“ثلاثيّة عشق” لعبير عربيد ورقصة التّجلّي.
تتجلّى عبير وتتمايل على إيقاع موسيقاها العذبة وتمتح من بئر الأدب، ترى العالم من زاوية الحبّ، والحبّ صفاء في النّفس ولطافةٌ في الحسّ. الحبّ يجعل المُحِبّ يرقص طربًا على نغمات لحنه الوثير والأثير. في مرحلة ما من الزّمن يتغيّر فكر الإنسان ويصبح قادرًا على معرفة ما وراء المحسوسات ويرى العالم برؤية مختلفة عمّا كان يراها، وقد يدفعه ذلك إلى حبّ التّغيير أو التّعبير عن الحالة النّفسيّة التي يحياها ويريد أن يشاركها مع مَن يحبّ، يشعر بالحنين إلى الرّوح والبَوح، ويريد أن يتجلّى بعد أن يتخلّى ويتحلّى، شعاره بشر ولا بشر
“أنا أرنو إلى مجلاكا روحي بلا كيفيّة مزجت بقطر نداكا
روحي ترفرفك الطّيور تحوم نحو سماكا
ويدي ستضرع بالحنين تعانق الأفلاكا
والقلب في خفقاته قد ذاب في نجواكا”
تتنقل عبير كما تقول بين صفحات كتابها وكفُّها مرفوعةٌ إلى السّماء تناجي الخالق، هارعةً إلى بابه، فازعة إلى رحابه، ولغتها المحبّة تنهل منها فيضاء لها الطريق. الحبّ عند عبير هو سرّ وصولها واتّصالها، ومحبّتها هي سرّ حياتها ومناجاتها على مناخ الشَّوق. أبدعت الوجد بُرعم لغتها وسرّ جمالها حبّها لخالقها أنداح مع حبّها لمحبوبها، فصارت تحفظ العهد والوعد، وصار حبّها هو السّنَد وهو المَدَد، وجودها وَجْد، وصمودها بلا حدّ، وعطاؤها بلا عدّ، والحبّ ارتضته شعارًا لها لأنّه أوصلها بخالقها؛ مهما حاولت التّجلّد والتّمنّع هي ارتضته رغم القيد، وبَوْحها ما هو إلّا حبل وصل ووصال: “إنّي ارتضيت من الغرام بقيده
ما عاد يجدي في هواه تمنّع”.
حالة التّصوّف في الكتاب ظاهرة جليّة وهي حالة نفسيّة مرجعها حياه المبدعة وما تمرّ به كَنَوع من الانعكاس الذي يتحوّل أحيانًا إلى إفلاس، وأحيانًا أُخرى إلى تَحَدٍّ ونجاح كما هو في حالة “ثلاثيّة عشق”.
هذا النّجاح سرّه وسرّ بقائه تمسُّكها بالحبّ. فعَبْر ثقافتها الواسعة واطّلاعها على أهل المَدَد وأقطاب التّصوّف،
أبحرت محلّلةً وفيلسوفةً وشاعرةً ومريدةً لتقول لنا
وللأجيال القادمة إنّ الحبّ هو الوجود، وهو سرّ الخلود؛
فأَحبّوا، أَطلِقوا العنان لأرواحكم وقلوبكم، حرِّروها من ثقل الأعراف، فنحن بدون الحبّ لن نكون ومَن نكون، لا شيء سوى سراب، وكأنّها تردّد مع الحلّاج:
“إذا هجرت فمَن لي
ومَن يجمّل كلّي
ومَن لروحي وراحي
يا أكثري وأقلّي
يا كلّ كلّي فكن لي
إن لم تكن لي، فمَن لي”
حالة العشق هذه جعلتها تتوهّج إبداعًا ونغمًا رغبةً منها في إشعال نار الحبّ لتُدخِلنا معها إلى حدائقها وإلى حدائق العشق ومدينة المحبّين؛ هذه المدينة طُرُقها ذِكْر وسماؤها شعرٌ وفي كلّ ركن من أركانها طُهْرٌ. تقول عبير:
“حدائق نور غنّاء ألحانها أناشيد بهيّة أنغامها سحريّة الرّوح نشوة تتصاعد من نورها ألوان قوس قزح فتطرب العيون كما الآذان تخشع فيها”.
حالة التّوحّد مع الحلّاج وفي الحلّاج واضحة. وإطلاق العنان للرّوح أوصلها إلى هذه الحالة من الهيام والإبداع، وهو المقصود من الكتاب: دعوة إلى الحبّ ونَبْذِ الدّنيا وراء ظهورنا.
اختيار عبير للحلّاج في بداية الكتاب بعد شمس التّبريزي اختيارٌ موفّق، فالحلّاج قد أحبّ حبًّا إلهيًّا، وهو طابع القرن الثّالث الهجريّ؛ لكنّ حبّ الحلّاج كان مختلفًا، كان لونًا آخر يختلف عن ألوان الحبّ التي كانت عند باقي مَن عاصره أو باقي الصّوفيّة في القرن الثّالث الهجريّ، فَقَدْ لَوَّن هذا الحبّ بألوان نفسه المتوثّبة، فكان يصيح في الأسواق ويعلن حبّه دون خوف أو تردّد في حالة من الطّرب والتّجلّي، فحبّه كان أوسع مدًى من حبّ غيره.
ومن نتائج حبّ الحلّاج الإلهيّ قوله بوحدة الأديان والثّقافات، وها هي عبير تقول:
“تمارس طقوس الثّقافات كلّ الديانات واللّاديانات ينابيع المحبّة، تسقيك منها فتتفتّح فيك الأكوان براعم تكمل دورانها بهدوء فتنثر الفرح في كلّ الأرجاء”.
الحلقات الرّئيسيّة التي تتكوّن منها مجموعة “ثلاثيّة عشق” هي تطوّر طبيعيّ لحياة عبير و إبداعها وخوضها غمار الأدب، حياة روحيّة تحاول أن تعبّر فيها عن عشقها عبر الكلمة وتظهر بثوب مختلف عن المرحلة السّابقة في كتاباتها وإبداعها. تمتاز هذه المجموعة بسلاسة الأسلوب وعمق المعنى في حالة من السّياحة والسّباحة والقناعة، تعبّر عن مشاهدتها وتفكيرها في هذه المرحلة العمريّة خارج دائرة المألوف عبر بحار المعرفة بين الفلسفة والتّصوّف والأدب، تتواصل مع اللّغة تواصلًا روحيًّا، تطوّعها، تقطّعها حسب ما تريد، ومُرادُها جديد، وثقافتها رغم قلّة العبارة واسعة. لا يظنّ القارئ الفطن بل يدرك أنّ عبير لا تدعو إلى ترك الدّنيا وملذّاتها وإنّما تدعو إلى ما أعمق، إلى ما هو أبقى، تدعو إلى الحبّ، إلى الوحدة والتّوحّد مع الذّات العليا لنصل إلى حبّ بعضنا والبعد عن الحروب. تريدنا أن نحيا بالحبّ ومع الحبّ وللحبّ، فحياتنا الاجتماعيّة بدون الحبّ لا قيمة لها، وتواجُدنا على السّاحة شهود عطاء لجلب رضاء والحب عطاء يعطينا عطاء بلا حدود ولا قيود وكلّنا شاهد ومشهود.
وهي في ذلك أيضًا تشبه الحلّاج لكنّها تريد أن تعلّم الأجيال أنّ الحبّ إخلاص وتفرّد، وتُردّد مع الحلّاج:
“سكنت قلبي وفيه منك أسرار فليهنك الدار بل فليهنك الجار
ما فيه غيرك من سرّ علمت به فانظر بعينك هل في الدار ديار
وليلة الهجر إن طالت وإن قصرت فمؤنسي أملي فيها وتذكار
إني لَراضٍ بما يُرضيك من تلفي
يا قاتلي ولما تختار أختار”.
والمُلاحِظ في اختيار عبير للأشخاص الّذين توشّحت بهم وانسجمت معهم واستظلّت بظلّهم واستشهدت بهم قبل الولوج إلى عالمها الخاصّ، يجد اختلافًا مقصودًا سواء من ناحية المكان أو الزّمان أو العقيدة أو المرحلة الزّمنيّة أو الثّقافيّة؛ فالتّبريزي وجلال الدّين الرّومي والحلّاج والقشيري ومحمود درويش وجنبلاط إلى آخر هذه القائمة، فمن إيران إلى العراق إلى أفغانستان إلى فلسطين إلى لبنان، لتقول لنا في إشارة واضحة إنّه ليس هناك فرق بين الإنسان وأخيه الإنسان، جميعنا تجمعنا رسالة الحبّ. فاللّغة هي اللّغة في أيّ مجتمع، وسيلة للتّواصل بين البشر يعبّر بها الإنسان عن حبّه، والحبّ هو ديانة المخلوق وهو دين الخالق. فالحبّ لغة الجميع لا يعرف المكان ولا الزّمان وإنّما يجتمع العالم في اللّازمان واللّامكان.
تقوم فكرة الكتاب على بعض الآليّات التي تؤمن بها الشّاعرة وتريد أن توصلها إلى القارئ عبر كبسولة أدبيّة، مستشهدةً ومسترشدةً بالكبار لتدعم فكرتها وكأنّ ما تقوله ليس بِدَعًا من الكلام،وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم، إنّ التّشبّه بالعِظام فلاح.
_ فكرة العمر والسّنّ وهاجس الكبر.
_ فكرة أنّ الصّمت وقلّة الكلام ليس دليلًا على قلّة الثّقافة بل العكس هو الصّحيح.
_ فكرة الظّاهر والباطن وما يتعدّى الحواسّ (يعلمون ظاهرًا من الحياة الدّنيا).
_فكرة الأنا والذّات.
_ فكرة العلم اللّدني (وعلمنا من لدنا علما)_ اِعرف نفسك تعرفْ ربّك- المعرفة من الدّاخل(وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
_ الخلوة وتلاشي الزّمان المكان.
كلّ هذه المحاور تدور مع الحبّ ومع عبير دوران المحبّ على رقصة التّنّور دون أن تتوه خطاه أوتنزلق.
ثم يأتي الجزء الثّاني وهو تعبير لما جاء في الجزء الأوّل، وانعكاسًا طبيعيًّا له، وإن كنت أرى أنّ الجزأين الثّاني والثّالث كان لا بدّ أن يكونا كتابًا مستقلًّا، ليصبح الكتاب كتابيْنِ والعمل عمليْنِ، لكنّ للمبدعة الحرّيّة في ما تكتب وتبدع، لأنّ الإبداع في الأصل تطهير على حدّ تعبير سقراط. يستردّ الإنسان بالإبداع أنفاسه وأجراسه وأحلامه وينتعش على حدّ تعبير عبير، والحبّ أيضًا تطهير. أستمع إليها في نصّها المعَنْوَن (تطهير) وكأنّها تفصح عن الغرض والغاية من إبداعها:
“تتثائب أحلامي لتستردّ أوكسيجينها تنتعش
تعقم أنفاسها لتتطهّر بك
يا ملهم بسماتي كلماتي
ضحكاتي هفواتي
يا مؤنسي في سهراتي وعثراتي”
والملاحظ هنا حرف النّداء الياء الّذي يُنادى به البعيد البعيد الذي أبعدته الحياة وتاه وكيف والحبيب قريب، إنّها ياء النّداء المعنويّ، ياء النّداء لبعد الشّقة بعد الهجر بعد الحبيب والحبّ الّذي تبحث عنه، ثمّ تتحوّل إلى فعل الأمر:
“اُبذر مشاعرك اُتركها تمتزج بمشاعري
اُبذر كلماتك في مسامعي
قل ما يخطر ببالك وبالي
لا تختر العبارات
أطلق عنانها
فحروفك تحمل قواميس كلّ اللّغات”
وفعل الأمر معناه طلب حصول فعل من المخاطب لم يكن حاصلًا وقت الطّلب ومن سياق الكلام يتّضح المعنى وتظهر البلاغة حيث الالتماس والتّمنّي، فهي تلتمس من محبوبها وتتمنّى عليه أن يكون شجاعًا في الحبّ في بذر مشاعره وإطلاق العنان للغته، وحديث الحبّ لدى الأحباب حديث عذب وشجيّ.
في “ثلاثية عشق” لعبير عربيد توحّدت عبير مع العشق ومع المعشوق، فتولّد الجمال في اللّغة في المفردات وانبثق النّور في لحظات توهّج وتأمّل، فعزفت سيمفونيّة الحياة بحروف اللّغة العذبة. عادت عبير بعبيرها الفوّاح فأبدعت بعدما وحّدت نفسها في الحبّ ونذرت نفسها له وردّدت مع الحلّاج:
“لبّيك لبّيك يا سرّي ونجوائي لبّيك لبّيك يا قصدي ومعنائي أدعوك بل أنت تدعوني إليك فهل ناديت إيّاك أم ناجيت أيائي يا عين عين وجودي يا مدى همي
يا منطقي وعباراتي وإعيائي
يا كلّ كلّي ويا سمعي ويا بصري
يا جملتي وتباعيضي وأجزائي
يا كلّ كلّي
وكلّ الكلّ ملتبّس
وكلّ كلّك ملبوس بمعنائي”.
تحيّة للأخت والصّديقة الشّاعرة الجميلة الّتي أعتزّ بها كأُخت وصديقة ومبدعة وعُضْوٍ في ملتقى الشّعراء العرب، ومشرفة على مجلّة أزهار الحرف. عبير في كلّ ما تكتب تبدع ويفوح منها عبير الحبّ والجمال والأمل. تحيّاتي وإلى المزيد من الإبداع.
_______________
ناصر رمضان عبد الحميد عضو اتّحاد كتّاب مصر
رئيس ملتقى الشّعراء العرب
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي