الشبح
بقلم: بلقيس بابو
○○○○
مرّ الوقت في غفلة منها و هي منهمكة في إتمام جملة من التقارير والملفات التي أمرها مديرها بإنهائها قبل منتصف الليل؛ حين انحنى على مقربة من كتفيها ومرَّر يده القذرة على خصلات شعرها الأسود الناعم، وهو يهمس في أذنيها بابتسامة لئيمة:
-“لا تنصرفي قبل أن تنجزي كل العمل المطلوب منك !”.
ألِفت أن تقرأ في مثل هذه الإشارات الوسخة نية مبيتة لسلسلة من مواقف الإذلال والتنمر أمام زملائها إذا لم تنفد الأوامر.
قضت ردحا من الليل متسمِّرة أمام الحاسوب، تحاول إتمام العمل على الوجه المطلوب وفي الوقت المحدد، فقد استفادت مما أخبرتها به سكرتيراته اللائي سبقنها، عن كونه لا يتردد في السبّ والسخرية أمام الموظفين من اللواتي لا ينفدن أوامره بالحرف أو لا يستجبن لطلباته المختلفة، فضلا عن تهديده دوما بالانتقام و فصلها عن العمل و حتى بتلفيق تهمة لها إذا لم تسِر على النهج الذي يريده هو، وكي تخضع مكرهة فإنه يذكرها مرارا بنقطة ضعفها كونها تتكفل بالعجوزين والدِها ووالدتِها، اللذين ليس لهما من معيل سواها يستطيع التكفل بهما سكنا و إطعاما وتطبيبا.
أحست بضغط كبير وثقل في رأسها وهي تفكر في كل ذلك، و ألم حادّ يمزق عضلات ظهرها جراء الجلوس مطولا فوق هذه الكرسي اللعين.
فتحت حقيبة يدها تبحث عن مسكِّن يخفف من آلامها، تناولت قرصا و هي ترفع رأسها لتتجرع كوب ماء خلف هذا القُرص الذي تبتلعه كلما تضاعف الألم، لاحظت أن الساعة الحائطية تشير إلى منتصف الليل، انتفضت قائمة من مكانها مستغربة كيف بقيت إلى هذا الوقت المتأخر من غير أن تفطن إلى ذلك.
جمعت أغراضها بسرعة وهرعت بسرعة نحو باب الشركة فوجدته مقفلا ومن المعروف ألا أحد يحتفظ بمفاتيحه سوى حارس الأمن كريم، الذي غالبا ما يشيح بوجهه عنها و لا يبادلها التحية الصباحية و لا المسائية، لم تكن تعرف ما السبب، ربما لأنها تتأخر في المغادرة والنزول إلى الباب الخارجي، مما يضطره لانتظارها وهو آخر من يغادر الشركة.
لكن الغريب أنه هاته المرة أقفل الباب وانصرف دون أن يتفقد المكاتب؟ ألم يلاحظ أنها لاتزال في مكتبها لم تغادره بعد؟
بدأ التوتر يستولي عليها وشعرت بنبضها يتسارع وبيديها ترتجفان، أيكون المدير قد أمر بإبقائها ها هنا، تخويفا لها وإشارة منه على قدرته على فعل أي شيء ؟؟.
تذكرت كذلك ما كان يرويه زملاؤها عن حدوث أشياء غريبة في الشركة ليلا بعد مغادرة الجميع ، فهناك من يتحدث عن سماع أصوات غريبة وآخرون يدعون أنهم يجدون الأشياء صباحا وقد تغيرت أماكن وضعها، وبعضهم يدعي أن أشباحا تظهر في المكاتب ليلا، حسب ما رواه بعض الجيران.
تملّكها الرعب وهي تتفقد المكاتب الواحد تلو الآخر، لايوجد أحد سواها.
أحسّت كأن هناك من يراقبها، ويتحين الفرصة للانقضاض عليها وخنقها وتمزيقها، تماما كما حدث في تلك الليلة المشؤومة التي بقيت فيها متأخرة في العمل رفقة مديرها…
ها هي الأصوات ذاتها تطاردها، بهذا المكان المظلم مثل كهف مهجور.
تضع رأسها بين يديها متضرعة:
-“رباه نجني من العودة مجددة إلى حصص العلاج النفسي المتتالية!”.
فتحت حقيبتها ثانية علها تجد حبوبها المهدئة؛ فقد مرت أيام وهي تحاول التخلص منها و من الإدمان عليها، علَّها تعيش حياة طبيعية دون مهدئات، لم تجد علبة الدواء ربما تركتها في البيت، أفرغت الحقيبة بأكملها على الأرض، فتبعثرت محتوياتها، فتّشت كالمجنونة في ثنايا الحقيبة وجيوبها الصغيرة، لابد من أن تبتلع ما يهدئ من روعها قبل أن تنفجر أعصابها أو تلقي بنفسها من النافذة…لم تجد شيئا، الأصوات ترتفع وتدنو من مكتبها.
انسلت عبر باب صغيرة إلى الممر، وطافت بكل المكاتب علها تجد منفذا، جربت فتح الأبواب دون جدوى.
اندفعت إلى الباب الرئيسي تهزه بعنف محاولة فتحه وهي تصرخ بأعلى صوتها:
-“أرجوكم ! النجدة! يا من تسمعون صوتي، افتحوا الباب، كسروها، أتوسل لكم!!”.
انهارت جاثية أرضا، كأن شيئا رطبا دافئا لامس شعرها، التفت بسرعة فلم تجد أحدا؛ انخرطت في نوبة بكاء هستيري لتشعر، وكأن يدا خفية تتحسس أجزاء من جسدها؛ كأنها لمسات رئيسها في العمل العفنة المقززة التي دمرت حياتها بالكامل.
هرعت مسرعة إلى إحدى الغرف، أقفلت الباب بإحكام خلفها وعينها تطل من ثقب المفتاح على ذاك الممر المخيف الذي تسلل إليه ضوء مصابيح الشوارع.
“يا إلهي! كأن أحدهم يسير ذهابا وإيابا في الزاوية المقابلة من الممر، يا إلهي! هل الموجود معها بالمكان بشرٌ يتربص بها أم هي الأشباح الليلية كما يروي كل من عمل بهذه الشركة.
كانت ترتجف حين تفطنت إلى أنها لابّد أن تضع يدها على فمها لتكتم صوتها، كي لا يحس بوجودها هناك.. لكن صرخةَ هلعٍ غالبتها، و ظل الشبح يقترب ثم يغطي موضع المفتاح، ويهز الباب، لفتحه، استدارت نحو النافذة المؤدية إلى درج الإغاثة، فكرت في الصعود فوق كرسي ثم القفز وراء النافذة.
لكنها فضلت أن تدفع المكتب وإلصاقه بالباب ليصعب على الشبح فتحه.
حين حركت المكتب رمقت علبة أدوية ملقاة هناك ضمن أوراق شخصية قد تكون هي ما تبحث عنه وارتمى جراء إفراغ الحقيبة.
اختطفتها بسرعة البرق بعد أن أضناها البحث عنها، أخذت الباب تهتز بعنف، ثم لاح شعاع من خلف الباب وقد صارت تنفتح، فابتلعت كمية من الأقراص لم تهتم بعددها ولا بنوعها…ثم صعدت إلى النافذة، كان قد تمكن منها الدوار والرغبة القوية في القيئ، و بدأت تشعر بارتخاء شديد في عضلاتها، شغلها فتح الباب عن أن تقفز إلى ماوراء النافذة، تقدم الظل نحوها، كان طويل القامة، عريض المنكبين ، ربما كانت قصة الأشباح التي تسكن المكان حقيقية لكنها لمحتْ بعض ملامح الوجه المتخفي حين حطت عليه بعض أشعة الضوء المتسلل عبر ستار النافذة، إنه يذكرها بشخص ما، ربما أوشكت أن تعرف من يكون لولا شدة الدوار ، اقترب منها كثيرا، أحاط خصرها بيديه لينزلها، صعقت حين رأت وجهه بوضوح ، تمتمت :
-” لمَ أنت هنا؟ لماذا عدت إلى الشركة بعد أن أقفلت الباب و تركتني كالمجنونة؟ لقد أخفتني!! ماذا تريد منّي؟ ماذا تريد منّي؟”.
تلعثمت كأن لسانها قد التوى تحت مفعول كمية الحبوب المهدئة التي ابتلعت، اقترب منها أكثر فأكثر، لم تعد قادرة على صدّه، فحملها على كتفه إلى غرفة الاستقبال وضعها على الأريكة الجلدية السوداء الكبيرة، جلسَ يتأملّها وهي مغمى عليها لا تحرك ساكنا.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي