تقديم :
تربُطني علاقةٌ وشيجةٌ بالشّاعرة السوريّة المبدعة إيناس أصفري، علاقةٌ ثقافيةٌ
وأدبيةٌ تحولت فيما بعد إلى صداقةٍ متينة. تابعتُ مشوارها الأدبي عن قرب، وكتبتُ عنها، كما قامت بترجمة بعض نصوصي للغة الإنكليزية، واستضفتُها عبر البث المباشر لمجلة أزهار الحرف.
إيناس أصفري لغويّةٌ موسوعيةٌ، وشاعرةٌ متمكنةٌ موهوبةٌ بالفطرة، تتقن التنقل بين مختلف الفنون الأدبية. ورغم تحديات الغربة، والزواج، وتربية الأبناء، والعمل، نجحت في الحفاظ على شغفها بالإبداع والتفرّد في عالم الأدب، مؤكدةً أن الإبداع الحقيقي ينبع من الالتزام والإصرار على العطاء المتميّز.
إيناس أصفري، شاعرةٌ وكاتبةٌ سوريّة من مواليد مدينة حلب، مقيمة حالياً في ولاية ويسكانسن، الولايات المتحدة الأمريكية. تمتلك تجربة أدبيّة متنوعة تتراوح بين كتابة الشعر، الهايكو، القصة القصيرة جداً، وقصص الأطفال. حصلت على إجازة في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة حلب عام ٢٠٠١، ودبلوم في التأهيل التربوي من كلية التربية بنفس الجامعة عام ٢٠٠٦.
أهم إنجازاتها الأدبية والمهنية:
أصدرت عدة دواوين شعرية، في سوريا: “طائر الفينيق” (٢٠١٦) و”قوام الماء“ (٢٠١٧) ، وفي تونس: ديوان بجزأين بعنوان ”ديوان المسام” (٢٠٢٤)، وفي مصر قيد الصدور : كتاب في القصة القصيرة جداً بعنوان ”أصداف“.
لها مشاركات أدبية في مجلات ودوريات عربية ودولية.
عضو في جمعية الهايكو الأمريكية HSA واتحاد الأدباء الدولي ILU.
قدّمت إسهامات كمصحّحة لغوية ومحرّرة أدبية في عدة أعمال ومواقع أدبيّة عربيّة
لها دراسة بحثية أكاديمية بعنوان “الإيقاع وفضاء النص”، وهي دراسة أسلوبية لديوان “لا تعتذر عما فعلت“ لمحمود درويش.
حياتها العملية:
عملت كمدرسة لغة عربية للمرحلتين المتوسطة والثانوية في سوريا، وانتقلت لاحقاً لتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى عملها كمرشدة سلوك لمرضى التوحد.
إبداعها الأدبي:
تميّزت إيناس أصفري بإبداعها في مجالات أدبية مختلفة. تعكس كتاباتها شغفاً بالهايكو، وهو نوع أدبي ياباني، إذ استطاعت دمج تقنياته مع روح الثقافة العربية. كما انتقلت في مسيرتها الأدبية من كتابة الشعر إلى القصة القصيرة جداً، لتفتح أفقاً جديداً للتعبير الإبداعي. تتسم تجربتها بالتنوع الثقافي والقدرة على مزج تراثها السوري بواقعها الجديد في المهجر، مما يجعلها صوتاً فريداً في الأدب العربي المعاصر، وعن كتابها قيد الصدور ”أصداف“ الذي نوّه عنه من قبل لجنة تحكيم مسابقة دمشق للقصة القصيرة جداً بدورتها الرابعة ٢٠٢٤ ، والذي فاز ضمن القائمة القصيرة لمسابقة دار ديوان العرب في القاهرة، ورُشّح للطبع والنشر ليكون مشاركاً في معرض القاهرة الدولي للكتاب ٢٠٢٥
كان لنا معها هذا الحوار.
يحاورها من القاهرة رئيس تحرير مجلة أزهار الحرف
وإلى نصّ الحوار…
١. بدايةً، كيف أثّرت نشأتك في حلب، المدينة العريقة، في تشكيل رؤيتك الشعرية والأدبية؟
نشأتُ في أسرةٍ تعشق الموسيقى، كان أبي يكتبُ الشعر ويخطُّ عبارات مُنتخبة من الحكم والأقوال المأثورة في مختلف المناسبات لتعليقها في أماكن متعددة من بيتنا، عدا عن أنه كان يعزف على العود، إخوتي كانوا يعزفون أيضاً، وكانت أمي تُغنّي ككروان، كذلك كنتُ وأخواتي البنات جوقة تُردد الأغنيات بمرافقة أبي وإخوتي في المساءات الدافئة.
في بيتٍ مليء بالمحبّة غزتني الكتابة. كنتُ طفلةً بعمر عشر سنوات، تهوى العربية التي تتردد على مسمعها من خلال تلاوة أبي للقرآن بصوته الشجيّ، مسكونةً بالأغنيات، حين بدأتُ بكتابة أناشيدي المدرسية البسيطة، لم أكن أدري بعد، أن الكتابة ستكون رفيقتي وسلوتي الدائمة، وطريقتي في البوح الصادق عمّا يراودني من أفكار ومعتقدات، ثمَّ في مرحلةٍ ما كانت بيئة المدرسة ثم الجامعة، أصدقائي ومدينتي المغرقة في القِدم، كلها زادي في التعبير، لطالما كان بيتنا صورةً من صور حلب بأصالتها وعشقها للطرب، عالماً يضجّ بالرفقة والمحبين، أهلاً وأصدقاء …
قرّرت بعدها أنّي لن أدرس غير اللغة العربيّة التي كان لها سحرها الخاص على روحي وحلمتُ أن أكون أستاذة جامعية في مدينتي حلب، لكن الظروف حالت دون تحقيق حلمي، وكانت الكتابة بديلاً عنه، الكتابة التي كانت دوائي في الاغتراب، وصديقتي الدائمة التي حتى وإن هجرتني في مراحل مختلفة، أجدها تعود في كل مرّة لتشفيني.
٢.لديك تجربة أدبية متعددة الاتجاهات بين الشعر و النثر ، الهايكو، القصة القصيرة جداً، وقصص الأطفال. كيف توفقين بين هذه الأنواع الأدبية المختلفة؟ وما الذي يجذبك لكل نوع منها؟
إنّي ممن يؤمنون بأن النص الأدبي هو من يختار على أي صورةِ يكون، فأحياناً يأتي على هيئة قصيدة، وأحياناً أخرى يأتي على صورة قصّة، أو خاطرة، أو ربما شذرة تولدُ من رحم تجربةٍ ما، وتكون خلاصةً حكيمة يهبنا إياها الألم تارةً، أو الحب تارة، وهكذا تتنوع الصور، وتخلق نفسها بنفسها.
كثيراً ما أمسكتُ القلم، من دون أن أدري تماماً ما سيكتبه، ثم لا يلبثُ أن يمشي على الورق، ليفاجئني بخاتمة لم أتوقعها.
يكفي أن تكون صادقاً لحظة الكتابة، مسكوناً بهاجسٍ ما، حتى يسيل الحبر كما شاء له السيلان.
ما أعرفه أني ابتدأت بالشعر، ثم تجولتُ في قراءاتي وبحثي عن آفاق أوسع للكتابة والتعبير، فكانت قصة، وكانت شذرة، ثم في خضم عملي مع الأطفال، تعلمتُ منهم، وحاولتُ أن أبوح على طريقتهم فكتبت منهم وعنهم ولهم.
أما الهايكو ففيه شيءٌ من التصوّف في رؤية الوجود، وهذه الرؤية تدهشني إلى حدّ الشرود الطويل، وتفتحُ بصيرتي على رؤية الخلق بطريقة مجردة تماماً عن التصورات المُسبقة التي وضعناها، مما يجعلني أجدُّ في التعلُّم عن هذه الطريقة في التعبير عن الكون والطبيعة والإنسان، إذ ببضع كلمات فقط يمكنك أن تصنع رواية…
٣.في ضوء انتقالك للإقامة في الولايات المتحدة، كيف أثرت هذه الهجرة على رؤيتك الثقافية؟ وهل شعرتِ بتحديات في إيصال روح الثقافة العربية إلى المجتمع الغربي؟
السفر يُعلي سقف التصورات، ويوسّع أفق الوعي. حين تسافر فأنت تفتح أمامك طريقاً معرفياً مُشرعاً على ثقافات مختلفة، ورؤى متعددة، لا يمكن أن تنظر للأشياء بنفس الطريقة السابقة، التجربة الإنسانية غنية في كل مكان، والكاتب يستطيع أن يرى بعمق أكبر ما لا تراه عيون المارّة، لهذا فأنا نفسي حين أقرأ نصوصاً قديمة كتبتها قبل تجربة السفر، ثم نصوصاً بعدها، أجد فرقاً ما. مع ملاحظة أن ثوابت المرء تبقى هي هي أينما حلَّ وارتحل، ما يتغير فقط هو التفاصيل، وربما الأسلوب والطريقة في التوصيل.
أمريكا هي مزيجٌ كبير من الجنسيات، وهذه البلاد مزيجٌ مدهش من الثقافات والحضارات، لهذا فليس من الصعب أن تنقل ثقافتك وقيمك وتراثك للآخرين، خصوصاً أن معظم الشعب الأمريكي على اختلاف مشاربه قادرعلى احترام الإنسان بغض النظر عن جنسيته ودينه وعرقه. لكن وككل الأقليات في أي بقعة من العالم، عليك أن تتبع ثقافة البلد وقوانينه، وأن تعيش معلقاً دوماً بين الثقافتين، باحثاً عن توازنك الخاص.
٤.أنت عضو في جمعية الهايكو الأمريكية واتحاد الأدباء الدولي.
ماذا تضيف لك هذه العضويات من الناحية الأدبية؟ وهل أثرت على انتشار أعمالك دولياً؟
جمعية الهايكو الأمريكية مؤسسة أدبية نشطة جداً ، لها منشورات فصلية على مدار العام واجتماعات شهرية في مختلف الولايات، متابعتي الدائمة لاصداراتها ونشاطاتها أغنى تجربتي في الهايكو، ووضعني على المحك مع هذا النمط الأدبي الذي أمسى مدرسة تضمّ كتاباً من كل مكان في العالم، وأسلوباً حتى في الحياة، يقود كاتبه ليكون أكثر بساطةً وعفويةً، أكثر شفافيةً واقتراباً من نشأته الأولى.
أما عن اتحاد الأدباء الدولي فقد كان لي حضوراً شخصياً فيه ومشاركة شعرية حين سافرت لولاية أخرى لحضور فعالياته.
مثل هذه النشاطات تضيق الاحساس بالاغتراب، وتقرّبك من ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه. الانغماس في المجتمع الجديد مسألة مهمة للتخفيف من البعد عن الوطن الأم، وفرقة الأهل والأصدقاء. ولا يمكنني أن أنكر أن فرحي بوجود نصوص لي في كتب مختارات شعرية باللغة الإنكليزية تعادل فرحي بوجود مثيلتها في كتب عربية، لأن الحقيقة والشرط الإنساني واحد حتى وإن اختلفت لغة وطرق التعبيرعنهما.
٥.حدثينا عن تجربتك في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها في أمريكا. ما التحديات التي واجهتك وكيف تمكنتِ من تجاوزها؟
الحقيقة أني في هذا السياق ونتيجة تجربتي لست متفائلة بمصير اللغة العربية، لا سيّما في بلادٍ ليست بلادها، العالم في غالبيته يهتم باللغات الأكثر رواجاً اليوم، والمعروف أن لغة التكنولوجيا هي الانكليزية، لذلك تعمى الأبصار عما عداها. فرغم محاولاتي المستميتة هنا لخلق منهاج خاص يتسم بالسهل الوافي والشافي في التعليم، إلا أنني لم أحظ بتشجيع لأسباب مختلفة، منها عدم الاعتراف باللغة العربية كلغة دولة، بمعنى أنها ليست من اللغات الرسمية المتداولة في أمريكا، مما يجعل الإقبال على تعلمها ضربٌ من الرفاهية لا أكثر، مع أن هناك الكثير من الأهل ممن يرغبون بتعليم أولادهم لغة القرآن والتراث والتقاليد الشرقية، لكن الجيل الجديد عازفٌ عنها إلى حدٍّ كبير، وهناك سبب مهم جداً لهذا يتجلى في فقر المصادر الموثّقة، تحديداً بعد تراجع الكتاب واستبداله بعمنا جوجل خبيرالخبراء، والاعتماد الكبيرعلى الانترنت ورواج الخطأ بشكل بات مزعجاً للغاية.
رغم كل هذا فما زلت ممن يؤكدن وبشدة على عظمة هذه اللغة وتفردها بين لغات الأرض قاطبة، واعتزُّ بطلبتي وما حققوه وأنجزوه في تعلمها وأشكرهم على مواظبتهم في طلب تعلّمها.
٦.بين إصداراتك الورقية المتنوعة، من “طائر الفينيق” إلى “ديوان المسام”، كيف تقيّمين تطور تجربتك الشعرية؟ وهل هناك ديوان تمثلينه كأكثر قرباً لقلبك؟
من المهم جداً أن أقول أني بمجرد انتهائي من كتابة النص الشعري، يسقط عندي النص في أتون الماضي، وأعتبره حين إعادة قراءته هشاً وأني قادرة على كتابة ما هو أجمل.
لم أرضَ يوماً عن نصٍّ كتبته، ما أرضى عنه فقط هو ثقتي بصدق ما كتبته، وإحساسي العالي بكل حرفٍ اختارته سليقتي وشعوري وقتها ليعبرا عن نفسيهما بالكلمات.
أحاول في كلِّ مرّة أن اكتشف نفسي من خلال ما كتبت، لأن الإنسان خصوصاً متعاطي الفنون على اختلاف أنواعها، يتوق لفهم نفسه ويصعب عليه ذلك أحياناً، لأن الكتابة لحظة مكثّفة تُفضي بمكنوناتها إلى سراديب عميقة من التعقيدات المتراكمة عبر الخبرات والتجارب والقراءات وتخمّر كل هذا وذاك في عمق الذات البشرية لينضج ويخرج بنتائج تتجلّى بطريقة لا شعوريّة في العمل الإبداعي.
كل الدواوين التي كتبتها هي أنا على اختلاف مراحلي العمرية، وتجاربي الحياتية، هي خلاصة لآرائي ومعتقداتي عن الوجود التي شكلتها عوامل وظروف مختلفة، لا أفترض أبداً صحتها أو خطأها، لكني أعوّل فقط على أنها صورتي في السياق الذي وضعتني فيه الحياة.
٧.من الواضح أن لديك اهتماماً خاصاً بالقصة القصيرة جداً وقصص الأطفال. برأيك، ما الفرق بين مخاطبة القارئ البالغ والطفل؟
ما لا نعرفه عن عالم الطفولة، أن الطفل لديه نظرة أعمق من نظرة البالغ، هو يرى الحياة على صورتها الأولى، بعفويتها وبساطتها وعمقها الغريزي بلا ايديولوجيات.
لهذا فإن الكتابة للطفل أصعب بكثير من الكتابة للبالغ، فحين تكتب للطفل لابد أن ترى بعينيه، وأن تحمل شيئاً من براءته وسذاجته، ولا أدري إلى أيّ حدٍّ قد وُفّقت حقاً في أن أحمل تلك الرؤية البسيطة العميقة في آنٍ معاً. لكن ما أعيه جيداً أن الكتابة للطفل تشبه إلى حد كبير كتابة الهايكو، فكلاهما يحمل في دواخله البساطة الأولى والبراءة الأولى.
أما القصة القصيرة جداً فيمكن اعتبارها نص مُلغز إلى حدٍّ كبير، لأنك في سطرين أو ثلاثة، ينبغي لك أن تقول رواية، وهنا تكمن صعوبة هذا النوع الأدبي. ومن وجهة نظري أن هذا النوع سيكون الأكثر رواجاً في فترة لاحقة، لأن الحياة باتت تميل للمختصر المؤثّر أكثر من المفصَّل السرديّ.
٨.قدمتِ مساهمات كمصححة لغوية في عدد من الكتب. كيف أثرت هذه التجربة على مهاراتك الأدبية؟ وهل تجدين دور المصحح مهملاً مقارنة بدور الكاتب؟
الخطأ منتشر بشكل مُقلق في الكثير من النصوص، ووجود الخطأ يؤثر بشكل سلبي على النص وبالتالي على كاتب النص. للأسف أننا نعتبر الوقوع في الخطأ مدعاة للخجل، مع أنه أمر طبيعي جداً، إذ ليس من الضروري أن يكون الكاتب لغوياً ملمّاً بكل القواعد النحوية والإملائية، فهذه من مهمة المختص. لهذا فإن عرض النص قبل نشره على لغوي ليس بالأمر المحرج مطلقاً، إلا أن عدد من الكتاب يعتبره انتقاص من شأنه ومن قيمة ما يكتب، وهذا ما ساهم إلى حد كبير بانتشار الخطأ لا سيّما بعد السوشيال ميديا وانتشار مواقع التواصل المختلفة، والنشر غير المُقيّد لكل من شاء له النشر.
اللغة العربية بالذات بحر عميق، وحتى في المدارس النحوية التي أسّست علم النحو يوجد خلافات حول بعض القضايا، مما يعني أن لا أحد منّا معصوم عن ارتكاب الخطأ، لكن الاعتراف بالخطأ أمرٌ واجب، والعودة للمصادر والمراجع مهمة كل مصحح وكاتب وناطق بالعربية.
تجربة التصحيح اللغوي جعلتني أعود من جديد لكتب الأصول وترميم معلوماتي، خصوصاً حين تعيش في مجتمع أجنبي فأنت تبتعد عن لغتك الأم إلى حد ما، مما يجعلك مطالباً بالقراءة والبحث واسترجاع كل ما فاتك من الدراسات والأبحاث التي صدرت أو مازالت تصدر.
مما تجدرُ الإشارةُ إليه أني قد قمتُ بتصحيح العديد من الكتب والنصوص في الخفاء، رغبةً من أصحابها، فعلتُ هذا خدمةً لأصدقاء وأسعدتني ثقتهم بي واستشارتهم لي في قضايا نحوية ولغوية عديدة، واعتبرتُ ما قدّمته هبة وغيرة على العربيّة وحرصاً عليها من رؤيتها تنساقُ نحو الخطأ، دون إدعاءٍ منّي مطلقاً أنّي معصومة، لكننا جميعاً نعينُ بعضنا بعضاً في الحفاظ على لساننا الفصيح، لأنه جديرٌ بهذا.
٩.لديك دراسات بحثية مثل “الإيقاع وفضاء النص” حول شعر محمود درويش. كيف أثّرت الدراسات الأكاديمية على أسلوبك في الكتابة؟
البحث الأكاديمي جعلني أتعرف على أصول الاستعانة بالمراجع والمصادر وتوثيق كل ما أقتبسه من الآخرين، فالأمانة العلمية هي منطلق مهم لجودة البحث ونزاهته. هذا البحث تمّ بالتعاون مع أستاذي المشرف د. سعد الدين كليب على بحث دبلوم الدراسات العليا في العلوم اللغوية، وكان مخططاً للبحث أن يتوسع ويستمر لنيل درجة الماجستير، لكن المشروع توقف للأسف، ولم ير النور. وربما تكون لي عودة للبحث الأكاديمي في مراحل قادمة.
١٠. وأخيراً، ماذا يحمل المستقبل لإيناس أصفري؟ هل هناك مشاريع أدبية أو بحثية تعملين عليها حالياً؟
حالياً أنتظر صدور كتابي الخامس في القصة القصيرة جداً ومشاركته في معرض القاهرة الدولي ٢٠٢٥
بعده سيكون لي عمل على كتاب جديد في الشذرات التأملية، كذلك أجهز للمشاركة في ملتقى الهايكو في سان فرانسيسكو المزمع عقده في تشرين الأول من العام القادم ٢٠٢٥والذي يضم كتاب الهايكو في شمال أمريكا وكندا.
ودائماً هناك أفق جديد ينتظر ..
١١. لديك تعاونات أدبية متعددة مع الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد، منها التدقيق اللغوي لبعض مؤلفاته. كيف تصفين علاقتك الأدبية معه؟ وما الذي يميز تجربته الشعرية برأيك؟
ناصر عبد الحميد صديق عتيق وجرى بيننا تعاون في مختلف المجالات، كتب عني وترجمت له بضع نصوص للإنكليزية، وكان أول من شجعني على نشر عملي الورقي الأول طائر الفينيق، وأبدى رأيه القيّم في النصوص قبل أن يرى العمل النور.
هو صديق حاضر الوجود دوماً، نتبادل معاً الآراء في الكثير من الأعمال الأدبية، له تجربته الغنية في الكتابة، نشيط ومتحمس دوماً للأدب، محب ولا يتوانى عن المساعدة فيما لو لزم الأمر. وكلي أمل أن يجمعنا معرض كتاب أو أمسية أدبية في مصر أو خارجها.
١٢. بين الشعر والقصة القصيرة جداً، أين تجدين نفسك أكثر؟ وهل هناك نوع أدبي شعرتِ أنه أقرب إلى روحك أو أكثر قدرة على التعبير عن أفكارك؟
الشعر دوماً هو الأقرب، ربما بسبب حبي وولعي بالموسيقى، يستهويني الشعر وايقاعاته المختلفة، أجد فيه تجسيداً لإيقاعي الداخلي، وانسجامي ما بين الداخل والخارج وتلك العلاقة التبادلية المعقدة بينهما. ومع هذا وكما ذكرت سابقاً أن النص في النهاية هو الذي يحدد شكله وأسلوبه، وأنا ممن يترك النص يتدفق عفوياً دون تدخل مني، وغالباً ما أنشر النص مباشرةً على صورته الأولى كما ولد، ولا ألزمه بأن يكون على مشيئتي. تلك قناعتي في النص الأدبي، فمجرد التغيير فيه يخرجه عن فطرته الأولى وصدقه الطفولي، وإقحام ما لا يُقحم فيه.
١٣. برأيك، هل يمكن أن تكون القصة القصيرة جداً جسراً يصل بين القارئ العام والأدب النخبوي؟ وكيف يمكن تطوير هذا النوع الأدبي لينال اهتماماً أوسع؟
أنا لستُ من مؤيدي مفهوم الأدب النخبوي، الأدب لابد أن يكون سهلاً ممتنعاً، لأنه مرآة تعكس بشفافية ما لا يستطيع القارئ التعبير عنه، فكيف ننأى به عن المتلقي ونضعه على عرش ونقصره على فئة دون أخرى؟ التكثيف والعمق اللذين تجدهما في القصة القصيرة جداً، أمران مختلفان عن الغموض تماماً. هما ضرورة هذا الأدب، مع الحفاظ على بساطة السرد، لأن البساطة لا تتعارض مع العمق والكثافة، وهذا يرجع بالدرجة الأولى لقدرة الكاتب على التعبير وأسلوبه السردي الذي يقترب أو يبتعد عن المتلقي بحسب وضوح الرؤية لدى الكاتب، وفهمه الدقيق لدواخله، وتصالحه مع ذاته، والنص وحده هو الذي يكشف عن كاتبه.
١٤. بين مسؤوليات الزواج وتربية الأبناء، هل شعرتِ في أي وقت أن هذه الأدوار قد تعيق إبداعك أو تأخذ من وقتك المخصص للكتابة؟ وكيف تمكنتِ من تحقيق التوازن بين الحياة الأسرية والعمل الأدبي؟
الحقيقة أن مؤسسة الزواج وما فيها من مسؤوليات والتزامات ربما تشكل عائقاً كبير لأي مبدع وباحث عن الحريّة، الكاتب عادةً يكون مزاجياً إلى حد كبير، يقهره الروتين ويسحره التغييروالتفنن في تلوين الحياة بمختلف صنوف الجمال، قد يكون السفر والتنقل أحدها. وهذا الفضاء الحر يصعب تحقيقه لاسيّما في الروابط الأسرية المبنية على الطريقة الشرقية ، خصوصاً إذا كان الطرف الحر هو الأنثى وليس الذكر.
من ناحية أخرى الاستقرار الحياتي وتعاون الطرف الآخر وتفهمه قد يساهمان إلى حد كبير في مساعدة الكاتب على المضي في تجربته الإبداعية، ويقتضي هذا الأمر إيمان الشريك بشريكه وبغنى تجربته الإبداعية وجدوى المضي فيها، كذلك يتطلب بعض التضحيات من الطرفين لموازنة الحياة دون خلق عوائق غير ضرورية.
١٥. إذا طلب منكِ تقديم نصيحة للكاتبات اللواتي يحاولن الموازنة بين أدوارهن العائلية والإبداعية، فماذا ستقولين لهن؟
أعلم أن المرأة الكاتبة لديها أعباء إضافية في الحياة، وقد تحتاج أكثر من غيرها للصبر والوعي والاستيعاب، كثيرمن الكاتبات هجرن الكتابة لصالح الأسرة، والعكس أننا نجد بعض من هجرن الأسرة لصالح الكتابة وهنّ النسبة الأقل بحكم العادات والتقاليد الجائرة على المرأة في معظم الأحيان. ما يحل المشكلة هو الشريك نفسه، وإيمانه بشريكته الكاتبة، ومنحها حيزاً من الحرية واحترام مساحتها الخاصة، وهذا الاحترام لابد أن يكون متبادلاً بين الاثنين معاً.
أما ما ألاحظه مؤخراً فهو عزوف النساء اللواتي يعملن في الحقل الإبداعي عن الزواج، ربما إيماناً منهن بسمو رسالة الإبداع على المؤسسة الاجتماعية. وهي وجهة نظر تحتاج بحثاً مطولاً.
١٦. كيف تنظرين إلى دور الأسرة في بناء المجتمع الثقافي؟ وهل لديكِ مبادرات لنقل شغفك الأدبي إلى أبنائك أو المحيطين بك؟
الأسرة صورة مصغرة عن المجتمع، وما يجري فيها انعكاس للمجتمع. والحياة في مجتمعات غربية مختلفة عنها في المجتمعات الشرقية، وهذا يتعلق بالأسرة ذاتها ومدى تقبلها لمجتمع مغاير، فغالبية الشرقيين يعيشون حياة الشرق في منازلهم، وحياة الغرب خارجها لأن الضرورة تقتضي التصالح مع البيئة والمجتمع الذي نعمل ونعيش فيه. والأبناء في الغرب يحددون توجهاتهم بأنفسهم دون الخضوع لرأي الأهل كما في المجتمع الشرقي. لهذا فالمعادلة تختلف، وكون الشغف بأي شيء يولد مع الإنسان نفسه، فأرى بأن لا جدوى من أن يملي طرف ما على آخر -حتى وإن كانوا الأبناء أنفسهم- ما يحب وما يكره.
١٧.ماذا عن الملتقيات الأدبية عبر السوشيال ميديا وماذا عن ملتقى الشعراء العرب الذي كنت مواكبة له منذ بداية إنطلاق نشاطه وما حققه من نجاح ؟
يؤسفني أن أقول أن معظم الملتقيات الأدبية والتجمعات الثقافية في بلادنا تفتقر للنزاهة والمصداقية، تعمل فيها المحسوبيات والمجاملات العمل الأول، مما يجعلنا نراوح في مكاننا، وكثيراً ما نرفع من قيمة كتّاب لا يستحقون، ونهمل كتاباً آخرين تجربتهم تستحق الوقوف عندها.
لهذا أنا ابتعد عن المجموعات الأدبية والشلليات إلى حد كبير، وأحاول جعل صفحتي على الفيس بوك-وهي الوحيدة التي أمتلكها من بين كم كبير من المواقع الاجتماعية- هي فضائي الخاص والحر للتعبير.
بين قلة من الملتقيات التي نشرت فيها كان ملتقى الشعراء العرب الذي واكبت نشأته وانطلاقته منذ البداية، بحكم صداقتي الوطيدة برئيس تحريره، ثم صارت تجمعني صداقات مع الكتاب القائمين على الملتقى، وأتابع نشاطاته كلما أسعفني الوقت المزدحم بالتفاصيل.
أتمنى للملتقى وكل القائمين عليه أن يحقق هدفه وغايته، وأن يكون صورة وأنموذج للأدب الهادف والمميز.
وأخيراً أنا مدينة بشكر خاص للصديق الشاعر ناصر عبد الحميد الذي كان صاحب هذه البادرة القيّمة في عقد حوار معي، وهي ليست المرة الأولى التي يمنحني فيها فرصة القول والتعبير في وقت صار يضجُّ بالأصوات، حتى كدنا لا نميز أصواتنا إلا عبر أصدقاء حقيقيين ومؤثرين، يروننا بعين اللهفة والمحبة والود القديم الأصيل والمتجدد.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي