قراءة نقدية لديوان لين للشاعرة “يقين حمد جنود
في البدء أهنىء الكاتبة يقين على مولودها الجديد ” لين” كما أهنىء كل قارىء ستلامس أفنانه أوراق هذا الكتاب المغموس بمشاعر الحنين وبكلمات تحمل في طياتها الكثير من العاطفة الشجية والولاء لأسرة متماسكة بمحبتها لبعضها , أسرة متكاملة تعلّقت بها الشاعرة فأهدتها شذرات من روحها وعاطفتها فكان الإهداء للإبنة ” لين” لين النور والفرح وشجن النايات ..إلى ابنة حثّت الأم على صقل تحملها وصبرها على الألم .
كما أهدت الكتاب إلى مثال النضال والبطولة , إلى أبيها الذي بدا جلياً فخرها واعتزازها به لكن الوصول إليه كان وعرا لأنه كان الجبل الشامخ كما وصفته
كذلك الكاتبة لم تنس والدتها ” نور الهدى” التي ربّت وتعبت وسهرت حتى رفعتها مع السنابل نحو السماء .وكانت هي من دفعتها إلى المثابرة والنجاح كما ” يقين” قد شملت بإهدائها إخوتها وأخواتها .
دون شك , هذا الكتاب هدية عصارة تجارب الكاتبة لكل قارىء وقارئة.
أما في مضمونه فنجد أنه قد عالج آفات سائدة في المجتمع ومن أبرزها ” الغدر ” حيث تكرر ذكره بطرق مختلفة وفي قصائد متنوعة .
هذا الغدر الذي لم يأت من غرباء بل ممن أمنّت ووثقت الكاتبة بهم فأدارت لهم الظهر لكنّهم سارعوا ولم يتوانوا عن طعنها حيث تعزّز عندها القلق وعدم الشعور بالأمان وعدم الثقة فتقول:”أنا ما نمت يوما ملء جفني
لأنّ الغدر في الناس اقتداء”
وكيف لا يُغدر بها وهي الطيبة والبريئة . هذه الطيبة التي اعتبرتها الشاعرة بأنها مشكلتها فهي تقول: خلقت بريئة
فأدرت ظهري
حسبت بأنهم خلفي الغطاء.
وهذا اقتداء كل من يكون سليم النية .
أما القلق فهو سائد في أكثر من قصيدة حيث تقول: أنا ما نمت يوما دون وعدي “
وفي قصيدة ” يقين” التي تعرّفنا على نفسها وصفاتها والقيم التي تعمل بها فهي وفية , تفي الوعود ولا تخلفها وليس كما فعل مقربون وأصدقاء قد وثقت بهم والذين خانوا أمانتهم وغدروا بها . كما أنها أصرّت على فكرة الوفاء للكلمة فتقول: أنا ما خنت يوما ماء شعري
وإن ألقوا على وجهي الظنونا .
كما أنها أكدت لنا الكاتبة بأنها لم تلقِ يوما التهم عشوائيا على من غدرها وهي واثقة بأنها لم تفعل شيئاً منافيا لأصولها ووفائها وإخلاصها ووعودها.
كما أن الحكمة وأسلوب الترهيب والوعيد تضمنت قصيدة ” عقوق” لتقول إلى من أنكرها بأن الأرض دوارة وبأن العودة إلى التراب محتمة ووحده الزمن كفيل بتصفية الحسابات.
فتقول: ستعود تلتحف التراب غداً
وتعود ترجو قطرة المطر
موتا هلالا او محاق دجى
آيات ربي دورة القمر .
كما للمشاعر القومية نصيب وافر في قصائد الشاعرة فهي رغم كل المآسي التي يعانيها موطنها لا تحنّ سوى إليه. فهناك تلقى نفسها التي إليها تحنّ ونجد شعور الغربة والحنين لتقيم صلاتها فوق أرضها بسلام فتشبّه قلبها ” بالسقف بين الخيام “
رغم كل الإختلاجات والتجارب المرة التي عاشتها ” يقين” إلاّ أن هذه المآسي قد أغنت أسلوبها ومضمون قصائدها المتماسكة من حيث الفكرة والشكل والمضمون
لكن تماسك النصوص لم ينفِ شعور الشتات والتخبط في ذاتها والذي دفع بها للتساؤل عن هويتها فتسأل : من نحن؟
ثم تجيب على سؤالها: بأننا لولا خيال يطوف بنا نحو الغد
فوق بحر من يباب لما كنا
وإني أشاطرها هنا الرأي فالخيال هو نعمة حقيقية للإنسان وللشاعر خصوصا فلولاه لما أبدعنا وما عبّدنا طريقا ولا اجتزنا وعبرنا الحدود ونحن في أماكننا سجناء . الخيال هو الأمل في تركيبة حياة وواقع جديدين نحلم بهما.وتعود لتجيب أيضا على سؤالها بأننا نحن لا شيء إن لم يكن الله حاضراً فينا ..فعبر الطريق إلى الله نجد الصواب وهنا اتخذت منحى المتصوفين أيضا .ورغم أنها لدغت مرتين أو أكثر فهي لا تبالي بذلك لطالما من هذا اللدغ استطاعت الوصول لتذوق العسل اي ان الإنتصار في الخواتيم .
نجد أيضا يقين الثائرة التي تستنكر كل الظلم والذبح وقتل الأحلام الذي أصاب أبناء بلدها كما أنها تنادي لإسكات نعيب الغربان الذي لا يهدأ ولا يستكين. ولفلسطين أيضا مشاركة لهذه المشاعر والجروح فالشعب السوري قد عانى وما زال يعاني كما الحال في فلسطين الأبية التي تصورها الكاتبة بأنها ‘ أم الدماء والصبر والحنين ” فتخاطبها : يا فلسطين
يا جسدا نهشته الكلاب
وكيف لا ..وقد جفت أرحام الرجولة.
من رماد تستولدين؟
هنا إشارة إلى تخاذل الحكام عن نصرة فلسطين وشعبها .
الشعور بالغربة والشتات والضياع قد تجسد فى تكرار كلمة ” دون هوية ” هاجس ضياع وطنها والإنتماء يحزنها ويقلقها فمصير بلدهاعلى كف عفريت بعدما تعرض للكثير من الطعنات واللعنات فتسأل : لماذا نحن ؟ يا أهل الأرض هل من حقيقة لكل ما يحصل ؟ ص: ٥٠
لكن رغم كل ذلك فهي ” حرة” وستنشد حريتها ولو على جثتها وهي تعلم جيدا بأن الحياة هي الحرب الأكبر التي لا تنتهي .
وفي بعض القصائد يأتي الحب ليرطّب الجروح
هذا الحب الروحي الذي تصنعه في الخيال فتنظم قصيدة ” خيال ” ص: ٦٠
يسابق عمري الآتي سؤال
ويا ليت المنى يوما أطال
لكنت زليخة الأزمان وحدي
وأيامي ليوسفها حبال
أراني قد غدا عمري رهينا
على شفتيك حرفا لو يقال “
حتى الحبيب قد عاتبته لأنه كان صامتا لا يبوح بحبه علنًا لكنّها كانت تعيش معه حبا حقيقيا وهو حب الروح والهيام .
إن الشاعرة ” يقين” قد عبّرت عن كل ما يخالجها وهي تعرف ذاتها واستطاعت أن تترجم حالاتها وتحدثت عن تجربتها في الحياة وطريقها الشائك في كل مراحله ..إنها إنسانة قبل كل شيء تحمل مبادىء وقيمًا جمّة وعظيمة فأتى هذا الكتاب وليد شعور بالعتب والندم ومحاسبة الذات. فيه تحسر على الثقة التي وضعتها في غير محلها , على الطيبة وسط الوحوش الكاسرة, فيه حنين للوطن وتمرد على كل الطواغيت التي عبثت بأرض الأمان والوطن فشرّدت الأحلام وتاه الهدوء فتمنّت الكاتبة لو كانت فراشة واحترقت في مكانها قبل شعورها بالندم ..ولو أنها لم تكبر لتحمل كل هذه الأعباء .
وأتت الإبنة ” لين” , وليدة النور فكانت العلاج لكل الجروح , مشاعل الأمل والفرح . فكانت ” لين ” التي حملت عنوان هذا الكتاب والتي اختصرت مسيرة حياة وتجربة وملاذا من شذى رغم كل الأنين .
وفي الختام
فإن المشاعر التي حملتها واظهرتها الكاتبة هي مشاعر إنسانية وحالات قد تصيب أي إنسان أو شاعرة لكنّ اللافت هو أن ” يقين” قد عبّرت بشفافية وصدق دون أن تتقمص أسلوب أحد في الكتابة فجاء أسلوبها متميزا بنكهة خاصة.
ما عساني ختاماً إلاّ أن أبارك للشاعرة العميقة النضرة ” يقين حمد جنود” لصدور ديوانها متمنية لها المزيد من الإبداع والألق.
مع محبتي الخالصة
الكاتبة آمنة محمد ناصر
السبت 22/6/2024
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي