“دهشة الأرواح الوليدة في حضن الكون”
طفلٌ أنا، في حضن الكون أضاءت الحياة،
أبني من ضوء النجوم قلبًا لا يشيخ.
أجمعُ الفجر من عيون الرياح،
وأبني قلاعًا من أصداء الأشجار.
الطفولة ليست مجرّد مرحلة، بل هي بوابة سرية إلى عالم لم تلوثه تعقيدات البشر. إنها اللحظة التي تُولد فيها الروح على شكل سؤالٍ كبير، يطرق أبواب الكون بعينين واسعتين، يحمل فضول النجوم وبراءة المطر الأول.
الطفل هو كائن نقي، يقف على حافة الوجود كما يقف الضوء على حافة الفجر. يرى الأشياء كما هي، دون أن يثقلها بتفاصيلنا المرهقة. في عينيه، تتحول زهرة صغيرة إلى كونٍ مكتمل، تتحرك فيه الرياح كأنها أرواحٌ مرحة، ويرى في ظلّ شجرة حكايات غامضة تخفيها الطبيعة عنه.
الطفولة هي لغة المطر حين يسقط على الأرض العطشى. هي أغنية الريح حين تعانق أوراق الشجر. إنها تلك اللحظة التي يركض فيها الطفل خلف فراشة، ليس ليصطادها، بل ليعيش معها رقصة الحياة.
أكبر جسديًا، لكني أظل ذلك الطفل
الذي يضع رؤياه بين يديه ويتركها تتناثر كالمطر.
أشعر بالزمن ينحني لي، لكنه لا يستطيع أن يختطف مني
هذه اللحظة، حيث الكون كله يحتفظ بطفولتي.
إنها دهشة البداية، حين يبدو كل شيء قابلًا للانبهار. الحصى على الأرض نجومٌ صغيرة تنتظر أن تُكتشف، والسماء كتابٌ مفتوحٌ، صفحاته ممتدة بلا نهاية. الطفل لا يحتاج إلى إجابات، لأنه يرى كل شيء كأنه معجزة تستحق التأمل فقط.
لكن الطفولة ليست فقط في العين التي ترى، بل في القلب الذي ينبض بلا خوف، في روح لا تعرف سوى العطاء والحب. هي تلك اللحظة التي يغفر فيها الطفل إساءة اللحظة الماضية بضحكة واحدة، وكأن الزمن لديه ليس إلا حلمًا سريع الزوال.
الطفولة هي التي لا تملك أفقًا،
لكنّها تملك السرّ في قلبها.
أرى الزهور في أيدي الطيور، وألمس الغيم
كما لو أنني قد خُلقت منه.
في الطفولة، لا يوجد مكان للمستقبل أو الماضي. هناك فقط لحظة “الآن”، لحظة ممتلئة بالحياة. إنها توق الروح إلى الحرية المطلقة، حيث لا قيود للواقع ولا ثقل للحسابات.
لكن الطفولة ليست بريئة من الألم. إنها أيضًا أول مواجهة مع المجهول، أول انكسار لحلم صغير، وأول سؤال بلا إجابة. ومع ذلك، حتى هذا الألم يُصبغ بلونٍ فاتح، كدمعة تلمع تحت شمس النهار.
الطفولة هي القصيدة الأولى التي يكتبها الكون على صفحات الروح. كل مشهد، كل صوت، كل لمسة، تتحول إلى حرفٍ ينسج معاني الحياة الأولى. ومن هذا النسيج تتكون أحلامنا التي تبقى خالدة في زوايا القلب، حتى لو دفنتها الحياة.
أنا الذي يرنو إلى السماء، وفي عينيه يختبئ عالمٌ جديد،
أركض خلف فراشةٍ فلا أسعى للإمساك بها،
لكنني أريد أن أعيش في أجنحتها الرقيقة.
وربما سر الطفولة يكمن في أنها ليست مرحلة تُطوى، بل بذرةٌ في أعماقنا، تنتظر منّا أن نرويها بالدهشة من جديد. أن نتعلم من الطفل الذي كنا، أن نرى العالم مرة أخرى كحلم لا يشيخ، وكأن الكون يدعونا كل يوم لنبدأ الرحلة من البداية.
في داخلي، القصائد التي ترفض الأقلام أن تكتبها،
تكتب نفسها في دقات قلبي.
ومع كل حلمٍ أراه، يولد الكون من جديد،
طفلًا آخر، يحمل حلمي معه.
كل لحظة في الكون هي مهرجانٌ من الضوء،
كل خطوة، عطرٌ من الزهور التي لم تزرع بعد.
حين تمطر السماء، أرى الطفولة تغسل الأرض،
وحين يختفي القمر، أتساءل إن كانت أحلامي قد رحلت معه،
أم أن الكون قد استعاره ليعود بها من جديد.
نازك الخنيزي
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي