“بين ثقافة اللفظ ودلالة الصورة” ، عنوان قراءتي النقدية في ديوان ” نزيف الغربة ” للشاعر والروائي والناقد المصري ناصر رمضان عبد الحميد إصدار عام (2022) م
إن عنوانُ الديوان – أو أيّ عملٍ أدبي – لا يشكل مفتاحا ذهبيا ، إلّا إذا فتحت دلالتُه الكليّة مغاليق الدلالة الجزئية في كل قصيدة على حدى ثمّ امتدت في الوحدات الدلالية الصغرى لكل عنصرٍ وأسلوب فني، فنرى هذا العنوانُ في كليته كاملا ، ثم نراه في جزئيته منتشرا في عناوين قصائد الديوان أو متن القصيدة بذات الروحية.
وهذا ما اتّبعه الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد، في ديوانه نزيف غربة .
جاءَ عنوانُ الديوان – نزيف الغربة – جملةً اسمية ، تضمّنت طرفين ، أحدهما : النزيف الذي جاء حدثا خاليا من الزمن لا يشير لوقت محدد وإنما إلى حدث وقع فعلا، ودلالة النزف تحمل العديد من الدلالات في الأدب، منها:
الألم والمعاناة: يمكن أن يرمز النزيف إلى الألم الجسدي أو العاطفي، ويعكس معاناة الإنسان وآلامه الداخلية.
الفقدان والضياع: يمكن أن يربط النزيف بفقدان شيء مهم أو شخص عزيز، مما يثير الشعور بالضياع والحزن.
التفريغ والتحرر: في بعض الأحيان، يُرى النزيف كطريقة للتخلص من العبء النفسي أو العواطف السلبية، حيث يعتبره الشاعر وسيلة للتحرر والتطهير.
التحول والتجدد: يمكن أن يرمز النزيف أيضًا إلى عملية التحول والتجدد، حيث يشير إلى نهاية دورة وبداية جديدة، مثل تجديد الحياة بعد الصعود من الأزمات والمحن.
الصراع الداخلي: يُستخدم النزيف في بعض الأحيان لتمثيل الصراعات الداخلية أو الخارجية، نتيجة للعنف أو القهر أوالصراعات السياسية أو الاجتماعية أو النفسية.
الثاني غربة أي غربة الشاعر والغربة تحمل عدة دلالات منها:
الفراق والانفصال: لتعبر عن حالة الفراق والانفصال عن الوطن أو الأهل والأحباب، وما يترتب عليها من مشاعر الحنين والوحدة.
العدمية والغيرة: قد تكون الغربة حالة من العدمية والعدم التمايز، حيث يشعر الشخص بعدم الانتماء للمجتمع الجديد الذي يعيش فيه.
الثقافية والاجتماعية: الغربة قد تكون عدم الانسجام مع القيم والعادات والتقاليد في المجتمع الجديد، مما يؤدي إلى شعور بالعزلة والفردية.
التجربة الروحية: قد تعبر الغربة عن حالة من البحث والاكتشاف الروحي، حيث يسعى الفرد للتواصل مع الذات والعالم بشكل أعمق.
الانعزال والعزلة الاجتماعية: الغربة قد تعبر عن حالة الانعزال والعزلة الاجتماعية، حيث يشعر الشخص بعدم الانتماء إلى المجتمع والانفصال عنه.
هنا أريد أن أشير إلى لفظ غربة التي اقترنت بشكل مجازي بالنزف، ما جعل منها فعلا شعريا بامتياز وهي في الحقيقة ليس فعلا، هذه سمة فارقة تميز الشعراء عن غيرهم من حيث الأخذ بتأمل الغموض ورسم الرؤى وتجسيد الحلم على واقع ما بطريقة المجاز وبلاغة الدلالة.
ونرى هذه الدلالة في هيئاتٍ أخرى وتشكيل مختلف على مساحة هذا الديوان ، منها : التأويل الذي ورد في الإهداء : ” حين أردنا الغناء كنا نعرف أننا في زمن الغثاء ” . كما طالعنا في هيئة أخرى غير تقليدية ، في نزيف الغربة لم يتم ذكر الغربة بشكل مباشر؛ ومع ذلك، يمكن أن يُفسر بعض النصوص والأحداث في في ديوانه بوصفها مؤشرات أو رموز لبعض الجوانب النزف والغربة.
وكل جملة في القصيدة تعكس شكلاً ذهنياً مميزاً، حيث تتفاعل الكلمات والعبارات مع بنية الجملة لإنشاء صورة أو فكرة معينة في عقل القارئ، هذه الصور اللغوية تتكون من تفاصيل الجمل والتراكيب * السينتاكسية واستخدام الأصوات اللغوية، مما يضيء على مضمون القصيدة بطريقة ممتعة ومثيرة للاهتمام.
فلو كانت القصيدة تتحدث عن المحيط وجماله، فإن الجمل والعبارات التي تصف ألوان المياه وحركتها وتناغمها تساهم في بناء صورة ذهنية مفصلة للمحيط في عقل القارئ، حتى يكاد يتذوق الملح في مياهه وهو يسبح في خيال لا يُحد، بهذه الحالة تشكل الجمل اللغوية والدلالات اللفظية جزءاً من الصورة اللغوية الكاملة التي تنقل الإحساس بجمال المحيط.
بالتالي، فإن فهم العلاقة بين الجمل والدلالة يساهم في توضيح كيفية تكوين الصور اللغوية وفهم مضمون القصيدة بشكل أعمق وأكثر اتساقاً. كيف إذا كانت هذه الجمل شعرية ذات دلالات مكثفة؟
نزيف غربة – دلالة تترددُ في عدة قصائد في هذا الديوان ، كأحد العناصر الفنية المُؤسِّسة للرؤية التي طرحها الشاعر فدلالةَ كلمة : “غربة” في عدد من قصائد مختلفة للشاعر، فهي – كما سيتضح – تُفارقُ دلالتها الحرفية المُشكلة في شبكة التصور الذهني لتكتسب دلالات مختلفة، وقد حاولت ترتيب دلالاتها المختلفة ، ولو كانت هذه الدلالات في قصيدة واحدة لتحولت هذه الغربة إلى رمزٍ إسقاطي بسيط كما في قوله: :
في قصيدة ويجيء العام:
- فأعود وحيدا
وأصير بعيدا
أتشبث بالأحلام - وحين يقول في قصيدة نزيف غربة:
كغربة الماء
حين السيل يأتيه
يمضي بلا وجهة
والريح تلقيه
يروي الزروع .. ويسقي الناس أغنية
ودمعة الشوق تجري في مآقيه
يقدم الشاعر ناصر عبد الحميد في قصيدته هذه رؤية مميزة لتجربة الغربة، حيث يصوّر هذه التجربة على أنها هوية فريدة لكل فرد يعيشها. يصفها كواقع مرهق ومعقد، يصعب على الأفراد فهمه وتحمّله ومواجهته. النزف، من وجهة نظر ناصر عبد الحميد، هو تجسيد لهذا الواقع المعقد الذي يتغلغل بعمق في الذات والمكان والهوية. يظهر النزف هنا كمفهوم يجتاح الفرد دون رحمة، مما يعكس حالة الارتباك والاضطراب التي يعيشها الشخص بسبب تجاربه وتجاربه الحياتية فيعيش غربته بين الناس غير محيطه لا يسمع منه سوى أغانيه وفرحه كما أرى أن الناس تسكر بدموع بعض الشعراء - في قصيدة أجهرْ يقول الشاعر:
- لن يسمعوك وحولهم صخب الكلاب العاديات .. فضجيجهم بغتال صوتك ألف مرة
هنا يشكو الشاعر من البشر الذين يغطون أصوات الحقيقة بأصواتهم الباهتة، يختبئون وراء نباحهم العشوائي، يضيعون بين رماد الضجيج والأحلام الهامسة لتبقى كلماته المتجذرة في المعنى، مغمورة في بحر الهراء، لا تسمعها سوى أذن الصمت، ولا تتسع لها إلا أرض الوحدة وهذا يوضح سبب إحساسه بالعزلة والغربة والنزف من المعاني لأنها تقع على غير أهلها.
– قصيدة شراب:
وضللت قلبي والوصول إلى طريقه.
تترنحُ روحه في داخله، تائهةً في متاهات الظلمة، وهي تسعى جاهدة للعثور على الطريق الذي يؤدي إلى النور.
– قصيدة ليل الصبّ داجٍ: - ما بال ليل الصب داج، لم يشبه خيط نور، م باله لا صوت فيه كأنه صمت القبور، لا رنّ فيه صدىً، ولا هزّته زقزقة الطيور
نراه ينزف بحدة في هذه القصيدة قائلا ها هو الليل ينغمس في السكون، كأنه يتخذ لون الحزن، وكأنه لم يُشبه أي خيطٍ من النور. يُغمره الصمت كصمت القبور، لا يصدح فيه أي صوت، ولا يرتجف له أي صدى، ولا يعتليه همس الطيور. ونلاحظ كلمة يشبه فلم يقل يظهر فيه النور دليل على بعد واغتراب هذا النور عنه
ثم نرى في – لمحات استمرار النزف في: - يا قسوة الليل حين الليل يأتيني .. فلا خلٌّ يداعبني، ولا روح تواسيني
وهنا اتضاح لغربة النفس ووجع الروح في خلوة الليل الذي تتعملق به الأحداث في سكون موجع لأن الليل ننصت به إلى أرواحنا بعد العمل والتعب فننسى حلقة المتطلبات المادية التي ندور فيها لنستمر ونركن إلى ما ننتظر وما نفتقد ومن نفتقد فنعملق الأحلام والأخيلة لنتوازن
نلاحظ مزج الشاعر لذاته بدلاة الغربة والنزيف الذي يلقاه مظهرا أهميته العلاقة الدلالية بينه وبين دلالة هذا النزف بثراء دلالي جميل وعميق ما دفع الشاعر إلى استدعاء بعض المفردات كـ غربة، الريح، يغتال، ضللت، ليل داج، قسوة، النفي في لا روح تواسيني..
يكفي ان نتذوقه لينقلنا على جوانح همسه وعلى وقع موسيقاه ومعانيه الى عوالم مخملية لنكون من جماعته ومريديه. - السينتاكسية: السينتاكس هو فرع من اللغويات يدرس تركيب الجمل والعبارات في اللغة، بما في ذلك الترتيب الصحيح للكلمات والعبارات والعلاقات النحوية بينها. ببساطة، يتعلق السينتاكس بكيفية تنظيم الكلمات والعبارات في الجمل لإنشاء معانٍ مفهومة ومترابطة.
*
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي