عُلا شيب الدين، كاتبة سوريّة، حاصلة على الجنسية الألمانية، تُقيم في مدينة كولونيا الألمانيّة منذ أواخر سنة 2015.
درَستْ كلًّا من الفلسفة والاقتصاد في جامعة دمشق.
عملتْ بعد ذلك كمعلِّمة لمادة الفلسفة في المدارس الثانوية العامة بمحافظة السويداء جنوب سوريا.
كتبتْ في العديد من الصحف والمواقع والمنابر الثقافية العربية.
صدرَ لها العديد من الكتب.
ومن هنا كان لمجلة أزهار الحرف معها هذا الحوار.
حاورتها جميلة بندر
حاورتها من لبنان جميلة بندر عضو بملتقى الشعراء العرب
محررة بمجلة أزهار الحرف.
* **
1 ـ كيف كانت تجربتكِ في الانتقال من سوريا إلى ألمانيا، وما التحديات التي واجهتكِ في البداية؟
مذ أرسلتِ حضرتكِ لي الأسئلة، وأنا أعيش حيرةً ممضة: ترى هل أتخطى، في إجاباتي، بعض المحطات التي طالما قاسيتُها؟ أم أشيح بوجهي عن كل ما هو خارجيّ متلصص، إمعاناً في الجوّانيّ الصادق، كما ينبغي أن يفعل أي كاتب حقيقي؟ وانحيازاً مني للخيار الأخير؛ قررتُ أن أتحول إلى حنظلة ناجي العلي، وليكن ما يكون. قررتُ أن أصير “حنظلة”، فأدير ظهري إلى العالم، مع فارق بسيط، هو أن حنظلة يدير ظهره للعالم، متطلعاً صوب فلسطين ربما، غير أني، أنظر إلى عالمي الداخلي فحسب، دونما اكتراث لرأي خارجي هنا أو هناك. قلتُ “أنظر”، والنظر ـ كما هو معلوم ـ يُشتق من العين أولاً، ليبدأ، بعدها، صيرورة النظر العقلي والروحي والفكري..صيرورة هي جوهر الإنسان على هذه الأرض، وماهيته. إذاً، سوف أنظرني فقط، متحرِّرةً من الخارج وأحكامه.
ما كان مجيئي إلى ألمانيا “انتقالاً”، كما ورد في معرض سؤالكِ، بقدر ما كان تشلّعاً وتشلّقاً. في كتابي “الزوبعة”، كنت قد رويتُ تفاصيل هذه المغامرة الخطيرة..تفاصيل ربما يصعب، ههنا، إعادة الخوض فيها، لأني لا أحب التكرار، لذلك سأحكي عن تفاصيل أخرى، لم يتسنَّ لي ذكرها في الكتاب المذكور.
اندلعت ثورة الحرية والكرامة في سوريا، في العام 2011، واندلعت معها روحي، مشرقطة لاهبة..مشرئبة متطلعة. كنت أخرج إلى المظاهرات والاعتصامات، في السويداء، مفعمةًً بـ”ماوكلي” فتى الأدغال. الفتى الذي طالما نشأ وتربى في قطيع الذئاب، قبل أن يختار، أخيراً، أن يصير نفسه، وحقيقته بوصفه إنساناً. كنت أشعر بقلبي وهو يريد الخروج من صدري محلّقاً، كلما صحتُ والآخرين: “حرية للأبد..”. وكنت أصير رويداً رويداً إنسانة..إنسانة منسلخة عن القطيع، عارفةً بالحدْس، وبالبصيرة، أن الصح الوحيد في حياتنا كسوريات وسوريين، كان الثورة على استبداد عمره أكثر من نصف قرن. في الآن عينه، كنت أكتب بغزارة للثورة في صحف ومواقع عديدة، منها الملحق الثقافي لجريدة “النهار” اللبنانية. بقيتُ أكتب من بيتي في صلخد بجنوب محافظة السويداء، باسمي الصريح، حتى الأول من نيسان 2014، حيث جرى استدعائي إلى فرع المخابرات العسكرية في السويداء. بقيت في الفرع المذكور تسع ساعات برفقة شقيقي المحامي أيمن شيب الدين. كان يسألني المحقق وكنتُ أيضاً أسأله، برباطة جأش رغم الفزع. بعض الأسئلة التي طالما طرحتها عليه: لماذا مزَّق الشبيحة وعناصر الأمن صور سلطان باشا الأطرش في مظاهرة يوم السابع عشر من نيسان 2011! وسألته لماذا لا يحارب “الجيش العربي السوري” تنظيم داعش الإرهابي، بينما يحاربه “الجيش الحر”، فأجاب: “خليهن يقتلو ببعض”!. وبعد مقابلة رئيس فرع المخابرات العسكرية آنئذ، وفيق ناصر، قال لي إما أن توقّعي على أنكِ كنتِ مضلَّلة ومغرَّر بك، وأنك لن تعودي للكتابة مجددًا ضد “رموز الوطن”، وإما يبقى شقيقك عندنا وأنت تذهبين إلى البيت، وإن عدت وكتبت، فسوف نجلبك بطريقة غير ودية. اخترت طبعاً، التوقيع بدلًا من أن يُعتقل شقيقي وربما يقتل تحت التعذيب. خرجتُ يومها، يملأني شعور فظيع بالانكسار، ودخلت بعدها في عزلة اجتماعية إجبارية (هناك فارق كبير بين الوحدة الخصبة وبين العزلة القسرية)، حيث كان هناك تضييق استخباراتي واجتماعي، وكنت أنَّى ذهبت أُلاحَق، حتى إلى محل البقالة. بقيت في عزلتي التي كادت تودي بحياتي قرابة سنة ونصف، إلى أن “قررت” أخيراً مغادرة سوريا. غادرتها لأول مرة في حياتي، دونما هدف، وحيدة تماماً ليس لي لا معارف ولا أصدقاء ولا أي أحد من الممكن أن يساعدني في أي شيء. غادرت إلى لبنان، حيث بقيت هناك خمسة أشهر، ذقت فيها المرارة تلو المرارة، قبل أن “أقرر” مجددًا، السفر إلى تركيا، حيث كانت المرة الأولى في حياتي التي أركب فيها طائرة. وفي بحر “إيجه” ركبتُ “القارب المطاطي “البلم”، ثم قطعت نحو سبع بلاد إلى أن وصلت ألمانيا. في ألمانيا، في البداية، بدأت تتفاقم حالتي النفسية المنهكة، حيث كان مؤثرًا جدا بالنسبة لي أني انشلعت عن سوريا التي طالما كنت فيها الثائرة الكاتبة والكاتبة الثائرة. وكنت أسألني ماذا أفعل في هذه البلاد الغريبة التي لا أفقه من لغتها كلمة واحدة؟!. ماذا أفعل هنا وقد صرت الآن لاجئة محتاجة، بعدما كنت في عز عنفواني في سوريا؟!. بقيت على هذه الحال أشهراً، وكانت هناك خلالها محاولة انتحار، أُدخلت على إثرها إلى المستشفى. (ثمة لحظات تكون النفس فيها جاثية على ركبتيها، مهما كان وضع الجسد. هكذا كتب يومًا ما فيكتور هوغو في روايته (البؤساء). كانت محاولة، قمت بعدها أقوى، وقد ساعدتني الفلسفة والتفكير الفلسفي والموسيقى الخالصة والقراءة والكتابة والمشي في تجاوز المِحَن، وأعانتني على النهوض مجددًا ومواصَلة الدرب..درب الحياة، منتَشلة نفسي المنهارة، معتمدة على ذاتي لطالما ربتنا أمي، على أنه :”الاعتماد على الذات هو سر النجاح”. فكرة أمي في الاعتماد على الذات، دفعتني لكي أتعلم اللغة الألمانية وأصل إلى مراحل متقدمة فيها، ولكي أعمل وأستقل مادياً عن الدولة الألمانية بشكل تام، ولكي أنتهي من وضعية اللجوء وأحصل على الجنسية الألمانية، وأصير مواطنة في سنوات قليلة. والاعتماد على الذات كان قد خفف من قسوة عدم مساعدة أحد لي حتى ممن كانوا يُظهرون لي الود كأصدقاء سواء في الشرق أو في الغرب من هذه الكرة الأرضية. حاولت بكل ما استطعته من قوة روحية أن لا أحتاج أحداً. لقد اكتشفت لاحقاً أن عدم مساعدة أحد لي، كان أحد أفضال الحياة عليّ، ليس أقلّها، شعوري بأني لستُ مدينة لأحد، ولا حتى بكأس ماء. إن الدَّيْن يثقل روحي ويشدها نحو الأسفل، وأنا لا أريدها إلا خفيفة محلِّقة.
2ـ كيف أثَّرت دراستكِ للفلسفة على كتاباتكِ ومؤلفاتكِ؟ وما الذي دفعكِ لاختيار الفلسفة كمادة لتدريسها في المدارس الثانوية؟
لم تكن الفلسفة بالنسبة لي مجرد دراسة مؤطَّرة بسور الجامعة. بل كانت وما تزال وستظل، حياة أعيشها وأمارسها نبضاً ونصاً. منذ أيامي الجامعية الأولى، عرفتُ أن الفلسفة هي ـ في المقام الأول ـ موهبة وإبداع وروح حرة، وليست مجرد قاعة هنا ومقرَّر هناك، ولا طالب هنا ومحاضِر هناك..امتحان هنا وعلامة هناك..لا ولا شهادة كرتونية هنا ووظيفة هناك..وحكايتي مع الفلسفة، بدأت بشكل غامض منذ الطفولة الباكرة وفي سنوات المراهقة، لكنها بزغت بشكل صريح وواضح بعد قصة حب جارف عشتُها حين كنت في التاسعة عشرة من العمر وكان هو على مشارف الأربعين. وحين أقول “جارفاً” أعني كل ما يمكن أن يعتور الطبيعة من غضب وثوران..من تفتح وإزهار..من غروب وإشراق..من ذبول وموت وعودة من جديد لمطر جديد وقيامة جديدة..من اصفرار واخضرار..
كان الشريك إياه مختصاً بالفلسفة، وعلى صلة واسعة بالوسط الثقافي في دمشق، وكنتُ تلك الفتاة عديمة الخبرة في كل شيء تقريباً. وهكذا، كان يصلني دوماً شعور عميق بأني أقل شأناً. شعور قررت فيما بعد التحرر منه، عبر الدراسة والقراءة وعبر تثقيف نفسي وحدي، ومن دون أي تأثيرات خارجية. وبالفعل، أعدت دراسة البكالوريا في الفرع الأدبي، لكي أتمكن من التسجيل في قسم الفلسفة بجامعة دمشق، ومن هنا ولدتُ ولادة أخرى جديدة، وتفجرت ينابيع عقلي وروحي، جارفة معها مستنقع الشعور بالدونية الذي طالما قاسيته. وهكذا، ستظل الفلسفة منذ ذلك الحين عوناً لي للتخلص من كل شعور بالدونية أمر به في الحياة التي لا تتوقف..ولن.
ـ فيما يخص الشق الثاني من سؤالكِ يا عزيزتي، فقد كان اختياري لتدريس الفلسفة بمثابة حلم أريد تحقيقه على أرض الواقع. حلم بتغيير العالم..تغيير المفاهيم القديمة المغلوطة..وإيقاظ الفجر في العقول. لقد خضت تجربة تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية العامة بحب شديد وبحماسة منقطعة النظير. ذات مرة، قررت صنع مشروع ثقافي بالتعاون وطلابي، فطلبت إليهم كتابة حلقات بحث تتناول مواضيعَ اجتماعية. حلقات هي عادة لا تُطلَب في المدارس، بل في الجامعات. غير أنني أردت أن يكون لليافعين واليافعات معرفة بالبحث المعرفي والعلمي الذاتي، وتحريضهم/ن عليه. بعض الطلبة قام بوضع صورة بشار الأسد على غلاف حلقة البحث! فرحت أرشدهم، إلى ضرورة استقلال البحث العلمي عن السياسة، وضرورة أن يكون البحث حراً. ويبدو أن كلامي قد وصل إلى إدارة المدرسة، فتم بعد ذلك إبعادي عن التدريس بقرار أمني. علماً أن الإدارة نفسها كانت قد قدمت لي كتاب شكر وتقدير بخصوص حلقات البحث تلك. وعلماً أن موجه مادة الفلسفة، كان قد قدَّم تقييماً إيجابياً حول أدائي المهني، كاتباً في تقريره: “المدرِّسة مثقفة ثقافة عالية”. لقد انكسر حلمي بالتغيير وتحطم على مذبح الاستبداد، لكن وعلى جري العادة، ساندتني الفلسفة والتفكير الفلسفي في استعادة توازني من أجل مواصلة الحياة التي لا تتوقف.. ولن.
3 ـ كتابكِ (ثورة الحرية السورية: أفكار وتأملات في المعنى والمغزى) يعبِّر عن فترة مهمة في تاريخ سوريا. ما الدافع الرئيس الذي جعلكِ تكتبين هذا الكتاب، وما الرسالة التي كنتِ تأملين إيصالها إلى القرّاء، وكيف استقبل القرّاء كتابكِ هذا بعد إعادة طباعته في ألمانيا؟
سلكَ هذا الكتاب طرقاً شاقة، قبل أن تحتضنه دار “الدراويش للترجمة والنشر”. إذ أن دار “الريّس” في لبنان لم تنشره، معلّلة أن “الموضوع السوري لم يعد مطلوباً”!. و”الدار العربية للعلوم” في لبنان، وافقت على نشره، لكن بعد دفع مبلغ كان بالنسبة إليّ آنئذ، مبلغاً خيالياً لن أقدر على جمعه لو عشت العمر عمرين!. أما”دار المتوسط”، فقد أرادت فرض أفكار، وتغيير أفكار، وكانت الرسالة عبر البريد الإلكتروني، التي وصلتني من الدار وقتئذ، حين كنت في سوريا، تؤكد أنه: “ُتخطىء الكاتبة، حين تكتب كذا وكذا. يمكن نشر الكتاب -لأن الجهد فيه واضح- لكن بشرط تغيير الكاتبة لجملة كذا، وفكرة كذا، وكلمة كذا….“ وقد كان ردّي الغاضب الثائر حينئذ:”لن أغيّر ولو حرفاً واحداً مما كتبتُ ومما أنا مؤمنة به عميق الإيمان”. وفي دار “كتابوك” في فرنسا، يمكن القول ببساطة، إن كتابي إياه، قد حُنِّط إلكترونياً، حيث لم يكن هناك أي فرصة لأن ينبض الكتاب بالحياة، إذ لم يكن من الممكن لمسه ورقياً، ولا حتى قراءته!
ـ هذا الكتاب، يعبِر ـ كما تفضلت حضرتكِ ـ عن فترة مهمة من تاريخ سوريا، وهو يؤرخ لها فلسفيًا وفكريًا…سيكولوجيًا ولغويًا. فترة بدأت منذ الشهر الثالث من عام 2011، أي منذ اندلاع الثورة على استبداد نظام الأسد وجوره وظلمه. ثورة على الاستبداد كانت وما تزال وستظل الصح الوحيد في حياة السوريين والسوريات.
ـ بالنسبة إلى الدافع الذي جعلني أكتب هذا الكتاب، فهو الناس في الدرجة الأولى. الناس الذين طالما ظُلموا وعُذبوا وقُهروا، وهم يحاولون العبور إلى الحرية، وقد أهديتُ كتابي هذا إليهم:(إلى كل مَن اختار المخاطَرة، متجاوِزاً خطر الالتفات إلى الوراء، أو البقاء في الوسط، قاصداً العبور إلى الحرية شوقاً وتوقاً..إلى شعب يريد..ويدرك أن الاستبداد خطر، وأن الديموقراطية جهة مقابِلة، تستحق المخاطرة دونما وجل ولا حذر..والسلام على أرواح أُزهِقَت وهي تحاول العبور..). أما في المقام الثاني، فقد كان الدافع لكتابة هذا الكتاب، هو فضح الاستبداد وتعريته.
ـ فيما يخص الرسالة المراد إيصالها للقرّاء، فما من رسالة. أنا أكتب ولا أفكر في القرّاء، ولستُ مع فكرة المثقف النبي حامل الرسائل، ولا مع الكتابة الصيَّادة، الهادفة إلى قنْص القارىء أو القارئة، والإيقاع به في فخ النص، بل مع الكتابة التي لا تبحث عن ضحية بقدر ما تحثّ القارىء على أن يكون كاتباً يعيد كتابة النص المقروء بهذا المعنى أو ذاك..قارىء ناقد..مفكك..محلل.. يضيف للنص ولا يتلقاه كالأموات.
ـ بالنسبة إلى الشق الأخير من سؤالكِ، فأنا ليس لدي علم عن كيف تلقى القرَّاء الكتاب، خاصة أني لم أجرِ حفل توقيع (أحب الوحدة الخصبة ولا أميل كثيراً إلى المناسبات الاجتماعية، ومنها حفلات توقيع الكتب)، لكن بعض الكتّاب والنقاد كانوا قد أبدوا إعجاباً شديداً بالكتاب وكتبوا عنه في بعض المنابر.
4 ـ هل يمكنكِ أن تحدثينا عن فكرة كتابكِ (الزوبعة)؟ وما الذي ألهمكِ لكتابته؟
(الزوبعة) هو كتاب نصوصٍ من سيرة عشتُها… من تجارب حية مكتوبة بالروح الشعرية والفلسفية النقدية. تجارب شخصية وعامة في آن. الكتاب مكون من سبعة فصول. الفصل الأول: “من الصعق الأول الموغل”، تكثر فيه تفاصيل تعود إلى ماضٍ بعيد نسبياً، حيث المدرسة والجامعة…حيث موت أبي. .وحيث بيتنا، وغير ذلك. نصوصٌ أستحضر فيها ذكريات مؤلمة وموجعة لطالما أثرت في نفسي وعقلي. في الفصل الثاني: “للمرآة”، أتحدث فيه عن جوّانيّتي العميقة أمام المرآة، تارة كوني “امرأة المعنى”، وطوراً كوني “أميرة الصحراء”..صحراء تدمر التي طالما أثرت فيَّ عميق الأثر يوم زرتُها برفقة وفد سياحيّ قادم من إسبانيا في أيام الجامعة. مرة كوني ديوتيما التي تفضل إنجاب ذُريّة روحية بدلاً من إنجاب الأطفال البؤساء في هذا العالم البائس. ومرة كوني معلمة تعيش مونولجاً خاصاً..تعيش حالة اغتراب عن المحيط. ومرة كوني امرأة تأبى الانسياق وراء طائفتها وأي هوية ضيقة، وتنحاز إلى الهواء الطلق..إلى الحرية..إلى الإنسانية.
في الفصل الثالث: “أنا ..هي”، والمقصود بـ”هي” هنا، الثورة، وهو فصل كتبت نصوصه من تجارب خضتها بنفسي، ومشاهدات ووقائع من لحم ودم، في سوريا ولبنان، ما بين عامي 2011 و2015. في الفصل الرابع: “من الصعق الثاني”، أتناول في هذا الفصل أيضاً وقائع حية مرّت معي في لبنان.. هناك حيث “بالضوء سكبتُ الوضوء”، وعلى درب الأدب مشيتُ. كتبتُ عن معبد نيحا..عن متحف بيروت..عن قلعة صيدا..عن قرية حمّانا..عن درب بسكنتا الأدبي..عن قرية جبيل الأثرية..عن مخيمات اللاجئين السوريين.. باختصار كتبت عن “رحلتي” في لبنان في مختلف تفاصيلها. في الفصل الخامس: “من الصعق الثالث”، كتبتُ عن تجارب في تركيا وفي أثينا اليونانية في أثناء “رحلة” لجوئي إلى ألمانيا، ثم سردتُ أحداث من مراكز اللجوء بعد وصولي ألمانيا، وتفاصيل من أيامي الأولى في هذا البلد، الذي أصبح الآن بلدي. في الفصل السادس: “رواق”، وهو فصل أتنفس فيه الصعداء وأستريح فيه استراحة المحارب. وفي الفصل السابع والأخير هناك “وصيّتان”، والآتي مقطع من الوصية الأولى:” يقلقكم وجود من ليس بـ”شيء” ما؟. يثير حفيظتكم الحر من كل تحديد وتصنيف وقولبة وهوية وإطار؟ لا مشكلة. لا تدفنوني في مقابركم إن شئتم. حياتكم مقبرة، فكيف موتكم؟ بعد موتي أطعموني للطيور. ليس أحب على قلبي من أن تقتاتني الطيور. أصلاً أنا وهي واحد. وفي الوصية الثانية أقول:” إن شاءت الحياة التي أحبها وأثق فيها أشد الثقة، أن تعيد كتابها هذا، فلتكن الإعادة غير مكرورة، بل متفجرة على طريقة الانفجار العظيم (مثلاً)، أعني ذاك الذي يُحكى أن جرَّاءه نشأ الكون”.
ـ ما الذي ألهمني لكتابة (الزوبعة)؟ إن أنتِ تأملتِ في بعض ما ورد فيما يشبه الإجابة أعلاه، فسوف تستنتجين أن الكتاب ليس إلهاماً ولا وحياً ساقطاً من أعلى السماوات. بل هو من عمق الحياة النابضة. حياتي في قبالة حيوات الآخرين. إنه جملة جروح..ندوب..أوجاع..آلام وأحزان..عذابات..قهر..وكفاح ضد ذلك كله.إنه بمثابة جواب على سؤال: لماذا قامت الثورة السورية؟، بحسب ما كتب الصديق الأديب والناقد ضاهر عيطة في مادة تناول فيها كتابي (الزوبعة)، ونشرها في موقع “جيرون”.
5 ـ كيف أثَّرت الحرب في سوريا على كتاباتكِ وأفكاركِ الفلسفية، وكيف انعكست هذه التأثيرات في مؤلفتكِ، وخاصة كتاب (ثورة الحرية السورية: أفكار وتأملات في المعنى والمغزى)؟
دعيني أتوقف عند توصيفكِ، “الحرب في سوريا”، ذلك أنه في سوريا هناك ثورة قبل الحرب، وفي أثنائها، وبعدها. وكنتُ قد أفردتُ مقالاً لهذا الموضوع تحت عنوان (من الثورة إلى الحرب..من الحرب إلى الثورة)، ونُشرَ في جريدة “القدس العربي” بتاريخ 28 أيلول /سبتمبر 2023. مقال أقتبس منه الآتي: (من الأفضل دوماً ضبط المصطلحات والمفاهيم وتفنيدها، مَنْعاً للخلط، وإمعاناً في الدقة. هكذا، وإن شئنا ـ باختصار ـ تعريف الثورة السورية التي اندلعت في العام 2011؛ يمكننا القول: هي ثورة شعبية مدينية سلميّة، يمثّل التظاهر والرقص والغناء والتصفيق والزغاريد واللافتات والورد والماء وأغصان الزيتون والشموع والطبول…، أهم أدواتها الحقيقية. جوهرها الحرية والكرامة، وغايتها القضاء على الاستبداد في أشكاله كافة. ومَن يقرأ التاريخ بذكاء ونزاهة؛ربما يعرف أكثر، أن كل الثورات الشعبية، في كل زمان ومكان؛ جوهرها التحرر.
وأما الحرب في سوريا، فهي تلك التي شنّها نظام الأسد على الثورة المندلعة ضده، منذ البداية، قبل أن تبدأ الثورة بالتقلص شيئاً شيئاً، بعد سِلميَّة دامت نحو عام تقريباً، حيث اضطرت بعد ذلك، في قسم كبير منها، إلى التخلّي عن سلميتها، من أجل الدفاع عن نفسها (الجيش الحر)، بعدما ارتكب نظام الأسد في حقّها المجازر تلو المجازر، واستخدم كل ما يمكن لقمْعها، كالسلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة. والحرب بوصفها عنفاً، تتضمن أيضاً التطرف والإرهاب، وخاصة التطرف الديني الذي تتغذى منه وتستمر. وهكذا، ومن جرّاء تعاطي النظام تعاطياً طائفياً منذ البداية، وادّعائه “حماية الأقليات” و”محاربة الإرهاب”، تكوَّنت في قبالة طائفيته، طائفية، وفي قابلة تطرفه تطرفاً دينياً تسلّق على الثورة، لغرضِ “أَسْلَمَتِها“، محقِقاً بذلك الهدف الأساس للنظام، وهو تشويه الثورة بالتطرف والإرهاب. فصارت الحرب، في جزء كبير منها، حرباً طائفية. استمرت الحرب سنوات طوال، كانت دائما غير متكافئة، خاصة أن دولاً تدخّلت لصالح النظام، كالسلطتين الإيرانية والروسية، وصارت هاتين محتلتين لسوريا وثرواتها ومقدَّراتها . سنوات طوال استمرت الحرب، وتقريباً لم يعد للثورة صوتٌ يُذكر، إلا فيما ندَر.
وعليه، يخطىء سواء كان متعمِّداً أم غير متعمد، مَن يُوصِّف الواقع في سوريا بالحرب فحسب. „قافزاً” بذلك فوق ثورةٍ كانت قبلها. والقفز، في مثل هذه الحالة، هو عنف خطير، كونه يزوِّر، ويتعاطى مع التاريخ كأنه مليء بالحُفَر والثغرات والفجوات، في حين أن التاريخ امتداد، استمرار، واتصال. (ويمكن في هذا الصدد، مراجعة مقالنا المنشور في “القدس العربي”، تحت عنوان: في عنف القفز وخطورته!). ـ ينبغي ـ إذاً ـ التفريق والتمييز بين الثورة والحرب).
ـ أما عن كيف انعكس ذلك كله على كتاباتي، فقد كانت الثورة لا الحرب هي المؤثرة بالفعل في أغلب ما كتبته. لقد جعلت الثورة كتاباتي أكثر حريةً وتدفقاً، وأكثر انطلاقاً وتوازناً، وأكثر حكمةً وعمقاً.
6 ـ كيف كان تعاملكِ مع الثقافات المختلفة بعد انتقالكِ إلى ألمانيا؟ وهل تشعرين بأنكِ وجدتِ مكانكِ ككاتبة في المنابر الثقافية الألمانية؟
أنا ممن يؤمنون بوحدة العقل البشري، كون الناس هم الناس أينما حلوا وانوجدوا، وحسب الثقافات والبيئات والمشارب المختلفة، أن تجعل حياة البشر أكثر ثراء وخصوبة. أحترم الاختلاف وأحبه، حتى لو لم أتفق مع من يخالفني في النظرة إلى الحياة والعالم، فأنا موجودة لأن الآخر موجود، والعلاقة بين الأنا والآخر علاقة تضايُف. موت الأنا يعني موت الآخر، والعكس صحيح. إن كلاً من الأنا والآخر ذات. يكفي معرفة ذلك لكي يمَّحي كل صراع حول قومية أو دين أو طائفة أو اعتقاد وما شابه.
تعاملتُ مع أناس من مختلف الثقافات سواء في العمل أو في الدراسة وغيرها..والناس تتشابه كثيراً وتختلف كثيراً. على سبيل المثال، أنتَ تشعر براحة أكثر حينما تعبّر عن ذاتك مع أحد من الألمان دونما أن تخاف من أحكام قاسية عليكَ، إذ في إمكانك أن تقول:” لا لا أريد إنجاب الأطفال”، إذا ما سُئلتَ : “هل لديك أطفال؟، وقد تسمع حينئذ إجابة بسيطة: “هذه حريتك. هذا خيارك”. وفي المقابل، ترى نفسك، مرتاحاً لتلك الحميمية والحرارة إذا ما دعاكَ شخص من الشرق إلى تناول الطعام. حرارة قد لا تجدها لدى بعض الألمان. في المجمل، أرى أنه ينبغي التحرر من الأحكام المسبقة، والتعاطي مع الأفراد كأفراد في المقام الأول، دونما ظلمهم عبر صهرهم في الجماعة.
وإذا ما شئتُ التعمٌق أكثر في موضوع الثقافات، أطرح المثال الآتي حول التخاطب بوصفه طريقة تفكير:
في اللغة الألمانية ـ التي تنطوي طبعاً على ثقافة وطريقة تفكير كأي لغة أخرى ـ هناك طرازان رئيسان في التخاطب مع الآخر، هما: DU و Sie
ـ المعنى الحرفي لـ Du في اللغة العربية هو (أنتَ أو أنتِ).
ـ والمعنى الحرفي لـ Sie في اللغة العربية هو (حضرتكَ أو حضرتكِ). وحرف الـ S يُكتب دائماً كحرف كبير، سواء جاءت الكلمة في بداية الجملة، أو في أي موقع آخر منها. وهي غير sie التي تعني (هي أو هم)، والتي تُكتب بحرف s صغير دوماً، إلا إذا جاءت الكلمة في بداية الجملة.
أما المعنى الثقافي ـ إن جاز القول ـ أي المعنى الذي قد يشير إلى نوع العلاقات التي تربط الناس ببعضهم بعضاً في ميادين الحياة الاجتماعية المختلفة، فهو شيء آخر تماماً.
ففي حين تُستخدم صيغة الـ DU للتواصل مع الأطفال (مثلاً) أو مع أفراد العائلة والأقرباء والأصدقاء والشركاء الحميميين والمعارف المقربين بشكل عام…؛ تُستعمل صيغة الـ Sie حين لا ينوجد أي رابط شخصي في العلاقة، فتراها تروج في أماكن العمل مثلاً، أو في الشارع حيث الناس غالباً ما لا يعرف بعضهم بعضاً، وبشكل عام صيغة الـ Sie خاصة بغير المعارف والأصدقاء والأشقاء والأهل وما شابه.
وإذا كانت صيغة الـ DU من شأنها خلق مشاعر وأحاسيس حميمة، ربما ترفع الكلفة وتكسر الحواجز وتقصّر المسافات الاجتماعية بين الناس، فإن صيغة الـ Sie على العكس تماماً، فقد تصنع حواجز رسمية صارمة بينهم، وتخففّ ـ تالياً ـ من وطأة العاطفة وشحناتها، ولا تُبقي مجالاً لكل ما يمتّ بصلة بالشخصيّ، حيث يصير كل شيء تقريباً موضوعياً ومعزولاً إلى حد كبير عن الذات والذاتية.
ولأن الـ Du تعني من بين ما تعني ثقافياً، كسر الحواجز بين الناس وخرقها، يُلجأ إلى استعمالها وقت الخصومة والشجار، أو تعمّد الإهانة على سبيل المثال، فقد يخاطب أحدهم ـ على غير العادة الثقافية ـ شخصاً ما لا يعرفه، ولا تربطه به أي صفة شخصية، بصيغة الـ DU، فتصير الـ DU هنا في هذا الموضع بالذات، بمثابة إهانة للمُخاطَب، وتقليل من قيمته وشأنه واحترامه. إذ من غير المنطقي أن يُشتم الآخر باستخدام صيغة الـ Sie، أي الصيغة التي تدلل ـ في بعض المواضع والمواقف الاجتماعية ـ على احترام الآخر بوصفه ذاتاً مستقلة، ولها خصوصيتها التي لا ينبغي اختراق حدودها الشخصية، مثلما تدلل أيضاً على الموضوعية، وعلى نبذ الشخصنة.
وما دامت الأمور على هذا النحو ثقافياً، فإن سؤالاً من قبيل:
?Sollen wir uns duzen oder siezen
هو سؤال شائع إلى حد كبير، في كل مكان تقريباً، حيث لا بد من أخذ إذن الآخر الذي ما تزال لا تعرفه ولا يوجد بينك وبينه أي صلة شخصية، قبل أن تخاطبه بشكل “حميم” مستخدماً صيغة الـ DU. فإن أُعطيتَ ضوءاً أخضر، يمكنك ـ حينئذ ـ استبعاد صيغة الـ Sie الرسمية، الجدية، التي قد تنطوي على شيء من الرهبة والوقار في التعامل الاجتماعي. ويرى البعض، أنه من قلة الذوق والتهذيب ربما، أن تتحدث إليهم مباشرة بصيغة الـ Du، من دون سابق معرفة، ومن دون استئذان. فمن غير المحبّذ (مثلاً ) أن تكون في قطار، وتسأل سيدة أو سيد لا على التعيين، عن اسم محطة ما، أو عن مكان ما، مخاطباً إياها/ه مستعمِلاً الـ Du، هكذا بدون أدنى مبالاة، كأنك وإياهم “عِشرة عُمر”.
في مكان العمل، غالباً ما تسود صيغة الـ Sie إلا إذا جرى اتفاق ما بين الموظفين الزملاء على استخدام الـ Du، لكن تبقى صيغة الـ Sie، موجودة على الأغلب أو ولا بد منها، في علاقة الموظفين أنفسهم مع مديرهم مثلاً، أو في علاقتهم مع الزبائن والمراجعين. وحتى في المصحات العقلية والنفسية تبقى صيغة الـ Sie هي المفروض استعمالها مع المرضى. ينسحب الأمر نفسه ـ طبعاً ـ حتى على تخاطب المستشار أو المستشارة، الرئيس أو الرئيسة الألماني أو الألمانية، مع الناس بشكل عام وبدون استثناء، حيث يجري استخدام صيغة الـSie
الجدير بالذكر هنا، أن التخاطب بين الناس ينبغي أن يكون قائماً على قاعدة التكافؤ، حيث لا أعلى ولا أدنى، فمن غير الوارد ـ منطقياً وأخلاقياً وإنسانياًـ أن تكلِّم شخصاً يكلمك بصيغة الـ Sie، باستخدام صيغة الـ DU! أو العكس. وقد يحدث أن يوقفك شخص ما منبِّهاً، حين يكلمك بصيغة الـ DU، وتستمر في التحدث إليه مستخدماً صيغة الـ Sie قائلاً: رجاء خاطبني كما أخاطبك، وما من داع للاستمرار في الرسميات. في إشارة واضحة ـ منه أو منها ـ إلى ضرورة الحفاظ على إيقاع متناغم في التحاور أو في التخاطب، بحيث لا يبدو أن أحد طرفي الحوار يتمتع بمستوى أعلى، بينما الطرف الآخر يأخذ مكانة أدنى. وهكذا لا ترى عامل نظافة يتخاطب مع مدير البلدية (مثلاً) بصيغة الـ Sie، بينما يرد هذا الأخير بصيغة الـ Du، أو طبيباً يخاطب مرضاه بصيغة الـ Du، في حين يخاطبه المريض بصيغة الـ Sie….وهكذا هو المتعارف عليه في ألمانيا، في التخاطب في كل ميادين الحياة الاجتماعية. الأمر الذي من شأنه ـ من وجهة نظري ـ الحفاظ على السِّلْم الاجتماعي، الذي يتولد من انتشار الود والاحترام المتبادل للذات الإنسانية وجوهرها، أياً كانت سماتها الخارجية، كمثل المهنة أو الدراسة أو المُلكيّة وما شابه.
بعقد مقارنة سريعة بين ثقافةِ تخاطُبٍ كهذه، وبين ثقافة تخاطُبٍ أخرى، قائمة على الأغلب، على التراتبية الاجتماعية، كمثل ثقافة التخاطب في البلدان العربية، فربما نجد أن هذه الأخيرة، هي ثقافة قائمة غالباً، على عنجهية وعجرفة وتعالٍ غير مُحقّ. هي ثقافة قائمة على انعدام التكافؤ في التخاطب. وانعدام التكافؤ في التخاطب لغوياً، يستتبع انعدام تكافؤ كلّي في الواقع الملموس المعيش، والعكس صحيح. انظر (مثلاً) كيف يخاطب رئيس البلاد هناك، شعبه، انظر كيف يخاطب الموظف المراجعين، انظر كيف تخاطب الشخصيات العامة من فنانين ومثقفين وأكاديميين ومشاهير جمهورها. هناك، ما من تكافؤ الـ ( Duو Du ) أو( Sie و Sie)، بل إن مَن يُنظَر إليه كـ “أدنى” اجتماعياً ينبغي عليه مخاطبة “الأعلى” بالـ Sie، بينما “الأعلى” يخاطب مَن يعتبره “أدنى” بالـ Du
انظر إلى صفحات البعض على السوشيال ميديا الافتراضية، التي هي “واقعاً افتراضياً”، وشاهد كيف ينعدم التخاطب المتكافيء بين شخصية عامة ما، وبين جمهورها. فحين يعلّق أحدهم على صفحة ما عامة، متكلماً مع صاحب الصفحة مستخدماً “أستاذ”، ويرد عليه هذا الأخير كأنه يتحدث مَن هو في عداد “المفروغ مِن أمرهم أو مَن هم تحصيل حاصل”، فإن هذا يشير إلى حجم الاستسهال في التعاطي مع الناس، من قبل شخصية عامة تعتبر نفسها “فرداً” في قبالة “جمهور/ حشد”. ربما ينبغي عليّ أن أوضح إن كلمة “أستاذ” لا تشير ـ هناـ إلى مرتبة أكاديمية مثلاً أو مهنة، فهذه الكلمة عادة ما تُستخدم للدلالة على الاحترام والتقدير للشخص المُخاطَب، الذي ينبغي ـ بدوره ـ أن يردّ على مخاطِبِه، بالمستوى نفسه. فإنسانياً، يمكن للجميع، أن يكونوا طوراً Sie وتارة Du، لكن أصحاب الأنا المتضخمة، هم أولئك الذين يعتقدون أنهم في قبالة “الجمهور/الحشد”، هم دائماً الـ Sie ! والحق أقول، إن اللوم، لا يقع على هؤلاء دوماً، فبعض من الناس يتلذذون ـ على ما يبدو ـ أو يستسيغون النظر إلى أنفسهم كدون أو كأقل.
قبل أيام، كنت أقرأ تعليقاً لأحدهم على صفحة فنان مشهور، وكان يخاطبه بمنتهى التذلّل، مقدماً له “شهادة حسن سلوك”، مستعمِلاً “أستاز” (أستاذ) مراراً وتكراراً، في حين يرد عليه “الفنان” بمنتهى الاستخفاف، مخاطباً إياه باسمه الحاف، دون أدنى لباقة ولا تقدير. فأي تخاطب “متكافىء” هذا؟!. هذا المثال، هو ـ طبعاً ـ غيض من فيض تلك الثقافة!
ـــــــــــــــــــــ
ـ أما عن الشق الثاني من سؤالكِ، فأنا لم أبادر حتى الآن، للكتابة في المنابر الألمانية، ولم أسعَ إلى ذلك، وقد أحاول في المستقبل. لستُ أدري.
7 ـ ما هو الكتاب الذي تعتزين به أكثر من بين مؤلفاتكِ ولماذا؟
أنا أمٌّ لمؤلفاتي. كلها أبنائي التي أعتز بها، ولا أفضل ابناً على آخر، حتى أنني لا أقول “كتابنا” بل “كتابي”، مفضِّلةً عدم استخدام “نا” الدالة على الجماعة، بوصفها شكلأ من أشكال التواضع كما يزعم بعض المشتغلين بالكتابة!. ولي وجهة نظر خاصة في ذلك، فحين يعرِّف أحدهم بكتابه قائلا” هذا كتابنا” بدلًا من “هذا كتابي”، فإن هذا فيه ما فيه من قسر الآخر أو القارىء على تبنّي محتوى الكتاب، من حيث هو كتاب”نا”، بينما قول “كتابي” يعني أن هذا الكتاب يحتوي على أفكاري أنا ورؤاي أنا وأنا المسؤول عنها، فيما القارىء حر في أن يأخذ بهذه الأفكار أو ينبذها أو يناقشها وينقدها…إإلخ.
من ناحية أخرى تحمل “نا” الكثير من سمات العنجهية والتسلط والتعالي والادعاء بتمثيل الآخر. إن الذي يمتلك حسًا لغويًا نقديًا سوف ينتبه إلى أن الطغاة ـ مثلًا ـ أو رجال الدين وشيوخ العشائر والقبائل وسواهم، عادة ما يستعملون “نا” حين يتكلمون عن الناس قائلين:“ شعبنا..أهلنا..طلابنا..الخ.
ليس مطلوبًا،ههنا، التواضع بقدر ما هو مطلوب التكلم باسمي أنا، كشخص..كفرد من دون ادعاء تمثيل غيري ولا إعطاء نفسي هذا الحق. وإن شئتُ التطرق إلى الجانب الجمالي في الكتابة، فانا شخصيًا، أميل وأستمتع بتلك الكتابات التي يتحدث فيها الكاتب باستخدام ضمير الأنا. أشعر أن الأنا أجمل وأهضم وأرق وفيها ما فيها من الروح الشابة المتسامية على ثقل وعجرفة الـ”نا” الدالة على الجماعة..العجوز (وهنا لا أقصد سنوات العمر). ليس صحيحًا أن كاتب الـ”نا” أكثر رصانة من كاتب “الأنا”.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي