ظلال الأمل / بقلم: شهلا فيض الله
العراق _ كردستان_ سلیمانیة
كان المارة يمشون بخطوات سريعة على الشوارع والأرصفة من شدة الحر في ذلك الظهيرة دون أن يرى أحدا نظرات تلك الفتاة البائسة الصغيرة ذات الشعر ألأسود المبعثر والفستان الاحمر الممزق وهي جالسة على الرصيف بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة المطلة على الشارع المزدحم. تقوم من مكانها وبيدها علبة صغيرة، تريد أن تعبر الشارع لكن نعلاها الشبه الممزقتان لا تساعدها على المشي، بعد ثلاث خطوات لم تكمل الرابعة يتمزق فردا وتصبح عديم الفائدة ولا تستطيع الاستمرار في المشي، تضع قدماها على الأسفلت، يكاد أن يحترقا من شدة الحر، سرعان ما تضعهما على النعال، ما بين عبور الشارع والرجوع الى مكانها تفز من صوت منبه أحدى السيارات! فتعود مسرعة الى الرصيف تاركة ورائها نعلاها في منتصف الشارع، ثم تراقب السيارات وتنتظر ان تنتهز فرصة لتعود وترجعهما..
حرارة الشمس الساحقة أتعبتني كثيرا وكنت على عجلة من أمري للعودة الى البيت، وأنا أسير بخطوات سريعة متجهة الى محطة الحافلات بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة وعيناي على الفتاة والمشهد بأكمله، اتجهت صوبها، حين اقتربت منها نظرت لها مبتسمة وأبعدتها قليلا من طريق المارة، فكانت تنظر لي بتعجب! وأرى في عيناها سؤالا: هل هناك من يهتم بي؟ كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها، تمسك بيديها علبة علكة يبدو أنها لم تبع منها قطعة واحدة حتى ذلك الوقت من الظهيرة والسوق بدأ يخلو من الناس، وجهها المسمرّ من كثرة تعرضها للشمس الحارقة وشعرها المجعد المبعثر وملابسها الممزقة لم تستطيع إخفاء جمال ملامحها! جمال لا يستطيع رسام بارع أن يرسمها، لمعان عينيها السوداوين المليئتين بالأمل والبراءة جعلتني غير قادرة على تركها ومواصلة سيري.
كم سريع يمر الأزمان؟ لا يتغير البؤس بل ينتقل من زمن الى أخر، أعاد هذا المشهد قصة بائعة الكبريت ل(هانس كريستيان أندرسون) الى ذاكرتي، تلك الفتاة الصغيرة الشقراء التي خرجت من البيت في يوم بارد يتساقط الثلج بغزارة لبيع الكبريت وبعد أن فقدت حذائها في الثلج أصبحت تمشي حافية القدمين تطرق الأبواب لبيع الكبريت ولم يفتح لها أحدا فالكل كان مشغولا بعيد رأس السنة الميلادي، عندما حل الظلام كانت ترتجف من البرد والجوع وقد أهلكتها التعب فجلست في زاوية بين منزلين وبدأت بإشعال عود الثقاب واحدة تلو أخرى ولم تتدفأ. قلت في سري: أوليس روح هذه الفتاة الصغيرة بائعة العلكة هي نفس روح الفتاة بائعة الكبريت وأرادت أن تعيش مرة أخرى؟ لو كان كذلك، فها هي الحياة تعذبها مرة أخرى! عدتُ اليها من وسط بردٍ قارسٍ الى حر الشمس الحارقة فلم أجدها التفيت الى يميني ثم يساري رأيتها جالسة مع فتاة في عمرها أتعس منها حالاً، بيدها كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي نصف ممزق تقلب صفحاتها بشغف وكأنها عثرت على كنز ثمين ولا تصدق أنها ملكته! حينها سألتها بائعة العلكة: من أين حصلت على هذا الكتاب؟ أجابتها الفتاة دون أن ترفع رأسها: وجدته في حاوية المدرسة القريبة من هنا. فجأة وضعت الفتاة بائعة العلكة يدها الصغيرة المسمرّة على صفحة ما وفيها صورة فتاة جميلة بعمرها ترتدي فستان أحمر قصير ذات ياقة وحاشية صفراء وحذاءٍ أحمر، مزينة شعرها بقراط أصفر ذهبي وهي تلعب مع أخيها لعبة الطائرة الورقية، حدقت للصورة قليلا ثم نهضت بسرعة أرادت أن تقول أنها تشبهني حين نظرت الى فستانها الاحمرِ الممزق وقدماها الخشنتين حافيتين، لم تقول شيئا حملت علبة العلكة بهدوء من على الارض وفجأة ألتفتت الى الجهة المقابل للشارع وكأن أحدا يناديها! نظرت لي وقالت بصوت خافت: كل يوم وأنا أقف هنا يناديني أخي من الجانب الاخر، عندما أعبر الشارع لم أجده! ابتسمت وقلت لها: أنه يريد أن يلعب معكٍ، أذا أعطيني يدكٍ لنعبر الشارع ونبحث عنه ثم أشتري لكٍ زوج نعا….. قاطعتني بصوت حزين: لا قبل عدة أشهر دهسه سيارة ومات!
كاد قلبي يتمزق حزنا عندما سمعتها! شهقت حسرتاً على حالها حينها تذكرت مرة أخرى بائعة الكبريت وهي تشعل آخر عود كبريت لترى جدتها مرة أخرى وسط الضوء تناديها لتضعها في حضنها الدافئ، فها هي أيضا تبحث عن أخيها كي تجد حظنا لها وسط الزحام التي لا تعني لها شيئا. فجأة ركضت صوب الشارع وعبرتها.. حينها أكملت سيري الى موقف الحافلات، بعد خطوتين فقط فجأة سمعتُ صوت بوق مع توقف سيارة تملئ الشارعً وكأنها صاعقة ضربة المكان! وأنا ألتف بسرعة أرى الناس واقفين في مكانهم كالتماثيل ينظرون الى الجانب الآخر للشارع..
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي