بلا وداع
بقلم : بلقيس بابو
أجلس بمحاذاة الشاطئ الجميل، أعبث بالحصى الأبيض الصغير الناعم المتناثر خلف الرمال الذهبية، يعانق المويجات الصغيرة فتتراقص شفافة متلألئة كأنما تغازل شمس الصباح الباسمة.
أراقب انكسارها هاربة، متتابعة الواحدة تلو الأخرى دون مللٍ في حركة يتمايل جسدي على ايقاعاتها كأني فوق أرجوحة.
بريق ماء البحر و نقاؤه يمنحاني شعورا بالطمأنينة، أما ذاك الأفق الأزرق فكأنما يناديني بأصوات خفية ليحملني إلى عالمه اللامحدود.
أحلق عاليا بنظرات تأسرها أسراب النوارس البيضاء ذهابا وإيابا، لأحط الرحال كطائر على الشاطئ حيث تلهو الطفلة التي تسكنني من جديد، وهي تعيش ألفة مع هذا الفضاء الذي يحضنها كل صباح؛
صرت أشعر أنني جزء من هذه الطبيعة الساحرة ألاعبها، فتحاورني وتناجيني، وتناديني حين أتأخر في المجيء ، حتى أنه لا يكاد المارة القلائل أن يميزوا بيني و بينها.
لا أحد يعرف بمكاني وربما لم يلحظ أحدهم غيابي عن الديار منذ الأمس.
ما أجمل أن تتواجد بمكان لا تعرف به بشرا ولا يعرفك أحد؛ مكان تعيش فيه حريتك بكل سعادة كمن أطلق سراحه بعد سنوات من الأسر.
قد تحلو الحياة متى كُنّا بِجانب من و ما نُحب ، أشياءٌ صغيرة حينها تكفي لِنشعُر بِسعادة كبيرة ، وقد نُضيّع أعمارنا في مكانٍ خاطئ، أو مع أشخاصٍ خطأ ، أو بِإحساسٍ خاطيء تِجاه الأشياء والمواقف.
أهيم بفكري ويسرح نظري على مدى امتداد الشاطئ في سكون مطبق،لم يكسر صمته إلا وقعُ أقدام تستبيح عليَّ خُلْوتي وتتقدم نحوي، كأنما كنا على ميعاد.
ينتفض قلبي، تتسارع دقاته من الدهشة والخوف معا، لم أقطع كل هذه المسافة لأجد نفسي و قد لحق بي أحدهم.
وقع الخطى يقترب رويدا، حتى رسا ظلُّ قامةٍ فارعة الطول أمامي، رفعت رأسي:
شاب على أعتاب الكهولة أو كهل يودع الشباب، أسود الشعر، عيناه السودوان تتصفحاني من وراء ابتسامة آسرة ، وسامته كأنما قُدَّت لتناسب جمالية المكان.
أزحتُ نظري عنه سريعا مادمت لا أعرفه، ولا يهمني أمره، تجاهلت وقفته كما تتجاهل امرأة تعشق العزلة زيرَ نساء متطفل؛ رغبت في أن يفهم الرسالة فيواصل السير لأستعيد هدوء هذا المكان الذي عشت فيه أجمل لحظات وحدتي، ليته يمضي إلى حال سبيله!! ليته!.
انتفضت فزعا وقد هزني سؤاله:
- “أتعشقين البحر إلى هذا الحد ؟؟؟ منذ ساعات وأنا أراقبك تعانقين الشاطئ وتغازلين الأمواج ؟”.
تجمدت حركاتي، لم أهتد إلى جواب، فإذا به يتمدد على الرمل بالقرب مني …
لم أمانع، لم يترك لي الفرصة لأقرر…
وقع كلماته الواثقة، أنساني أنني كنت منذ قليل أرغب في أن يتركني لحالي… انفكَّت عقدة لساني فاسترسلنا في حديث بلانهاية، في كل شيء، حتى أننا نسينا أن نسأل بعضنا البعض عن اسمينا.
تداخلت أحاديثنا وتشعبت من غير مقدمات، حتى لغتنا تحررت من التصنع والمجاملات، بدونا لوهلة كما لو أننا نعرف بعضنا منذ سنوات.
تمر ساعات طوال بين حكي وقهقهة وفضفضة..سعادة خفية نخطفها في غفلة من الزمن.
يتكرر اللقاء ويكبر الحلم، وتترجم نظراتُنا خفقاتِ قلبين يتهامسان بلا كلمات ، لغة الصمت تشفي الغليل في كثير من الأحيان.
تمر الأيام و يتجدد اللقاء وتتوالى الأحداث بتلقائية غريبة ومريبة في آنٍ واحد..
كنت قد أحرقتُ جثّة الأنثى بداخلي.. نثرتُ غبارَها على مساحات الماضي، لم يكُن لدي الكثير من الوقت لأحزن من أجلها ولا لأُقيم مراسيم العزاء.
لن يكون البكاء خلفها إلا حجَرَ عثرة في طريقي المضني الطويل. أعترف أن بعض الحسرة تراودني لتعيدني إليها ، وددتُ لو كان بإمكاننا المُضِّي معا، جنبا إلى جنب، لم يكن ذلك ليكون صعبا، إلا أن إهمالي لها جعلها تنطفئ على مهل كشمعة ذابلة في غفلة منّي، تموت موتا بطيئًا مع مرور الأيام ، صارت تختفي و تختفي إلى أن فقدتها وسط الزحام.
ظننت أن حضورها يضعفني، يشل حركتي، وربما كان رحيلها فرصة لتحقيق طموحاتي و نيل حريتي؛ “الحرية” كلمة جميلة جداً و مغرية للغاية لكنها تبتعد كلما اقتربت منها وتختفي كلّما أيقنتُ بأني أملكها بين يديّ.
ماتتْ امرأةٌ كانت تسكنني..و مضَيْتُ في حياتي قُدُماً.
لن أُغرقَها اليوم مجددا في بحرٍ من الندم والحسرة ، الآن فرصتي كي أعيدها للحياة.
فاليوم لا أستطيعُ التوقف أو التراجع عن حبِّه ، لاطاقة لي فالأمر خارج عن السيطرة، إنه قاهر مستبد.. …
ترى ما الذي فعله ليشتاق له قلمي وأوراقي؟ أسارع كل مرة إلى الكتابة له وعنه.. ؟
ما الذي فعلَه حتى أضحى بطل أحلامي… نوما ويقظة ..
كيف قلب موازين أنوثتي؟ كيف بعثها من الرماد بعد طول غياب؟ كنتُ قد حسبت أنها رحلت إلى الأبد.. وها هو يُعيد جمع شتاتها، يُرمِّم أشلاءها ويُعِيد إليها سحْرَها، وها أنا اليوم أتلو ترانيم هزيمتي أمام غرابة الموقف وصعوبته .
من أين لي أن أقاوم هذه الجرعات المفرطة منه حدَّ الإدمان؟؟!
أسحر هذا؟ أم تراها تعويذة عجيبة تمكَّن بها من إحياء رُفاتِ امرأة هالكة؟! …
قطعت اليوم كل تلك المسافة كي ألقاه من جديد، هناك على الشاطئ! متشوقة كما كنت أوّل مرَّة.. أسابق الزمن بخطى سريعة كي لا أتأخر عنه…
وصلتُ، انتظرت، استدرت يمنة ويسرة، لم تلمحه عيناي.. لابد أنه يختبئ ليفاجئني، أو مقلب جديد من مقالبه المعتادة، لم يظهر بعد..
كيف يتخلف عن موعدنا؟ وقد كان يسبقني دوما إلى شاطئنا لنجوبه معا. هل تعرض لحادث في الطريق، هل أصيب بوعكة صحية ؟؟
ثقلت قدماي، لم تعد ساقي تقوى على حملي، القلق يمزقني.. نبضاتي المتسارعة تمنعني من الثبات في مكان واحد، أسير ذهابا وإيابا بمحاذاة الشاطئ ، وعيناي تمشطان المكان، استبد بي القلق فجلست لبرهة أستجمع أفكاري التائهة، وأهدئ من روعي، من هول المخاوف التي تنهش فؤادي،
-“أتبحثين عنه يا ابنتي؟! “
أفزعني سؤال صيادٌ مسِّن، كان غالبا ما يلاحقنا بنظراته من بعيد، وهو متصلب في مكانه منتظرا مايحمله طعم صنارته من أسماك لساعات طوال، كم مرة ابتسمنا وفرحنا لأجله كلما اصطاد واحدة منها !..
-أجل عمي! ، لا أدري؟
لما تأخر؟ ما خطبه؟، لقد اتفقنا أن نلتقي اليوم أيضا ها هنا ..؟
أسئلتي تتلاحق متقطعة شاردة و يداي ترتعدان من شدة القلق.
طأطأ رأسه ونزع قبعته، وقال وهو يمرر يده على رأسه بأسى: - “لا تُتْعبي نفسك ابنتي! لن يأتي..
البقية في حياتك، كلنا لها، لقد لفَظَ البحرُ جثتهُ بالأمس عند الفجر …”
هول الصدمة أشعرني بالدوار، تقلصت معدتي وشعرتُ بغثيان شديد ، انقطعت أنفاسي وجفت حنجرتي، لم أعد أملك القدرة على الحراك، لم أنبس ببنت شفة، جثوت على ركبتيّ ونظري شاخص على امتداد البحر.
اقترب الصياد الهرم مني وضع يده على كتفي ثم أردف : - “زوجته هي من أخبرت الشرطة، شاهدناها معهم هنا بالأمس، ويبدو أنه قد خط رسالة وداع بورقة كان قد تركها بين أغراضه بالبيت … صدقا يا ابنتي لم أتوقع أن تنتهي حياته هكذا ، كان يبدو سعيدًا جدا..”
- زوجتُه ؟؟ رسالة ؟؟….
لم أفهم، رحل هكذا؟ دون وداع ؟ كلماتي تتدافع، وبحة الشيخ الصياد ترن في مسمعي كأصوات بلا معنى، كدت أسقط مغمى علي، كأنما هو حلم، كابوس، جلبة وأصوات عالية، صور تتلاحق وشهود تردد :
“امرأة ، لقد أخرجوا جثة امرأة، لفظها البحرُ أمامنا … نعم إنها جثة امرأة !”.
إنها أنا، امرأة غادرتني، رحَلَتْ إلى الأبد…
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي