الجمال الحسي ودلالات الوجودیة في قصیدة ( الربیع قادم ) للشاعر كریم عبدالله
بقلم : سلوی علي
في هذه القصيدة “الربيعُ قادمٌ”، يُقدم الشاعر الربيع ليس فقط كفصلٍ من فصول السنة، بل ككيان حيوي متعدد الأوجه، يحمل في طياته دلالات وجودية وفلسفية عميقة. الشاعر یجسد الربيع في ثلاثة تجليات رئيسية (المرأة و الرجل والطفل)، كل منها يعبر عن بعد خاص من أبعاد الحياة والوجود.
فهذه القصيدة تعيد إنتاج الربيع كـ (فعل فلسفي ) قبل أن يكون ظاهرةً طبيعية ، إنّه الوجودُ نفسه في حالة انبثاقٍ دائم، يحرك بدواخلنا سؤالًا جوهري هل الربيع قادمٌ من خارجنا، أم أننا نكتشفه في داخلنا كلما اهتزتْ أغصان روحنا؟
- الربيع كأنثى:
الربيع هنا “امرأة تشعُّ أزهارها عطرًا” (المرأة/الطبيعة) وهو تصوير يجمع بين الجمال الحسّي (العطر، الأزهار) والقوة الأنثوية الخلاقة الأرض التي “تتمرغ” في هذا العطر. هذه الصورة تذكرنا بأسطورة، إلهة الخصوبة الیونانیة، التي تبعث الحياة في الأرض بعد سباتها الشتوي، فالأرض التي “جرّدها الشتاء” تتحول إلى فضاء من الموسيقى واللذة، وكأن الربيع يقاوم فوضى الموت والجمود “سنوات رقدتْ هامدةً” هنا، يصبح الربيع رمزًا للانتصار على الزمن والوحشة “أدغال الوحشة المصفرّة”.وكذلك نری الفراشات التي “تلعقُ وجعَ جفاف الغروب” توحي بعملية شفاء كوني، حيث يعيد الربيع ترميم ما أفسده الزمن.
-الربيع كرجل: القوة الذكورية الربيع “رجل” عشقه يُنشئ أقواس قزح وأنهارا، وهو رمز للفعل الإبداعي الذي يُ]حيي البساتين “المحرومة”. هنا يُلامس الشاعر فكرة “العشق” كقوة دافعة للخلق، “حرّكَ كنوزَ أرضها المطيعة” يُشير إلى العلاقة التكافلية بين الإنسان والطبيعة، حيث يعيد الربيع توازن الحياة بعد حرمانها.
كما نری تحرر وجودي “الطيور الشبقيّة” والتلول “الأنيقة” تُبرز الانزياح من السكون إلى الحركة، ومن الصمت إلى “التعرّي الناضج”، وكأن الربيع يُجرد الطبيعة من أقنعتها لتبوح بجوهرها.
- الربيع كطفل:
الطفل في هذه القصیدة هو رمز للبدء الخالص، غير الملوث بتجارب الماضي “ينزعُ دموعها الغبراء”.
ونری ایضا ريحُ الصبا بينَ جفنيهِ” و”كركراتها تتدحرجُ” تظهر الربيع كلعبة كونية و العصافير التي “تتطيّبُ بأنفاسه” تجسد الوحدة بين الكائنات، وكأن الربيع هو النغمة التي تنظم الكون او كأسطورةٍ حديثة تُعيد لنا وبصیغة جدیدة تعريف الزمن . الربيع هنا يُحرّر الماضي “سنوات رقدتْ”ويُعلن عن حاضرٍ مليءٍ بالاحتمالات “تتدفقُ مضيئةً”.
قد اختتم الشاعر قصیدته بصور “الفارسة” و”كركراتها” ليمنح الربيع بعدا بطوليًا، وكأنه بطل أسطوري يقطع المسافات ليعيد الحياة ففي هذه الصورة وحد الشاعر الأبعاد الثلاثة (الأنثى، الرجل، الطفل) في كينونة واحدة تجمع بين الرقة والقوة، بين البراءة والحكمة.
القصیدة
الربيعُ قادمٌ
الربيعُ امرأة تشعُّ أزهارها عطراً تتمرّغُ فيهِ الأرضَ التي جرّدها الشتاء يعجُّ بـ الموسيقى يوقظ قناديلَ اللذّةِ تدقُّ ابوابَ سنوات رقدتْ هامدةً انتابها سباتٌ طويلٌ تحتَ أدغالِ الوحشةِ المصفرّة تحلمُ بـ نزهةٍ توقفُ هذا التداعي فراشاتها تتدفقُ مضيئةً تلعقُ وجعَ جفاف الغروب إذا وشوشَ للـ أزهارِ تُزهِرُ ضحكةً خافتةً تدفئ أصوات الغصون الحزينة . الربيعُ رجلٌ عشقه أقواس قزح تشكّلت أنهاراً عذبة تُسقي البساتينَ المحرومة عصفَ الحرمانَ يوماً بدّدَ زينتها الصادقة حرّكَ كنوزَ أرضها المطيعة خبّأَ بذورَ السعادةِ الهادئة طيوراً شبقيّة في تلولها الأنيقة تستعيدُ جمالَ صهيلها النائم تتوقدُ تتعرّى ناضجةً تعانقُ جرأة غناء أمطارهِ الراقصة تحتوي نعومتها تعومُ لا ذعر يجرؤ يقرعُ محطات تأجج نشوةِ شقائقها ( يبوسها )* كلّ صباحٍ تكتسي روحهُ فرحاً كثيفاً بـ طعمِ الندى . الربيعُ طفلٌ يستشعرُ مشاعر الحبّ العميق يتبخترُ تتنافسُ الألوان في عشقِ أنغامهِ تسمعُ تراتيلَ مقدمهِ كلّ عامٍ تنزعُ دموعها الغبراء يتلألأُ تحتَ ظلالها ( كاروكهُ )* ريحُ الصبا بينَ جفنيهِ تنامُ العصافير سلاماً يغمرُ قلقَ زقزقتها تتطيّبُ بـ أنفاسهِ الخمائل ترفرفُ أوراقها تريدُ تلامسُ وجههُ المخمليّ نفضتْ رداءَ الصمت وراحتْ كركراتها تتدحرجُ فارسةً عبرَ المدى .
- يبوسها : يقبّلها.
- كاروكهُ : الكاروك هو مهد الطفل.

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي