عن /كتاب أوراق من وجع الغربة
للإعلامي سعدالله بركات
- بقلم الشاعر والباحث تادروس طراد
صدر عن “دار المقتبس” ـ الطبعة الأولى 2022م بحجم 24/17 سم ـ رسم الغلاف عطاالله عبداللطيف.
من الصفحة الأولى يطالعك العنوان المعبّر “أوراق من وجع الغربة” يفسّره الإهداء الموفّق “إلى صدد” دوما تذكّرتكِ إلاّ وسبقتني دموع الغربة ـ وإلى كلّ آهٍ وحنين.. لوطن ص5. أجل إنّها الغربة التي لم يخترها منذ صباه حتّى تقاعده، وحتّى بعد تقاعده، فنثر آهاته، عبر حنينه إلى وطنه الصغير ومنزله الأوّل، “صدد” و وطنه سورية الحبيبة، فذرف الدموع الساخنة، ونفث الحسرات المرّة على فراقه الأهل والبيت والوطن ـ وهو غارق في بحر الشوق والحنين وأمل اللقاء بالمحبّين ـ الوالدة والأهل والأصدقاء والجيران والزملاء.
عبّر عن ذلك بسرديّة ناجحة تفيض وجدانية، وإحساساً وشعوراً، بلغة سليمة رشيقة وبعض مقاطع الكلمات تلامس الشعر الحديث. ما ورد في هذه الأوراق المتفرّقة جاء عفويّاً بدون خطّة للبحث، بل هو تعبير عفويّ صادر عمّا يجيش به صدر الكاتب من مشاعر وخواطر، وأفكار لحظية دون اصطناعٍ أو تكلّف، ولا ليستجدي عطفاً أو دموعاً، فهوى المقاسي المتحمّل الذي يلفظ شكواه لنفسه، متسلّحاً بالأمل، في كلّ مقولة أو فكرة، يذكرها في أوراقه.
ولمّا قدّم له الدكتور جورج جبور لم يلق الدكتور حرجاً من تردّد فيما يكتب لأنّه قرأ وفق مذاقه، وخصّ الكاتب بصفة زميل القلم، وضمّن المقدّمة بنفحات وجدانية من نصّ الكاتب، الذي آلمته جراح وطنه وبلدته، اللذين عانيا من ظروف صعبة، وأيّام شاقّة، سبّبها وضع مأساوي في بلدة ووطن، أحبّهما من صميم الفؤاد، وفق ما يعتقده من مثل وأفكار، حنّ إلى الشام، دمشق الفيحاء، وإلى حمص العدية وربوع سورية، التي وصف طبيعتها الأخّاذة في أكثر من صفحة، وأكثر من خاطرة تلامس الشعر، وهو يرنو إلى الدواء الناجع لتخفيف آلام الغربة، ألا وهو دواء العودة إلى مسقط الرأس، وربوع بلاده، التي عزّ عليه أن يفارقها طوال مددٍ تطول وتقصر، إلى أن يأتي موعد الفجر، الذي يرتجيه.
كانت زفراته لا تنتهي، ولواعج الشوق لا تهدأ، وكان القلق يأخذ فجره في بعض لياليه الحالكة، في أوقات محنة وأخبار غير سارّة، أو خلال انتظاراتٍ، لطلوع شمس واضحة المعالم فيما يدور من حوله. حتّى أنّه في شعوره الداخلي “استشعر بالغربة قبل معايشتها” ص14 ـ ولم ينسَ ذكرياته عن القرى الصددية والجوار، وحلّق بأجنحة الشوق إلى الشام وصدد، “أحملك أيقونةً بين الضلوع” ص18 فخطرت في خياله العريشة والأمسيات وصباحات المتة اللذيذة مع الأصحاب والأهل، عندما كان في [مدينة ]كولومبيا . وأيّام الدراسة في الجامعة والتعليم والعمل والخبرة في الإعلام، فتذكّر وتحسّر، وهو في لهيب الشوق تمرمر.
وبرغم كلّ معاناته في غربة اختارته عن صدد، ودمشق وسورية، مازال الأمل يحدوه باللقاء “الأمل ما يزال أيضاً هو العزاء وإن في ثراها” ص20() سارت به الخواطر إلى رحاب بلده، وبلدته ومنزله وهذا هو الوطن.. معتزاً بصمود والدته التسعينية أم سعدالله لأن صمودها من صمود الوطن.. فودّعها بالدموع، وكان هو الوداع الأخير “ما أصعبها من لحظات” ص21 وقد اجتاحه حزن البعاد أيضاً عن جنينة البيت التي لم يستطع رعايتها وسقايتها في الغربة، وحين العودة خاطبها بعد أن كادت الأشجار والعريشة تميل إلى الذبول: “معك حق.. معك حق” وهذا من صادق الحنين والمناجاة. وبما أن الوطن جريح والبيت وطن دائم دعى قائلاً: “الوطن الدائم ليته يتعافى، وليتنا ليتنا لا نفتقد العودة لأحضانه” ص23 وأنشد “تبت يدا أبي لهب وتب، تباً لمن كان السبب” ص24 أجل وألف أجل تباً لمن كان السبب.. من درعا إلى القامشلي مروراً بحلب. وقد وصف ما يجري في بلادنا بأنها: “نكبت بغزو عالمي …” ص25……. فحلم بالعودة والوطن معافى: وأجمل حلم بأن “يرى الوطن مرجاً تزقزق فوقه الأقمار، وعشّاً يزيّنه النهار” ص25. وكم كانت غصّات الكاتب مؤلمة فلمّا رأى سرير ولده وحبيبه فارغاً، فهو المسافر الغائب الحاضر، “كلما رمقتُ سريره، أرجع إلى نحيبي، فيومها بدأت غربتي مرةً أخرى هو الأمل” ص29..
وعندما “اجتزنا الحدود، تنفّسنا الصعداء، انتعشت النفس دخلنا الربوع” رأى رؤّاد متنزّه الربوة يعجّ بالرّواد، فجال بنفسه القول: ” نقاوم الموت بحبّ الحياة” ص32. وعند الوصول واللقاء “أحييت علاقات طفولة، تنفّسنا شوقاً ومحبّة، وإن خاب الظنّ ببعض” ص32، لا شكّ ففي معاشرة الناس لا ينطبق المزاج والمذاق على الجميع، فلا بدّ من الخيبات. فالناس على اختلاف، وتنافر أحياناً، ولكن الودّ لا يفسده الخلاف، …. فقد رأى أنّ روائح بارود وقنابل (الحرية) قد وصلت إلى أنحاء العالم عبر أثير الفضاء.. هذا العالم الذي يحاصر سورية كما يرى، بغزو واسع، وأدواته شذاذ الآفاق كما يرى.. …
نعم يا سعدالله “حكاية صدد.. حكاية وطن” ويعلم الله ماذا حصل في صدد، وغيرها من ربوع الوطن العزيز.
هذه التي حنّ إليها “سلام لكِ، وسلام عليكِ يا صدد” ص46 وقد أنشد قصائد، وغنّى زجلاً في الشوق إليها، محملاً بالوجع، “عريشة الدار لا تبكي، يا طير الشوق سلم ع أهالينا” ص58 نادباً حزن الغريب، وشوق القريب. وفي لحظة فرح ومتعة بجمال طبيعة البلاد التي تغرّب فيها وصف “هنا الريح العليلة، تجدها فرصة، لتداعب شوق الناس والطبيعة للشمس، فتغزل من نضارة شجرها، شالات طمأنينة، وشلّالات عطر، قبل أن تعود لتغتسل برذاذ أو قطرات مطر مدرار، فما تكاد تفضي بها غيمة، حتى تلحق بها أخرى، لن تجد للمطر أثراً لوحل أو طين، ولأرصفة وأشجار عشق، وما يستفزّه ذلك الهطل العميم، من عبق تراب معشوشب، بعدما خصّبه أو خصّبه خير السماء” ص63 وقد اشتهى أن تصبح بلادنا كتلك البلاد. ومرّت الأيّام وعاد إلى حزنه وأوجاعه، في غربة ينتابها خريف الوقائع والذكريات المأساوية: “وهل أقسى من الموت وهو يخطف في غضون شهر، الوالدة، والأخ أبا كمال، وأخا الميرون وتوأم الروح أبا نظام، وأصدقاء أعزاء” ص65. وبلا وداع رحلوا. ولم ينس روّاداً من بلدة صدد، فخصّهم بالذكر وتحسّر على رحيلهم. فقد كانوا نجوماً لامعة في سماء بلدته. وهم من أحبّهم وأجلّهم واحترمهم، من أصدقاء وأقارب وزملاء. مثل الأستاذ تامر أسعد بجّور، والمهندس عزيز خليل، وعبدو ذياب العسكري من فيروزة الصددية، والشاعر الصددي يوسف عبدو حنّون، صاحب ديواني “نزيف الحروف” و “أضواء ” ونسيبه فايز ديب من دمشق، وعلي الصيوان من ريف طرطوس الساحلية، ومختار فيروزة ليون هبهب.
ووصف اللقاء الحبيب بأحفاد عمّه أخي أبيه غير الشقيق، وعائلته، والتعارف والتواصل. وكان اللقاء المفاجأة حميماً.. وكانت الحكاية تتوالى فصولاً ومتعة” ص82 وممّا يخفف أوجاع الغربة “صديق الغربة.. أخوك” ص83 كالأخ الصديق (كريس) الذي واساه في أيام غربته “ولذا يطرح التساؤل الملحّ نفسه، لماذا لا تكون هي البوصلة ومعيار ا لسلوك العملي في تعامل البشر مع بعضهم” ص83 وهذا من أرقى أنواع السلوك. وعند مقارنته المؤلمة بين،، مدينةكولومبيا،، وبلدته “صدد” رغم أنّها “لم تكن لتطغى على مرابع الصبا، وغبار ساحاتها وحجارتها” ص84 فقد طمح لأن تصبح مثلها في توفّر الخدمات والمدارس والمرافق العامة المتكاملة، من مكتبة عامرة حديثة غاصّة بالرواد ـ ومرأى أطفال “حين ترى تلامذة هنا، طيوراً تغرّد على وقع موسيقى ضحكاتهم، وهي تتماوج كزقزقة العصافير” ص84 ـ ودار للمسنين، ومدخل بلدة من ورد وخضرة فيه أثر، مهما كان حتّى ولو كان طنبراً عتيقاً. “كولومبيا يا حلمي في قرى وطني، هي كانت انطلقت ولكن!!! تناوبت أوراق الوجع، على ذكريات وخواطرَ وآمالٍ، كم كان يتمنّى أن يرى أثراً لنول والده، الذي عمل عليه فترة ـ أو لطنبر اشتهى أن يركبه يوماً ما.. رأى شبيهاً له بين الورود والرياحين، كأثر عتيق في بلاد الغربة.. ثم يعود ليروي مبادراتٍ اغترابيةً وعراقة في القيم.. مقيّماً نشاط المغتربين الأوائل في تشكيل الجمعيات الخيرية. وقد سار على منوالهم المغتربون الصدديّون الآخرون والجدد، فذكر تأسيسهم لجمعية “زهرة الإحسان” في مدينة ـ كاهوز ـ بولاية نيويورك الأمريكية عام 1914ـ ثم جمعيّات فيروزة وصدد وزيدل والحفر في كاليفورنيا، و “جمعية صدد الآرامية” في ألمانيا وأوروبّا عام 2016 ـ لترسيخ العراقة في القيم السامية إنسانيّاً وأخلاقياً. ومن كلّ بريق أمل كان سعدالله يشدو، مع شجرة الرمّان التي غنّت: “إنّهم عائدون.. إنّهم عائدون”.
*طادروس طـراد
(1)حتّى أنّه تساءل “ولانعلم في (أيّ) أرض نكون؟؟ ويقصد في يوم الرحيل، على ما يبدو.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي