
الدراما بين الواقعية والمثالية الزائفة
لم تعد الدراما انعكاسًا صادقًا للحياة اليومية، بتفاصيلها العفوية وبساطتها التي تلامس الواقع، بل تحوّلت إلى معرض أزياء فاخر، حيث يظهر الأبطال في أبهى حللهم، مهما كانت طبيعة المشهد أو مقتضيات القصة. في الماضي، كان المنطق سيد الموقف؛ رأينا الشخصيات في منازلهم بملابس النوم، وفي لحظات استرخائهم بأزياء تتناسب مع واقعهم الاجتماعي والمعيشي، أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء.
أصبحت الصورة العامة للممثل فوق أي اعتبار، فباتت الدراما تُصاغ لتخدم بريق النجومية على حساب المصداقية. الممثل، حتى في أشد لحظاته ضعفًا أو فقرًا، لا يظهر إلا بأناقته المبالغ فيها، وكأن الحياة لا تطرق أبوابهم إلا وهم بكامل زينتهم. حتى المشاهد البسيطة، كغرفة النوم والمطبخ، باتت لا تُصوَّر إلا كاستعراض للجمال والترف، في محاولة لخلق عالم براق، لكنه أبعد ما يكون عن الحقيقة.
ولم يقتصر الزيف على أناقة الممثلين فقط، بل امتدّ إلى بيئتهم، فالفقر في الدراما الحديثة أصبح مجرد ديكور، بيت “فقير” لكنه واسع، مفروش بأثاث فاخر، وكأن المنتج يخشى أن يُظهر واقعية الفقر فتؤثر على الصورة البصرية للعمل. أما القصور الفارهة والسيارات الفاخرة، فقد باتت القاعدة الثابتة حتى في قصص من المفترض أن تدور حول شخصيات بسيطة أو تعاني من أزمات مالية. لم تعد الحكايات تنطلق من أحياء شعبية أو بيوت متواضعة كما في الماضي، بل أصبحت الدراما تدور داخل قلاع من الرخام، حيث لا مكان للبسطاء، ولا أثر للحياة التي يعيشها معظم الناس.
لقد أفرغت هذه المثالية المصطنعة المشاهد من روحها، واغتالت صدق الأداء، وجعلت الجمهور بدلاً من أن يندمج في القصة، يقف أمام الشاشة متسائلًا: هل هذا واقع أم إعلان عن نمط حياة لا يمسّنا؟ هل الفقراء فعلًا يسكنون في بيوت أقرب إلى الفنادق الفاخرة؟ هل نستيقظ جميعًا بشعر مصفف وماكياج متقن؟
لقد أضرّت هذه النزعة بالصناعة الدرامية، فبدلاً من أن تقدّم لنا قصصًا تعبّر عن واقعنا، باتت تصنع عالمًا مزيّفًا، لا يعكس الحقيقة ولا يعبّر عن قضايا المجتمع، بل يجسّد صورة متوهّمة للحياة. وهكذا، تحوّلت الدراما من فن يحاكي الحياة، إلى لوحة مثالية تخدع البصر، لكنها لا تلامس القلب.
الناقد السينمائي شربل الغاوي.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي