الناقد العراقي عقيل هاشم يستعرض مسيرة ياسين الغماري في زمن التعب المُزمن
تجربة الكتابة الإبداعية هي جزء أساسي وحميمي من تجربة الحياة بأبعادها الفردية والاجتماعية والإنسانية. وإذا كان هناك مبدعون يميلون إلى الكتابة عن الآخر فمن الطبيعي والمنطقي تماماً أن نجد كُتَّاباً آخرين يتوجهون بمجمل إبداعاتهم السردية أو عالم الذات. من فظهر ما يمكن تسميته بالرواية الذاتية التي اقتربت
فالعلاقة بين السيرة الذاتية والرواية، هي علاقة ملتبسة كثيراً �ما تفضي التفاعلات بينهما إلى نصوص إبداعية متميزة، تثير اهتمام القرَّاء والنقاد داخل سياقات التداول وكل نص في المحصلة، هو نتيجة تكييف لنصوص وخطابات أخرى كما يرفده التخيل والتذكر،وخبرات المعيش.. يكون الروائي مصدرا لتخيلات الراوي. وتوفر هذه الممارسة حرية غير محدودة في تقليب التجربة الشخصية للروائي،وإعادة صوغ الوقائع واحتمالاتها،
الرواية “زمن التعب المزمن: للكاتب ياسين الغماري بمثابة رؤية نقدية جريئة لواقع بشري متحكم فيه –المركز- نظام آلة القوة العالمية الاستهلاكية ،وأخر مستلب يمثله الهامش- فهو واقع مهيمن وطاغٍ،إنِّه صرخة لاستعادة الإنسان لكينونته وحريته.-
” الرأسمالية اخفقت في تثبيت الانسانية .حققت التطور التكنولوجي على حساب الجانب الاجتماعي, اطراف تعيش في ترف اجتماعي يخنق اطراف اخرى من اجل الربح ,هذا ما يسمونه صعود التقسيم الطبقي ,هنالك حفرة ضخمة أنشأتها اللوبيات لكي يسقط الفقراء فيها ويستعبدونهم…”
الواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر هو واقع مزيف. أي مشوه. واقع لا يمتّ بصلة للواقع الفعلي و الحقيقي، الذي عشناه قبل سقوط جدار برلين.. هذا الواقع، كان واقع الوضوح و التوازن الأيديولوجي بين الشرق و الغرب ( نظام القطبين الأمريكي و السوفياتي – سابقا.. الذي تحول عنوة إلى نظام القطب الأمريكي الواحد )، واقع النفي و الأطروحة و نقيضها، واقع تجاوز البنيات التقليدية الهشة و الصراع من أجل تجديد دماء الحياة، التي تعني حياة الثورة و التغيير و الحرية.. إنها المعطيات المبدئية الأساسية،التي تقوم على أساسها –موت الواقع-أطروحة المفكر الفرنسي جان بودريار.
الرواية – “زمن التعب المومن” ..نص سردي عبارة عن محاورة بين الانا /الاخر تروى في سياقاتها، محن الأنا مع صورها من ضمائر الهو والمخاطب والنحن، مسارات المتاهة ،يسردها راو بوعي شقي وشعري مثقل بمرجعية تحيل على واقع صاخب بالصراع، انعكس على النفس/الوجدان ، ويعبر عن موقف اجتماعي مر به مؤلفها ،عبر توظيف أشكال ومضامين تتواشج فيها المعارف0 فكريا -الدينية والسياسية ..الخ ، في سياق تهكمي. وضمن هذه الدائرية الحوارية المنسابة تنكتب الحوارات الصاخبة للمتخيل السردي ، بلغة تقصد الخطابة والانتقاد، ثم التعليق والتأمل والسخرية..
الرواية فصول حياتية زمنية عاشها الكاتب – سيرته وأفكاره، ضمن مؤلف حمل اسما لافتا وهو “زمن التعب المزمن”، يكشف لنا الكاتب عن محطات معروفة وغير معروفة من حياته. يصطحبنا فيها برحلة ممتعة ، كل ذلك جاء بلغة عالية، كاشفة, عن قرار في نفسه ربما يكون هرباً أم مواجهة. او ليواجه نفسه بمستوى من الاعتراف والمكاشفة، سعياً إلى الخلاص .
” وقد سئمت من كل المحن التي تطاردني ,كل الاشرار لاقيتهم ووحدهم الاخيار لا اصادفهم .هنالك من دس لعنات بحياتي فازلهاعني باي ثمن والا فاني سأقتل نفسي لا كسر هذه التعاويذ العفريتية وبقدر ما اعلمه ,ان انتحار شخص لم يعد واعيا لا يعتبر بمثابة قتل للنفس ,اما عن ذهابي الى احد العرافين والدجالين لن يزيد سو أتي سواءا. كل ماكنت افكر فيه هو بث نب أ موتي ….ص90″
أقول سرد مفعم بالسيرة ووصف الأمكنة بدقة والتي كتبت بلغة شيقة ووعي منفتح داعيا إلى التمسك بحبل الإنسانية والانطلاق إلى العالم. تمتاز بالحرفية العالية، ويسرد لنا أحداثا وطرائف أثرت في تكوين شخصيته. يدمج في هذه الممارسة الخطاب بينه وبين الراوي،فلا يفارق الثاني مرويه، ولا يجافيه، ولا يتنكر له، بل يتماهى معه،ويصوغه ويعيد إنتاجه طبقا لشروط الرواية السيرية.
ولا يتوقف السرد سواء أكان الحكي حقيقيا أم متخيلا، فهذا النمط من الكتابة النخاتلة يختزل قضايا متنوعة في شخص واحد، لكنه يدخل من خلال بطله إلى أماكن وأحداث وشخصيات وتفاصيل بدقة متناهية وكثافة موحية، ما يجعل من البطل عوالم وأشخاصا وأحداثا وتواريخ وأمكنة مختزلة .
” لم اتردد لحظة في تحويل وجهي الى الظلام ثانية .يداخلني احساس ان الظلام هو الشيء الوحيد الذي ليس الذي من الجائز ان يخذلني . الظلام صديق اخلص لي ,حبيب وفي , تلفني متى هويت في القاع السحيق, جعلني لا ادرك سطح القاع , الظلام لا يتجاهلني .رغم انني اتجاهله كلما ابصرت سطح القاع, رايت من الظلام الاخلاص والصدق والوفاء …ص117″
بطل رواية “زمن التَّعب المزمن” هو شابٌّ يفرط في تناول مضادات الاكتئاب،بعد تجارب يمر بها في حياته الوظيفية والعاطفية والدراسية. هو يمتلك ذات مرهفة, يقدم تنازلات كونه يسبح ضد التيار, تنازل عن أحلامه ,عشيقته وبالتَّدريج، بعد أن يكتشف زيف العلاقات
كان حلمه أنْ يصبح أستاذا جامعيًّا وفشل إثر تعنُّت وغبن إداريّ وقع عليه من أحد الموظفين، فصار جُلَّ همّه أن يحصل على درجة الماجستير على نفقته الخاصة بعد ضياع حلم تعينه كمعيد في الجامعة، وهو أيضا قد أوشك أن يتنازل عن حلم أن يصبح كاتبًا روائيًّا رغم امتلاكه خمسة روايات حبيسة الأدراج بسبب عراقيل النَّشر.
أيضا على مستوى الحياة العاطفية كان الفشل مصيره, فلقد مثَّل حبُّ “هالة” زميلة العمل طوق نجاة لهذا البطل المغترب عن الأخرينو عن ذاته، لكن هذا الحلم المخملي سرعان ما يتحوّل إلى كابوس،يكشف عن أحد قوانين المجتمعات الرأسماليّة، التي قوضت المشاعر الإنسانية من معانيها السامية، لتصبح علاقات و مشاعر هشة مبنية على مبدأ تبادل المنفعة. فالبطل يكتشف تورط رئيس البنك في عمليات غسيل الأموال، مما يعرض البطل للطرد نهائيا من البنك، فلا تتورع “هالة” عن التخلي عنه، ورفض مساعدته، والتصريح بأنها لن تتخلى عن وظيفتها من أجله، والتصريح دون خجل بأنها لا تحب، ولا تريد سوى المال، مما يسهم في مضاعفة و تعميق أزماته النفسية،الأمر الذي يدفعه إلى تناول ثمانية و عشرين قرصا من أقراص “ستيلينوكس” دفعة واحدة؛ بغية التخلص من الحياة،
ويستمر السرد بكشف عقدة الفشل لديه حين حاول ان يكون الباحث الجامعيّ السَّاعي إلى الحصول على درجة الماجستير، والّذي يقيس بحثه مدى فعالية البرامج التي تقدمها البنوك لتحقيق الحماية الاجتماعية والبيئية. والَّذي عانى من الاضطهاد، والظُّلم، ورغم حلمه بأن يحصل الآخرون على قسط وافر من العدالة الغائبة، فإن ذلك لم يمنع اغترابه عنهم، واغترابه عن ذاته. وَلمَّا كان من شروط إتمام الدِّراسة إعداد تقرير ميدانيّ، كان لزامًا على الباحث أن يلتحق بالعمل بأحد البنوك، حتَّى يحصل على المعلومات اللَّازمة لإنهاء بحثه. الأمر، الذي أتاح له اكتشاف زيف الشِّعارات، الَّتي ترفعها الكثير من المؤسَّسات الرَّأسماليَّة، ومنها المصارف والبنوك، الَّتي تَدَّعي زورًا قيامها بدورها الاجتماعيّ على خير وجه إزاء الطَّبقات الفقيرة، و إزاء حماية البيئة. في حين نراه قد يئس من أن تنهض البنوك والمصارف بدورها في تحقيق العدالة و السّلام الاجتماعيّ في ظل واقع قبيح يلهث وراء الربح وجلب المزيد من الأموال إلى خزائن البنوك دون الالتفات إلى أيَّة قيمة أو معيار خلقيّ، أو شعور بأدنى مسئولية تجاه الفقراء، أو البيئة.
وفي النهاية اقول انها رواية جميلة وشيقة بالرغم من صعوبتها البادية وانهماكها بالبعد السياسي، تشفع لها لغتها الشاعرية الشفيفة وكثافتها الدلالية المعطاء. فهي التي تغري القارئ بمتابعة القراءة بالرغم من تبدل ضمائر السرد، وتداخل الشخصيات، والتي تجعل من الحدث محورا للعمل الروائي، وتحث القارئ على ملاحقة فصولها بالرغم من سوداويتها .
.” عاودتني فكرة أن أقتل نفسي مجددا .عاندت مخاوفي و أوجاعي النفسية بالرجوع الى الكتابة بدلا من الركون الى أركان الوحدة والظلام .عاودني التعب المزمن من زمن التعب المزمن ,و أنا بلازمة لأن أطلب المساعدة من شخص ما . أن أحتمي مما أجهله ولا أحتمله بشيء ما …ص119″
وتكشف لنا الرواية وهي تسرد علينا منذ البداية أن الكتابة تحاكي الواقع، أجزاء هذه الصورة الممزقة تتخلق وتتبلور معها عملية البحث المضني عن كينونة البطل /الراوي/المؤلف وماهيته.
” إن الانسانية مفقودة في مكان العمل وخارجه .وأن عبارة الفرد للكل والكل للفرد محض كلمات لا تعني شيئا امام الرأسمالية. مغيب التماثل بين الناس أعقب عنه مزيد من المرارة والاستياء الطبقي .هذا النظام البربري والمرعب لا يريد من العالم إلا التعاسة وتهميشمناهجه …ص44″
فنحن هنا بإزاء ما يسمى المدينة الفاسدة “الديستوبيا” حيت يمتزج فيها الوفاء بالخيانة، والعطاء بالالتباس ، والرغبة بالغموض والكذب. لعبة بين الملاك والشيطان معا،.
فوق هذا وذاك، وهو الأنكى من كل ما سبق، حالة المحو الإنساني البشعة التي تقوم بها قوى خفية ومسيطرة من اصحاب رؤوس الاموال والمصالح النفعية يستهدفون عامة الناس من المجتمع –الطبقة المسحوقة- يوميا نرى الناس يسحقون جماعياً ببشاعة ووحشية. مهمشاً ومغبوناً وقد أنكرت عليه حقوقه المدنية والإنسانية حتى، وليس ثمة من يتضامن معه
” كان البارون ينفجر كالرعد في وجوهنا دون تحفظ ,يصيح اكثرة معاناة وإيلاما, يمارس قوة الترهيب ,لأن الخوف يجعل الناس خاضعين , إن للسلطة المطلقة مغبة التسلط ,كان السيد وكنا البيادقيصرخ متى يشاء ويجاب بالصمت ,كان الصمت لحافهم .كان الصمت الارجح انه الخنوع ,الخنوع ديمومية وظيفتهم وحياتهم,وعبوديتهم, وسجنهم عادة مثيرة أن يجدوا انفسهم مدعاة لوابل من الاذلال أحيانا ,وحتى المزيد من الاذلال ,لعل السحق في أحيان أخرى .ملطخين بعطر المهانة…ص84″
وفي الختام أن الرواية التي أمامنا كانت عملاً ناجحاً وأوصلت الرسالة بوضوح، أصابت الهدف بدقة، عرضت الواقع الحالي، من خلال مشاهد تعرض لها كاتبها /راويها رغم كل المأساة التي تعرض لها لم تصل به لمرحلة اليأس، كانت تحمل في ثناياها الأمل. عبر مجموعة من المشاهد النقدية والتي تصور صلابة التحدي للوصول،لكنه في النهاية يأبى الخنوع والاذلال .
نخلص إلى أن الانسان في زمن العالم الجديد “العولمي” إنسان وحيد في العالم. يفصله عن العالم والآخرين بون شاسع، لكنه يصر على الانتماء للكل، يصر على احتضان الإنسانية جمعاء، يصر على مسؤوليته الأدبية .
كاتبنا ينتمي للإنسانية, لذا ينشد احترام الاخر وعدم الاعتداء على أحلام الآخرين وآلامهم ،ويظل يطالب العالم بالبراءة وبالصدق وبالدهشة لنفسه وللعالم ، والكاتب فيه لا يملك سوى كلمته، فنراه يلتصق بالكلمة الحرة. لذا تظل الكلمة هي الأمل الوحيد والحلم الجميل والخلاص المثير تنتشل من الإنسان أجمل وأنبل ما فيه :أشواقه وأحلامه وعطشه للحب والسلام والعدالة والحق، ورفضه للظلم والألم .وكاتبها لا يملك إلا أن يقف موقف المنتقد الغاضب ،ويبقى دائما الملاحق المتهم ، من اجل ان يقود مجتمعه نحو حياة جديدة باهرة.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي