نافذة في نهر
للشاعر إسماعيل فقيه والحداثة في الشعر المعاصر .
الحداثة في أبسط تعريفاتها تعني التغيير والتجديد، وهناك مَن يعرّفها بالثورة دون الدخول في تعقيداتٍ وتعريفاتٍ يُراد بها
في العصر الحديث (أدبيًّا) شعراء قصيدة النثر التي لاقت كغيرها قبولًا ورفضًا. ومن أبرز روّادها في العصر الحديث: جبرا إبراهيم جبرا، توفيق صايغ، أدونيس، محمد الماغوط، مظفّر النوّاب، أنسي الحاج، شوقي أبو شقرا، سركون بولص، عزالدين المناصرة،
سعدي يوسف، رياض الصالح الحسين؛ وأفرزت مجلّات ومؤتمرات ودواوين لا حصر لها. وهناك مَن يرى أنّ النثر قديمًا في العرب قِدَم الشعر وأنّه يسبق عليه، لكنّني أرى أنّ قصيدة النثر لا علاقة لها بما كان من نثر فنّيّ قبل الشعر من خطابة أو مقامات.
ينضمّ إلى هؤلاء الشعراء الشاعر اللبناني إسماعيل فقيه في ديوانه الذي يحمل عنوان (نافذة في نهر). والنافذة عبارة عن فتحة صغيرة ينفذ منها النور والهواء، وفي حرف جر، والنهر مجرى مائيّ طبيعيّ يجري فيه الماء العذب الناتج عن هطول الأمطار أو المياه النابعة من عيون الأرض إلخ..
هذه النافذة التي فتحت في النهر هي مجاز عن تدفّق الشعر والحبّ الذي أصاب الشاعر، فتدفّق نهره وشعره العذب، فجّرته وأخرجت ما بداخله من كنوز، ومن العنوان نلمح ماهيّة الشعر بداخله وكيف سيكون. ثمّ جاءت لوحة الغلاف للفنانة التشكيلية اللبنانية غنى حليق زوجة الشاعر ورفيقة دربه لتوضح ذلك وضوحًا لا لَبْس فيه، فتاة تخرج من النهر وتقف متّشحة بكلّ ألوان الحياة وشَعرها المسافر في مدارات الوجود متداخلًا بين الأمواج ويشبه فستان الفرح، إنّها نافذة الحبّ التي خرجت له من نهر الحياة فأبدع وأمتع، وكان شَعرها وسادته عند نومه، غطاءَه وفراشَه. ومن هنا جعل العنوان قبل محتويات الديوان( يُسدل شَعرك على جسمه وينام)
تنحاز قصيدة النثر إلى الحاضر، والسبب من وجهة نظري ضعف المتلقّي وخروج أجيال بفعل السياسة ضعيفة لغويًّا وبعيدة كلّ البعد عن لغة العرب وشعر العرب وثقافة العرب اللغويّة والأدبيّة والبلاغيّة. وتأثير الواقع السياسيّ لا ينكره إلّا جاهل. هذا التأثير تداخَل في كلّ شيء: الدين، التعليم، اللغة، الثقافة، الفكر، الوعي، نظام الحكم إلخ..
السياسة هي مَن تُشكّل حالة إجتماعيّة لدى الناس وتأخذهم في جعبتها اجتماعيًّا، اقتصاديًّا ونفسيًّا ولغويًّا؛ وأنت ترى الأجيال الحاليّة، حالها يغني عمّا أقول.
ومع بداية فترة السبعينيّات أو نهايتها أو بداية الثمانينيّات وانفتاح العرب على الغرب وخاصّة مصر وعلى كلّ ما هو وافد وتقديس الأجنبيّ، دخلت بقوّة فكرة التجديد في القصيدة العربيّة بل فكرة التجديد في كلّ شيء وإن كان لها محاولات سابقة على هذا التاريخ إلّا أنّ الوضع السياسيّ والاجتماعيّ فتح لها الباب على مصراعيه، وإذا كانت القصيدة الحديثة تقليدًا أو تجديدًا أو ثورة فَلَسْتُ هنا في معرض الحديث عنها سلبًا ولا إيجابًا وإنّما حديثي منصب عن الشاعر إسماعيل فقيه الذي عرفته وقرأته فوجدته آخر فرسان قصيدة النثر في لبنان. فهو في الحقيقة من كبار شعراء النثر ولم يأخذ حقّه نقديّا ولعلّ مرجع ذلك إلى انشغاله بالصحافة لكنّه بقي على عهد الشعر، لم يقلّد أحدًا، يكتب على حدّ تعبير الصحفيّ محمد درويش يكتب بصمت ..
“نافذة في نهر” كتاب يقع في مئة وثلاثين صفحة ويضمّ ديوانَيْن إن لم أكن مخطئًا: الأوّل من الصفحة الحادية عشرة(١١) “يسدل شَعرك على جسدي وينام” حتّى الصفحة السابعة والثمانين(٨٧)، والثاني “يداك أحلى الكلام” من الصفحة التاسعة والثمانين(٨٩) حتّى الصفحة المئة والثلاثين (١٣٠)
وكلاهما كيفما اتّفق بمعنى وُزّعت النصوص هكذا بين مثلّث: النصوص الطويلة، والنصوص القصيرة، والومضات.
و يدور المثلّث في معظمه حول الحبّ والمرأة بكلّ تجلّياتها والحبّ بكلّ ألوانه. حوى الديوان، أو الديوانان، واحدًا وتسعين(٩١) نصًّا وُزّعت كما قلت كيفما اتّفق، وحيثما تدور التجربة دار معها الشاعر وأبدع ..
إنّه الحبّ، هو تلك النافذة التي فتحت في النهر، فاخضوضرت حياته معها، لا يتركه لحظة واحدة في حياته. تلك أنثاه وروحه التي يلاحقها حتى في أثناء عملها. أستمع إليه في نصّه الماتع :
“تقولين أحبّك وأنتِ في عملك الصباحيّ وراء مكتبك على يمينك الهاتف على شمالك فنجان القهوة
آتيك بلا موعد أقبّلك وأجلس معك قليلا تقولين: أحبّك وأخرج مطمئنًّا على بقيّة نهاري” ..
إنّها الطاقة الإيجابيّة والحياة التي يستمدّها الشاعر من محبوبته، من قُبلة، من كلمةٍ هي كلمة أحبكِ. يلاحظ القارئ لشعر إسماعيل فقيه أنّه يعالج حالة الحبّ وحالته هو يقظة ووئام، يكرّر البحث عن القُبلة وشَعرها وتسليط الضوء على الجسد في الكثير من المفردات، النهد، الشَّعر، الخصر، الصدر، الأصابع، في مقابلة مفردات الحبّ، الحنان، البرد، الحزن، وكأنّ الشاعر تحوّل مع محبوبته إلى طفل بحضورها يتنفّس، وفي حياتها حياة، وهذه الحياة التي تجعله غريبًا رغم رائحة الجنس في النصوص والجرأة أحيانًا في استخدام الوصف والمفردات إلّا أنّه مازال طفلًا وما زال غريبًا. والجسد هنا ليس رمزيًّا، إنّما هو واقعيّ عبر عن حالة الشعر وحبّ المرأة وعدم انفصال الجسد عن الروح. وهو هنا لا يؤمن بمدرسة الحبّ العذريّ وحديث الروح. وربّما تكون مفردات الجسد والشعر تعبيرًا عن انزعاج الشاعر من المرأة في بعض الأحيان التي يريدها صامتة
أو العكس، وربّما في إشارة إلى ما عاناه الشاعر من إقصاء وتهميش الجسد. وسعى من خلال نصوصه إلى الدعوة إلى التحرّر بحثًا عن وجوده ووجود الأنا بطريقة غير مباشرة وإثبات كينونته في هذا الوجود من خلال المرأة والشعر وربّما العكس؛ وهي حالة الشغف المستمرّة التي لا يريد لها أن تتوقّف،
وكأنّ الدلالة الشعريّة هنا ومفرداتها متنفّسٌ له يجد فيها حرّيّته أو يدعو من خلالها إلى الحرّيّة، فمعظم نصوص الشعر تتمحور حول الذات = إثبات الوجود
المباشرة = الحرية
النصوص = مشروع فكريّ. يتعامل الشاعر مع المرأة التي لا تفارقه كأنثى في كلّ اتّجاه في الطريق، الحدائق الممرّات، البنوك الخ.
وحينما وُجدت تحدّث معها بلغة الحبّ والغرام، رمقها بنظرة، بكلمة بهمسة، بلمسة. هي بالنسبة له مشروع أو لحظة يقضيها في راحة واستراحة وحب، يتغزّل فيها، يلاحقها ويملأ جعبته من رحيقها.
أستمع إليه:
(٣٠)
“عندما التقيتها أوّل مرة لم أكن أعرف أنّ جمالها شاسع:
وجهها يفتتح حفلة الحياة في كلّ لحظة صدرها العظيم
يخطف الأنفاس العميقة منحدرات ردفها الخطرة تقول الإغراء بكلّ اللغات شَعرها القدير صورة الشتاء الأوّل خطوتها شهوة زكية تتقن فنّ الإبداع والآن كلّما اشتاق إليها يتساقط المطر على جسمي وتنبت الأزهار على أطراف حياتي ثمّ تقف الشمس فوق رأسي تراقب أعراء الأشجار المجاورة لعمري”.
والملاحظ هنا أنّ الفعل المضارع يدلّ على استمراريّة الحدث يفتح، يخطف، يتساقط؛ هذا النص هو الديوان بعينه، وكلّ النصوص والديوان الذي يعبّر عن أبجديّة الشعر والشاعر ومشروعه، ومفرداته وأدواته، ويظهر الجسد كمحور أساسيّ تقوم عليه ركائز الديوان باعتباره شعلة الإبداع والتوهّج والدافع وراء الحبّ والكتابة
ورغبات = اندفاعات
ينتج عنها إبداع الجسد = المتعة = البعد عن التفكير بالتعبير ليجد الشاعر في نصوصه المرتع الفعليّ وسبحاته وتخيّلاته ليصبح في أفقه الدلاليّ داعيًا إلى التحرّر، فالجسد في النصوص بكلّ مفرداته من القدمين وحتّى الرأس والشّعر ما بين بين. كلاهما هو المرتكز الرئيسيّ للشّعر والمحرّك الفعليّ حاضرًا وماضيًا ومستقبلًا.
أستمع إليه في نصّه المعَنْوَن
“في محيط أنوثتك” ص (٣٥)
“في محيط أنوثتك يلتقي الليل والنهار ينجدلان مثل
جدائلك يحوّلان ثم يتحوّل إلى صورتها”.
وفي الصفحة (٦١) يقول في نصّه بعنوان “صورتها”:
“عيناها شتاء أخضر في نهار أسود
ثغرها ثمرة ناضجة
صدرها سيّد جالس
يصعد ولا ينزل وجهها يطرق في الهواء
وجوها”
فيضبط الشاعر شعره على إيقاع الجسد ويفتح لنفسه في هذه المتاهة سكنا ونافذة في النهر ..
لكنّ الديوان للحقيقة فيه من القصائد التي تعبّر عن مشاعر الحبّ والوفاء بعيدًا عن لغة الجسد، وهي قصائد جاءت وليدة ظروف حقيقيّة مرّ بها الشاعر إثْر حادث ألمّ به. وحكت لي صديقتي غنى حليق عنه وكانت غنى نعم العون له وإن كان لم يذكر اسمها صراحة، لكن الصورة واضحة كما في ص (٤٣):
“كاد يموت
في الحادث لكنّك حضرت فجأة
وأعدت له نبض قلبه
ولا ينسى
ولن ينسى
كيف نزلت من سيّارتك ووضعت يدك على خدّك بلهفة وانتظرت طويلًا كي يصحو من الصدمة وعندما ذهب معك وجد نفسه في غمرة العاطفة، حقًّا إنّه حادث يحيي”..
وفي ص(٤٥)
“وأنت واقفة في مكان الحادث قبالة خوفي كنت أرى هبوبك يحفظ البساتين
المحيطة ثمّ يرتفع فوقها كطائر يسبح فوق ليل الليمون
يراقب عذابي المفاجئ”
وفي ص (٤٦)
“أثناء الحادث وأنت معنا مذهولة
أمام السيّارة المحطّمة لم أكن مصدومًا من هول الكارثة كنت أمارس الصبر بكلّ قوّتي كيف أنجو من انهيار محتمل بعدما حلّقت أنوثتك وحطّت على أكتاف حياتي”.
ولأنّ الشاعر لا يستطيع أن يحيا بالجسد فقط فهو روح قبل كلّ شيء، لا يخلو الديوان من الحبّ العذريّ الواضح كما في ص (٣٣) وص (٥٢).
ففي ص (٣٣) يعبّر الشاعر عن حالته حين ذهب إلى قريته أسبوعًا ولم يتحمّل بُعد حبيبته أو زوجته عنه فيقول: “مكثت في قريتي أسبوعًا أمارس الهدوء
أقطف الصمت والأزهار والشمس في كلّ يوم
كان صمتي يتّسع وشمسي تزهر
أمّا زهور حديقتي فلم تَبُثَّ عطرها ظلّت منحنيَة كعلامة استفهام أعتقد أنّها تسأل عن أنف امرأتي ..
وفي ص (٥٢)
“أمشي على طريق طويل معي أشواق كثيرة ثقيلة تكاد تقصف ظهري يتبعني سرب رغبات
فوقي قطيع من الغيوم العذراء تمطر حبًّا جبيني ينزّ حنانك وعليّ الوصول إليك لأضمّك قبل العتمة” ..
وهنا يصف الشاعر عدم قدرته على التحمّل، فتحنّ روحه إليها، ولا يستطيع البعد عن حبيبته أسبوعًا. والملاحظ هنا أنّ شِعر إسماعيل فقيه حالة من حالات القلق المصاحبة للتفكير الذي أنتج هذه النصوص، فلا هو شبع من الجسد ولا غذّته الروح؛ فهو وإن بدا كأنّه لا يتأرجح بين الغموض والوضوح إلّا أنّ نصّه واضح وكاشف ولا يحتاج إلى رمزيّة لأنّه صراع واضح مع الذات والأنا والحرّيّة ولا تشغله العلاقة مع المتلقّي بقدر ما يشغله البوح والتعبير عن الذات، فهو كما هو لا ينفصل عن ذاته. من هنا جاءت نصوصه معبّرة وواضحة وصادقة وتنضجّ بالتعبير، والتعبير بصدق والحالة الشعورية والتجربة التي يعيشها إسماعيل فقيه، فهو في نصّه الحداثي لا ينفصل عن التجربة الإنسانيّة التي هي أحد أهم ركائز قصيدة النثر، وكذلك التعبير بحرّيّة وخاصة مع الجسد وانسحاب النصّ الشعريّ على كلّ شيء في الحياة والإنسان، وأنّ الغموض البيانيّ بعيد كلّ البعد عن التجربة، وأنّ الشّعر لم يعد منفصلًا عن حيَوات الناس الذين يجب أن يتفاعلوا معه وإن كان الشعر العامودي أيضًا ومنذ العصر الجاهلي لم يغفل ذلك، وامرؤ القيس خير دليل وبَعده أبو نواس ثم في عصرنا الحالي نزار قباني وسعيد عقل والأمثلة كثيرة وأيضًا الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة ..
يضمّ ديوان “نافذة في نهر” مجموعة من الومضات ذات التكثيف والصورة والإدهاش وصلت إلى ما يقارب أو يزيد عن الخمسين (٥٠) ومضة أي تقريبًا نصف الديوان أو أكثر أو الديوانَيْن إذا اعتبرنا أنّ الديوان يضمّ ديوانَيْن؛ وهي أيضًا هنا تتناسب وتتناسق مع قصيدة النثر والحداثة. فَوجودها في الديوان ليس غريبًا ولا مخلًّا، وأظنّ أنّه قصد وعمد إليها عمدًا أي أنّها مقصودة منه لأنّها دفقة شعريّة ذات فكرة واحدة بكلمات قليلة سريعة وواضحة ولا بدّ أن تتميّز عن غيرها أي لا تخلو من الشعريّة (الصورة الإيقاع) ولا غرو أن نجد الشاعر إسماعيل فقيه في ديوانه قد افتتح الديوان بومضة بعنوان “استمراريّة” يقول فيها :
“أنت الآن كثيرة ورائحة جسدك تفوح من جسدي”.
وفي ص(٣٨) ومضة بعنوان “حبّ”: “سنبقى معا في قبلة واحدة” .
وفي (٣٩) ومضة يقول فيها: “رأيتك تشمّين عمري ثمّ تقطفينه وتعلّقينه فوق صدرك”.
وفي ص(٥٨) يقول في ومضة بعنوان “نورك”:
الليل الذي احتواك يسأل عنك يفتّش عن نور يرصّع عتمته الكثيفة”.
وفي ص(١٠٦) يقول في ومضة بعنوان “ذوبان”:
“إلى متى سأبقى شمعة أذوب طوال الليل” .
في ص (١١٦) يقول في ومضة بعنوان “ألم”:
“بعد غيابه الكبير عاد إلى أهله ووطنه ولكنّه مات من الفرح” .
وفي ص (١١٨):
“إنّه على موعد يوميّ مع كلّ الآهات”.
والملاحظ هنا أنّ ثقافة الشاعر ووعيَه باللغة والمفردات وبالإيجاز والتكثيف جعله يتقن فنّ الومضة ويطوّرها لتتداخل مع الجمال والفكر. والقارئ لديوان “نافذة في نهر” يكتشف التكثيف ككلّ سواء في النصوص أو الومضات
والرؤية الكلّيّة للشاعر. والديوان ومشروعه ككلّ تعانق فيه الشكل بالمضمون، اللفظ بالمعنى والقصيد بالفكرة والبعد عن الغموض بالإيحاء على عكس توقّعات النقّاد عن قصيدة النثر وأنّها يجب أن تتّصف بالغموض
والإيحاء وتعانق الجسد مع الروح وإن غلبت لغة الجسد
إلّا أنّه لا يستغني عن الروح،
فالإنسان روح وجسد
وما بين بين كلاهما يحيا حياة الأبد.
في نهاية حديثي عن الديوان تحيّة إلى المبدع الشاعر الكبير إسماعيل فقيه، وتحيّة إلى زوجته الصديقة غنى حليق وإلى الأمام دائمًا..
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي