطفيًا ثائرًا، وكأن خطوبتها تحصيل حاصل وكذلك عشق فارتر لها. باستثناء جمالها الفائق وشخصيتها الإنسانية المتماسكة لم نشهد لها أي نبض عاطفي يشعرنا أنها حقيقية موجودة وتتفاعل بالواقع.
لعل غوتيه أراد لها ذلك إحترامًا لموقعها الحقيقي في حياته، فشارلوت هو الإسم الحقيقي لحبيبة تسللت إلى قلبه واستأثرت به رغم أنها كانت خطيبة صديقه، الأمر الذي جعل هذا الحب صعب التحقّق، لاوبل مستحيلاً. وبما أنه كتب هذه الرواية في أوج حياتهما، أراد أن يظهرها في قالب محترم ونقي يليق بسيدة مرتبطة. وهنا أظهر براعته الروائية في إبراز البطل المعذب بإضاءة قوية طغت على باقي الشخصيات في الرواية. لأنه لم يشأ ضمنيًا إظهار باقي شخصيات الرواية. كل ما أراده هو أن تكون مشاعره المتمثلة بالآلام هي المحور. وقام بتجسيدها من خلال فرتر مخترعًا حوله أجواءً خيالية تبعد الشبهة عن كون هذه الرواية سيرة ذاتية. غيّر اسم البطل المنقول من واقعه وذاته، وغيّراسم الخطيب الصديق، واحتفظ بإسم البطلة الحقيقي، احتفظ بإسم شارلوت. ربما في لاوعيه لم يستطع إيجاد إسمًا آخر للحبيبة بطلة الرواية.
أهمية هذه الرواية تكمن في أنها أسّست لعصر الرومانسية الأدبية، فدفق المشاعر فيها كان حقيقيًا وإظهار الشغف المعانق للألم كان ملفتًا إن من ناحية الأسلوب أم من ناحية الصور الطبيعة للأماكن. فحتى النسيم وقوة الرياح استطاع القارىء أن يشعر بلفحة هوائهما. الأشجار والأزهار، السهول والهضاب كانت تخبر عن سحر الأمكنة وألقها. مشهد الأطفال، أخوة شارلوت وهم يحيطون بهما كان بحد ذاته مشهدًا رومنسيًا يجسد البراءة التي عانقت هذا الحب المستحيل. هذا الحب الرقيق حينًا والعاصف أحيانًا. حبّ تمكّن من فارتر وسيطر على حياته بجاذبية الألم الجميل الذي يجرح ويضمّد في آن، فربما جمال الحب لايكمن إلاّ بشقائه. وصف الآلام طغى عليه رؤية فلسفية للحياة. غوتيه فلسف الحياة وفلسف الموت وفلسف علاقة الأشخاص ببعضهم، مغلبًا الواقع على هذه الفلسفة. فهي فلسفة نضجت من خلال ألم عميق. واختار من خلال الغوص بآلامه عدة صور من الميثولوجيا الأسطورية وأبرزها هذه الصورة المأخوذة عن أسطورة بروميثي. بروميثي الذي عاقبه زوس لأنه أوصل الإنسان لسمو المعرفة، عبر إرسال صقرٍ يلتهم كبده في النهار، ليعود الكبد في التكون ليلاً. ظهر هذا العذاب لدى فرتر في العبارة التالية:
“كذلك أسير في هذه الحياة يميد بي القلق، ويجيش بصدري الهم، بين السماء والأرض وما فيها من القوى الفعالة فلا أرى إلا وحشًا هائلاً يأكل أبدًا كل شيء، ثم لايعيد خلقه إلاّ ليعيد أكله”.
الصور والتفاعلات كثيرة مع هذه الرواية التي كلما تأملناها أكثر كلما اكتشفنا فيها آلامًا أكبر. إنها رواية ذات عمق أدبي شاعري فلسفي وحتى أسطوري اقترف إشكاليته الحب.
فمصير فرتر كان معلقًا بين يدي شارلوت وبأداة ألبير. وكلاهما لم يمدا له يد العون وإنما ساهما في خط سطر النهاية لحكاية حب صارخ.
أوّل من نقل هذه الرواية إلى العربية هو الأديب المصري أحمد حسن الزيَات في العام 1920. ويعتبر الزيات من مؤسسي النهضة الثقافية في مصر. أسس الزيات مجلة “الرسالة” المهتمة بفنّ القصّة والرواية. ومن أبرز من شكَلت مساهمته بداية في هذه المجلة الأديب الحائز على جائزة نوبل للآداب نجيب محفوظ.
تمكن الزيات من خلال ترجمته لهذه الرواية أن يظهرها بقالب أدبي لا يقل فخامة عن اللغة الأصلية التي صدرت فيها. فالأسلوب سلس والمفردات منتقاة بعناية الصائغ الذي يصقل جوهرة ثمينة كلّف مهمة الإعتناء بها. لا يتسنى لقارىء آلام فارتر أن يشعر خلال انكبابه على هذه الرواية أنه بصدد قراءة عمل مترجم. ولولا أسماء الأماكن والأشخاص والسياق السردي لما توصل لاستدراك ذلك. تجدر الإشارة إلى أنّ أحمد حسن الزيات نقل الرواية من اللغة الفرنسية وليس من لغتها الأصلية، أي اللغة الألمانية. ومن اللافت بترجمته أنها كانت مترافقة مع عبقرية أديب مما أعطاها هذا الألق اللغوي الفني الذي لايزال ألقه سائدًا حتى يومنا هذا.
إضافة لاسم الزيات ترافقت مقدمة الكتاب مع اسم عميد الأدب العربي طه حسين. كتب العميد طه حسين المقدمة شارحًا أسس الترجمة وبراعة صديقه المترجم في تمكنه من إيصال هذا العمل بشفافية المترجم الأديب. ولو أنّه لم يطلعنا على نهايتها لكان أوفى العمل حقه بامتياز..
بعد غوتيه والزيات وطه حسين، إسم رابع يجدر بنا التوقف عنده نظرًا لأهمية حضوره في آخر الرواية ولما أحدثه من بلبلة أدبية مازال النقاش دائرًا حولها حتى اليوم، إنه الشاعر السكوتلندي جيمس ماكفيرسون. ظهر هذا الشاعر في رواية آلام فارتر من خلال القصة الأسطورية التي ترجمها غوتيه خصيصًا لهذه الرواية وهي قصة” دورا” وحبيبها “أرمار” التي يرويها “أوسيان”.
فالشاعر ماكفيرسون كتب ملحمة شعرية على أنها ميثولوجيا أسطورية، لم يكن لها نصوص مكتوبة تثبت حقيقتها، فتذرّع بأنه تلقفها عن طريق السمع حيث قام أشخاص بسردها له. ويَعتبر الإنجليز أن هذا العمل يعد أكبر تزييف أدبي في التاريخ، فالشاعر قام باختراعه وتأليفه وليس له أية أصول أسطورية مثبتة وحقيقية. وفي هذا السياق كتب ويليام باتون كير في موسوعة كامبريدج لتاريخ الأدب الإنجليزي:” أنّ حرفة ماكفيرسون كمحتال لغوي ليس لها معنى دون مهارته الأدبية”.
وبفضل هذه المهارة الأدبية ترجم غوتيه جزءًا من الملحمة قرأه فارتر على شارلوت لمحاولة أخيرة للتأثير عليها. وهذه الملحمة تروي قصة “دورا” وفي الرواية كان اسمها “كلمى”، التي يوهمها “أراط” بأن شقيقه وحبيبها “أرمار” ينتظرها على البحرفصدقته وذهبت معه حيث أوصلها إلى صخرة تتوسط أمواجًا عاتية. كان والدها “أرمين” يرقبها من بعيد وهو يعجز عن نجدتها، بينما شقيقها “أرندال” تعرض للقتل وهو ينجدها وحبيبها “أرمار” قضى غرقًا في المحاولة نفسها. أما “كلمى” فبقيت تتخبط وسط البحر والموج والرياح تعصف بها إلى أن اختفت ولم يبق منها أثر.
ترجمة غوتيه لهذه القصة الشعرية وإدخالها في روايته قد يكون له سبب فني ألا وهو إعطاء نفحة أدبية تضفي على العمل إشراقة ثقافية. فأصبحنا وكاننا نقرأ رواية في الرواية من جهة ومن جهة أخرى أثبت مهاراته في الترجمة من الإنجليزية وأعطى لعمل ماكفيرسون قيمة إضافية.
كما قد يكون لهذه المداخلة الأسطورية سبب عاطفي ألا وهو تشبيه “كلمى” بنفسه أو بفارتر (وليس تشبيهها بشارلوت) فهو الذي وقع فريسة حب مستحيل جعله عالقًا بلا حول ولا قوة، إن أنجده أخاه (أو صديقه المقرب) سيٌقتل، وإن أنجدته حبيبته ( أي شارلوت) سيتعرض للغرق. بينما الأب (الذي يمثل سلطة الأهل) يرقب من بعيد بعجز ووهن لعدم قدرته على المساعدة والمساندة لتغيير الواقع الصعب، فكان يعزف من الألم.
التأليف وصياغة الحبكة من خلال رسائل، الترجمة وإدخال ملحمة شعرية داخل الرواية، كلها عوامل إبداعية تثبت عبقرية غوتيه في الكتابة، الأمر الذي شكل نقلة أدبية نوعية بالنسبة للقرن الثامن عشر وليومنا هذا.
آلام فارتر لكاتبها يوهان غوتيه هي رواية على الرغم من بساطة موضوعها وتكراره في معظم المجتمعات وعلى مدار القرون والأعوام، إلاّ أن حبكتها الروائية المميزة والمتقنة استطاعت أن تثبت تفردها وتميّزها أمام القصص والروايات الشبيهة. وما أتت ترجمة أحمد حسن الزيات إلا لتضيف إتقانًا على إتقانها!
رانيا محيو الخليلي
روائية وأديبة لبنانية*
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي