آزليـــــــــــــــــــــة الصـــــــــــــدى
على الضفة الشرقية لنهر دجلة، المقابلة لمنطقة الميدان،
في أيام الموصل البائسة..
يقف المقاتل علي، الملتحق ذاك اليوم الشتوي البارد بقطاعات الجيش المنتشرة في ارجاء المدينة بوجه حزينٍ متسآئلاً، مستاءً، متأسفاً، شارداً عبر ذاك النهر الخالد،
تتضارب في رأسهِ خيالات الكان والآن،
يصغي لصوتٍ يرن كناقوس في الأفق، حالة من الذعر تنتاب أسراب النوارس ، تتخبط بسماءٍ معكرةٍ؛
خالط فيها الدخان الضباب،
مياه النهر دماءٌ، أحجاره رؤوس وأجساد،
هربت منه حتى الأسماك فقلوبها الصغيرة توقفت من شدة ما كان وكان،
هل زاغ بصري أم أني أرى الجسر العتيق يهتز من هول الصوت في الآفاق؟!
يلتفت لصاحبه حسن تتسع حدقتاه ذهولاً، يهز براسه:
هل تسمع وتحس وترى، أم أنه الوهم ؟!
- إنه قبيل الغروب، هو يتكرر كل يوم.
- أسمعت الصوت المرعوب، المتكسر، المهموم يهز الأفق:
عيش.. ش..ش.. ش.. ش.. ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ه؟!
يهز حسن رأسه بكل أسى ويردد: - نعم أسمعه، وأعلم من يكون..
أقف كل يوم قبل الغروب أنتظره، أعتذر له، ولسعاد، ودلال، ويردلي، الذين أقسمنا أنهن ما متنَ،
ولشقائق النعمان الذابلة في غابات وشلالات الموصل:
لرائحة البهارات في باب السراي التي امتزجت برائحة الدم الفاسد، للربيع الذي غادر أم الربيعين، للحقول اليابسة حول دجلة،
لتلك البيوت الأثرية التي صمدت مئات السنين.
ما بالك يا مدينة نبي الله يونس وجرجيس وشيت وسيدنا الخضر ..
.يا مدينة المساجد العتيقة، والكنائس، والأديرة، تناطح سحابك تلك المنارة المنحنية قوةً وتواضعاً، كسرت كل إعصارٍ لسنين،
حتى نالها سلاحٌ حاقدٌ مسموم.
ألتمس عذرك يا باب نركال، يا قلعة باشطابيا، يا أشور بانيبال ومكتبته،
لتل قوينجق، تل الرمان وزقورته، لسور الموصل العظيم،
للحضر والنمرود، للأصمعي ، لزرياب، لملا عثمان الموصلي ،لأشجار الفستق والزيتون… - بربك أفصح، هو أول يوم لي في الموصل؛ ما هذا الصوت وما ذاك الضجيج الذي يتبعه؟!!
- التمس لك العذر فما تراه وسوف أقوله؛ لا تصدقه العقول!!
وأنا في الموصل منذ بدء المعارك فيها.. شاركت في كثيرٍ منها،
تشبعت بقصص الحزن والأسى..
الضجيج الذي نسمعه قادماً عند الغروب من الجهة الغربية للنهر، هو أصوات صخب وفوضى وارتباك لجمهرة أناس يعلوها صراخ أطفال جياع خائفين، من هول ما حولهم ، لا سبيل لهم إلا الموت بلا ذنبٍ سوى أنهم من مدينة الموصل..
لم يحتمل كثير من الجنود وعمال إزالة الأنقاض معايشة هذا الرعب والحزن… - قلبي يتمزق ألماً، وأتوق شوقاً، بربك قل لي ما خفيى وراء ذلك.
- هو صوت تلك المرأة العجوز؛ التي كانت إحدى ضحايا المدنيين الذين علقوا في آخر الأحياء القديمة التي دارت فيها أبشع المعارك، حوصروا بلا رحمة، أجبروا على ترك منازلهم، جمعوا مئات العوائل في منزل واحد تحت مرمى ثلاثة جيوش متحاربة.
إن هربوا تجرعوا الموت، وإن بقوا قتلهم الجوع، والذل، والموت.
لم ترحم المعارك طفلاً، ولا شيخاً، ولا مريضاً، ولا حتى جنيناً في بطن أمهِ، ولا حجراً، ولا شجراً، ولا حيواناً مسالماً بريئاً.
وما أن أقتربت كتائب الجيش ونالوا فسحة أمل للنجاة، جازفوا بأرواحهم ليخرجوا من ضيقتهم لعلهم يصلون الى كتائب الجيش ويحصلون على الأمان؛ لكن مع الأسف كثير منهم التهمه الموت قبل بضعىة امتارٍ من فسحة النجاة.
كانت تلك العجوز ممن خرجوا، كفها متمسك بقوة بكف حفيدتها عائشة ذات الثمانية أعوام..
على بضعة أمتار من قوات الجيش، صاروخ حاقد مزق الكثيرين أشلاء.
نظرت تلك العجوز لجانبها وهي تحكم قبضتها على ذراع عائشة لتفاجأ أنها تمسك كف وذراع عائشة فقط، فتلفتت متخبطة، تبحث عن عائشة تعود أدراجها غير مكترثة بكم الرصاص الذي يسقط كالمطر..
تصرخ عيشة، عيشة، كيف خطفوكِ وانا أمسك ذراعك بقوة، باحثة عن عائشة وما زالت تحكم قبضتها على ذلك الذراع.
تجد ثوب عائشة ممزقاً متناثراً مع جسدها،
تمسك الذراع بيد وتحاول عبثاً جمع أشلاء عائشة التي لم تعد تمُيّز ملامحها، كملامح مدينتها المنكوبة…
أصرخ وأناديها أماه عودي بحق محمد وآل محمد، لا ترمي بنفسك بالتهلكة، إتجهي نحوي، غادري المكان نحو قوات الجيش. - رباه.. كان الله بعونها؛ وهل فعلت؟
- لا، لم تكن تملك عقلها، لم تكترث للموت، هان عليها كل شيْ، ظناً منها أنها ستنقذ عائشة.
- ألا من سبيل لمساعدتها؟.
- أي تقدم نحوها ستنالك صواريخ الغدر وتنال مصير عائشة.
لكن للمقاتل لحظات، نخوته تتغلب على حب الحياة..
هرعت إليها، حملتها من الأرض على كتفي وهي تمسك بكفٍ ذراع عائشة والأخر جزءاً من ثوبها علق فيه جزء من رفاتها. - هل أستسلمت وخضعت لك.
- لا بل قاومت، ولكنها عجوز ضعيفة البدن..
تمكنت من إيصالها للقوات، وحرصاً مني عليها وضعتها في سيارة العسكر، كي لا تعود ثانية ووعدتها بأننا سنبحث عن عائشة.
أجلس بجانبها الأيمن الذي تحمل فيه ذراع عائشة في السيارة المتجهة للمناطق المحررة..
كانت هزيلة، شاحبة اللون، رافضة لأي شيْ يقدم لها..
تردد:
هل ستعود لتجلب عائشة..
أردد:
وأعدها كذباً حتماً يا أمي..
عادت وقالت هي حفيدتي إبنة ولدي، يتيمة الأبوين..
ربيتها وعاهدت والديها بأن أحافظ عليها..
تجهش بالبكاء وتقول:
سيغضب والداها مني.
كأنها أدركت مصير عائشة.
تعود وترفض الاستسلام لحقيقة موتها:
لا، لا أحد يستطيع خطفها مني أنا أمسكها بحرص شديد، لا حتى الموت لن يدركها.
يزداد وجهها شحوباً،
تغمرنا الدماء التي لا نعلم مصدرها، أهي من الذراع، أم من أشلاء تناثرت.
يبدأ يخفت صوتها، يتثاقل اللسان بنطق الكلمات،
يفقد جسدها قدرتُهُ لحمل رأسها، يميل الرأس ويجد كتفي وسادة له،
تنطق كلماتٍ:
(حفظك الرحمن ياولدي .. أُحلفك بمحمد وال محمد أن تبحث عن عائشة.. أشهد أن لا إله الا الله، واشهد أن محمداً عبده ورسوله).
تسلم الروح لخالقها ومازال كفها قابضاً على كف عائشة.
صرخت من الهول أماه أصمدي؛ سنصل للأمان نظرت لجانبها وعلمت أن تلك الدماء تتدفق من جرحٍ في جانبها الأيمن .
سحر الرشيد
فانكوفر/كندا
4/8/2023
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي