-الدوامة-
بقلم : بلقيس بابو
●●●
دخلت محطة القطار ترتدي عباءتها السوداء الوحيدة التي تملك ولا ترتديها إلا في ظروف خاصة، مادامت مشاغلها اليومية المكثفة داخل البيت وخارجه لا يناسبها إلا ما خف ارتداؤه من الثياب؛ تضع نظارات شمسية تخفي بعض الكدمات أسفل عينها اليسرى.
اتجهت صوب باب المحطة، تجر حقيبة صغيرة كأنما هي في سفر قصير المدة، قد تكون وضبتها في آخر لحظة قبل خروجها.
قصدت شباك التذاكر، تعابير وجهها ثابتة لا تتغير، من يتأملها لا يستطيع معرفة حقيقة ما بداخلها، نظراتها شاردة بلا تركيز، لا تنفعل كبقية الناس بمن يدفعها بكتفه، ولا حتى بمن تجاوزها في الصف متقدما على عجل نحو شباك التذاكر.
ملامحها جامدة لا تتأثر، كأنما لا أحد سواها بداخل هاته المحطة المكتظة على الدوام .
همست سيدة تقف خلفها: -“تقدمي سيدتي! من فضلك! إنه دورك!”.
تقدمت إلى شباك التذاكر ترددت قبل النطق، والموظف يسألها بإلحاح:
-” نعم ! نعم؟ ردي سيدتي! من فضلك! ما هي وجهتك؟؟!”
-“آخر محطة نحو الشمال !”.
ردت وهي تخرج من حقيبتها وريقات من نقود.
بعد تردد لا يخلو من استغراب، سلم لها التذكرة مردفا :
-“القطار بعد نصف ساعة، بالسكة رقم واحد”.
نصف ساعة قد تكون كافية لتناول وجبة سريعة في مقصف المحطة.
جلست لا تأبه بضجيج المسافرين ولا بحركات الواصلين ولا المغادرين ولا ترفع رأسها نحو شاشات المعلومات، تجول ببصرها في هذا الفضاء، كالباحث عن شيء مفقود، تحضرها لحظات من شريط حياتها، حياة قاتمة بلاهدف. لا بد لها من اتخاذ قرار حاسم، مهما كلفها الأمر لتتخلص من عذابها المتكرر.
ظلت شاردة، ولم يردها إلى ما حولها إلا مُواء بعض القطط التي اقتربت منها من أجل إطعامها، فتقاسمت معها أكثر من نصف وجبتها .
أدت الثمن للنادل الذي كان يراقبها باستغراب واضح.
توجهت نحو الباب المؤدي للسكة، فاستوقفها حارس الأمن ليخبرها أن قطارها قد غادر للتو وقد أقفلت أبوابه.
لم تجبه، ورجعت يائسة إلى شباك التذاكر لتغيير التذكرة.
نظر إليها المستخدم نظرة ذهول لصمتها المطبق وأخبرها أن عليها دفع مبلغ إضافي لتغيير التذكرة .
فتحت حقيبتها تتفقد إن كان ما بقي لها من نقود يكفي..
مدّها بالتذكرة الجديدة فتسلمتها، واستدارت لتتوجه إلى الرصيف كما ذكر لها.
تقدمت الى الرصيف حيث وقفت تراقب القطارات تمر الواحد تلو الآخر ، وأسراب المسافرين في حركاتهم صعودا ونزولا،
وضجيج الأحذية فوق تلك الأرضية الإسمنتية الصلبة على جنبات السكة الحديدية يزيدها توترا وعناقات الوداع المؤثرة، تشعرها بالكآبة وكأن صوتا ملِّحا بداخلها يدعوها للخروج من هذا المكان الغريب على عجل.
تساءلت فجأة وهي تهم بالصعود إلى القطار إن كان أفراد من عائلتها يقطنون بوجهتها؟
حاولت أن تفكر بهدوء في مكان تقصده، حيث لا يعرفها أحد .
كلما خطرت ببالها مدينة أو قرية تتخيل أن من تعرفهم قد يوجدون بها وإن بحث عنها أحدهم قد يجدها هناك .
وصلت ثانية إلى الموظف بائع التذاكر، لتغيير الوجهة هاته المرة نظر إليها نظرة استغراب متسائلا إن كانت في كامل قواها العقلية .
ناولته ورقة نقدية لأداء تكلفة تغيير التذكرة قبل أن ينطق، تفاديا منها للسؤال والجواب.
أخذت تذكرتها الجديدة و أسرعت لتلحق بآخر قطار، ما إن تقدمت حتى لمحت ذلك الجار الفضولي، الذي لاتطيقه يدخل المحطة ويتصفح وجوه المسافرين واحدا واحدا، كأنه يبحث عنها. ارتعدت فرائسها وخفق قلبها ذعرا واندست خلف شاب طويل القامة، ثم انسلت مسرعة نحو باب الخروج.
صعدت إلى أول سيارة أجرة وجدتها أمامها، وقبل أن يسألها السائق عن وجهتها بادرته بالسؤال إن كان يعرف فندقا بثمن مناسب.
-“الفنادق الرخيصة لا تناسبك سيدتي، يبدو أنك سيدة محترمة! لكنني سآخذك إلى فندق أعرف صاحبه وبأثمان معقولة!”.
أشارت بالقبول محركة رأسها.
انطلقت السيارة والسائق لم يكف عن طرح الأسئلة .
دخلت إلى الفندق يرافقها السائق ليوصي صاحبه كما وعدها بذلك، فالفنادق تنبت كالفطر في هذه المدينة الكبيرة وقد بدأت الشمس تغادر السماء الملبدة بالغيوم.
-” بطاقتك! سيدتي!”
طلب منها موظف الاستقبال.
أخذها منها ثم نظر إليها من خلف نظارته نظرة غريبة:
-” آسف! لايمكننا إيواؤك سيدتي!”.
-“لماذا؟”.
سأله السائق مندهشا.
-” لأن بطاقتها تحمل عنوانا بمدينتنا نفسها ، إنها تقطن هنا، لايسمح لنا بذلك إلا إذا تعلق الأمر برجل، في هذه الحالة، فلا بأس!”.
اسودّت الدنيا في عينيها كأن ظلام الليل قد سبق موعده إليها، وصرخت محتجة:
-“هذا ظلم؟ أي قانون هذا؟ أحقا يُعمل بمثل هذا القانون؟ أنحن في القرون الوسطى؟؟”.
-“لا أعرف سيدتي إن كان قانونا أم لا، لكنها التوصيات التي نعمل بها منذ زمن بعيد! أنا أنفذ الأوامر سيدتي!”.
انفجرت باكية وهي تمتم :
-” لا أريد أن أعود لذلك البيت اللعين! لا أريد ذلك الجحيم! .. “
-“لا يمكنني فعل أي شيء سيدتي، لا أستطيع مخالفة الأوامر، اعذريني أرجوك!”.
جففت دموعها وقبلت أن ينقلها سائق السيارة إلى العنوان نفسه الذي تحمله بطاقتها.
مدته بأجره قبل أن يتذمر من الأمر .
تسلمه وهو يجر حقيبتها إلى الطاكسي في دهشة مما يحدث.
أوصلها إلى باب المنزل، وانطلق مسرعا كمن يخشى أن يقع في ورطة.
تصلبت أمام الباب كمن رأى شبحا، مدت يدها وهي ترتعش تدق جرس الباب، ما إن فُتح الباب حتى بادرها بصوت مرتفع مزمجرا:
-“أين كنت طوال اليوم؟”
قالها وهو يرفع يده ويوجّه لها صفعة كما تعوّد كلما تملكته نوبة الغضب!
الروائية العراقية ساهرة سعيد تعدّ من الأصوات الأدبية المميزة في الأدب العراقي المعاصر. تمتاز كتاباتها بالغوص في عمق التجربة الإنسانية،...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي