قصة
قولوا لأمي .. مازلت تحت الجسر انتظر
تأليف : أشواق النعيمي
إلى روح الشهيد عثمان العبيدي ..
رغم السنين … مازالت ملامحك الفتية تبتسم للعابرين
ومازالت يدك التي تشير بطيبة إلى قلبك وأنت تقف مرفوع الرأس قرب دجلة .. تحتضن وتواسي كل أمهات الشهداء .
قولوا لأمي .. مازلت تحت الجسر انتظر
حين أيقظني النهر من غفوتي الأولى ، كانت أمي تقف عند عتبة الباب تنتظر عودتي بأرغفة الخبز الساخن ..
لا تتعجلوا .. سأحكي لكم حكايتي . ربما سمعتم عني ، لكن لم تسمعوا مني .. لن أحدثكم عن زقاقنا الضيق في مدينة الأعظمية ولن أُضيع وقتكم بالحديث عن بيتنا الصغير وصالته التي بالكاد تتسع لسفرة طعام .. لن أذكر مرض أبي وقلة حيلته وانتظار أمي التي مازالت بعد كل تلك السنين تترقب الباب لعلني أدخل بكيس الخبز الساخن كما اعتدت أن أفعل . حتى تمثالي المبتسم وهو يقف بفخر تحت الشمس ، لم يخفف حزنها ويكفكف سيل الدمع الذي ينهمر كالمطر على وجنتيها كلما مرت قرب النهر .. نهري ، دجلة الحاني مازال يحتضنني يا أمي .. ومازلت أقاوم غواية الضوء .. كل الشهداء رحلوا إلى السماء .. لكني اخترت النهر الذي عشقته مأواي الأبدي .. انتظروا .. لم تسمعوا بعد الحكاية.. في ذلك النهار الصيفي من شهر آب اللهاب الذي يذوب المسمار بالباب كما تقول أمي ، اشتريت الخبز لكني لم أعد إلى البيت .. بل مضيت إلى هناك حيث الجموع المندفعة من كل حدب وصوب . آلاف الرجال والنساء يسيرون باتجاه الجسر للعبور نحو مرقد الإمام موسى الكاظم ” عليه السلام “. مشهد مدهش انتظره كل عام . الشوارع تمتلئ بالمواكب ، وسرادق الطعام والشراب ممدودة من مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان حتى مرقد الإمام موسى الكاظم “عليهما السلام ” . كنت أسير بين الزائرين وهم يتقدمون بخطى واثقة إلى الأمام .. في لحظة تغير كل شيء وانقلب السير إلى هرولة وارتفعت من حولي أصوات الصراخ أعقبها عويل .. يا للهول .. الجسر انهار بالزائرين .. سقط الكثيرون في النهر .. لم أتمالك نفسي أنا الذي أجيد السباحة منذ طفولتي تحمست للتطوع مع الكثيرين لإنقاذهم ، ركضت وقفزت من الجهة الأخرى .. سبحت باتجاههم . سحبت واحدا منهم نحو الجرف ثم الثاني والثالث .. تمكنت من انتشال ستة وسحبهم نحو الجرف واتجهت لأواصل عملية الإنقاذ ، ملأت صدري بالهواء قبل أن أغطس .. لكن ما هذا ؟ شيء أسود يلتف حولي .. يشدني نحو الأسفل .. أمسكت بالشيء فإذا هو عباءة إحدى الضحايا .. حاولت التخلص منها عبثا .. تضرعت لله .. صرخت فتلاشى صوتي بين أصوات الصارخين والناحبين . أخذني التيار بعيدا .. جسدي ينزل نحو القاع ، فقدت القدرة على التنفس .. في اللحظات الأخيرة توسلت بالنهر .. ذكرته بصحبتنا .. بأبي وأمي وإخوتي . رمقني بنظرة حزن أو هكذا تخيلت قبل أن يبتلعني الماء وأغيب عن الحياة …
لم أكن أعلم أن النهر يتكلم !.. حين فتحت عيني من جديد سمعته .. نعم سمعته يتكلم مثلنا . كان صوته في البداية أشبه بعزف موسيقي .. داعبتني الأمواج بنعومة وأيقظتني من غفوتي القصيرة ، في وسط الظلمة والحيرة ، عانقني النهر بلطف قائلا : لا تحزن يا صديقي . قدرك أن تغرق اليوم ..
ـ لماذا ؟
ـ لتنجو أرواحا بريئة كانت ستزهق . موتك أطفأ نارا عظيمة
ـ لم أفهم .
ـ حاولوا إشعال فتنة بين أبناء الشعب الواحد .
ـ من هم ؟
ـ أعداء السلام .
ـ لكني مازلت صغيرا على الموت ؟
ـ هكذا أعمار الملائكة .
ـ لست ملاكا ولا أريد أن أموت .
ـ ستعيش في ذاكرة التاريخ والقلوب والضمائر صبيا إلى الأبد .
ـ كنت أعمل لأعيل أهلي .. سيجوع إخوتي الصغار من بعدي !
ـ الله لا ينسى خلقه .
ـ عشت فقيرا محروما وكنت راضي بقدري .
ـ قدرك أن تكون ملاكا .
ـ وحياتي .. ؟ أصحابي؟. مدرستي ؟ .
ـ ألست من تطوع لإنقاذ الناس من الغرق .
ـ نعم .
ـ هل أنت نادم ؟
ـ لا .
ـ ماذا لو بقيت على قيد الحياة ؟
ـ لواصلت إنقاذهم .
ـ حتى لو كانوا مختلفين معك في العقيدة ؟
ـ العقيدة ! ماذا تعني ؟
ـ كلمة اتخذوها سبيلا للهيمنة على عقول الناس وتطويعهم وبتضحيتك خاب أملهم .
ـ لو كنت أمهلتني قليلا لأودع أمي ؟
ـ …….
طأطئ الموج خجلا وسكت . شاهدت أطيافا شفافة بدأت تنهض من الماء وترتفع ، كأنها تلبي نداء خفيا . شيئا فشيئا بدأت تظهر ممرات نورانية تتدرج نحو الضوء الساطع في السماء . الأصوات تناديني أنا أيضا ..
ـ لا .. لا أريد الرحيل أنا خائف .
ـ هل تبكي يا فتى ، الشهداء لا يخافون ولا يبكون .. إلا ترى إنهم مكرمون .
ـ لم ابك في حياتي ، فاسمح لي أن أبكي في موتي قليلا ..
ـ الضوء بانتظارك .
ـ دعني أبقى هنا قريبا من الجسر ، لعلي المح يوما وجه أمي .
ـ أخشى عليك من قاعي المظلم .
ـ ألفتُ كل ما فيك حتى ظلام قاعك . سألوذ بدفء قلبك .
ـ ليس في قلبي العجوز لك متسع ، أرحل مع الأطياف إلى النور الأبدي .
بعد جدال طويل صمت النهر .. لعله وافق مضطرا أمام عنادي ..
منذ سنوات لا أعرف عددها وأنا أسكن النهر ، ألهو مع رفيف أجنحة النوارس ، وأحيانا أخالف شروط النهر وأسرق من ثقوب الوقت بعض الحنين إلى حياتي الماضية . بين المرقدين أحصي خطوات العابرين وأردد دعوات المريدين .. قد يحمل النسيم الذي يهب من زقاقنا عطر الشمع الذي توقده أمي في ذكرى رحيلي كل عام ، ويعود إليها محملا برائحة خبز ساخن .. أرجوكم حين تلتقون بأمي يوما ما .. قولوا لها أن عثمان مازال هناك يسبح تحت الجسر .. وينتظر .
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي