عقد اللؤلؤ
رزان نعيم المغربي
ناهد:
بخطوات حذرة، أهبط درجات البيت الثلاث المحاذية للرصيف الضيق. أقطع المسافة بتؤدة، نظري مُثبّت على الحذاء ذي الكعب العالي، كأن النظرة تمنحني توازنًا وهميًا. أسمع ليلى تناديني من وراء المقود:
– ناهد، هيا أسرعي يا غزالة… موعد المقابلة يقترب!
انطلقنا وناهد تتلفت حولها تراقب الطريق، تحاول التملص من زحمة السير المتزايدة.
منذ يومين وأنا أستعد للمقابلة، أو بالأصح، ليلى تهتم كيف يبدو مظهري أكثر مني. تراجع أمام عينيها كل تفاصيل يومي – الحذاء، طلاء الأظافر، أحجار الطاقة التي تقول إنها ستجذب الحظ، بينما رأسي مشغول فقط بعدد الفواتير التي لا تنتهي. أقساط الحضانة للطفلتين اللتين أنجبتهما بفارق عام واحد، نسيتُ معها متعة المشي بأحذية أنيقة. استبدلتها بالرياضية الخفيفة، خزانتي امتلأت بسراويل الجينز والقمصان القطنية. حتى شعري لم يسلم، لاتعجبها تسريحته الوحيدة ذيل حصان، معقود بأي ربطة مطاطية أعثر عليها في المطبخ أو فوق رف الحمّام.
– أخيراً يا ناهد، دعيني ألقي نظرة على طلاء أظافرك؟
تمسك ليلى يدي وأنا اقربها من المقود، تبتسم وهي منتبهة للطريق الذي ازدحم فجأة وتوقف سيل السيارات عند إشارة المرور.
التفتت مجددًا لتتأكد بأني لم أهمل سوارًا مصنوعًا من حجر الجمشت الأرجواني. قالت إنه مخصص لمقابلة العمل، يجذب طاقة المال بحسابات الطاقة، وقرطان من الياقوت الأحمر حسب رواية الفلك، فهو الأنسب ليوم ميلادي، ولا يتنافر مع لون السوار.
ولهذا كان من المناسب أن تعيرني بدلة أنيقة من ماركة “شانيل” باللون الوردي، والجاكيت بالقماش ذي المربعات من الكتان النافر حول حوافها.
أتخيل طفلتي الصغيرة لو كانت تجلس في حجري، كم ستشعر بالبهجة أثناء عبثها بتلك الخيوط الأنيقة، لتجذبها خيطًا إثر خيط.
وصلنا قبل الموعد بدقائق، وبمهارة ركنت السيارة في أماكن ملحقة بخلفية المبنى. مددت ساقي بحذر من باب السيارة وقلتُ:
– ليلى، نسيت أن أتمرن على المشي بهذا الكعب.
– همم آه، أشم رائحة عطرك. “شانيل” يلائم كيمياء بشرتك. احتفظي به، اعتبريه هدية مسبقة بمناسبة العمل الجديد، فهو يدعم العلاقات وسحره لا يقاوم. أريد التعبير ‘ن امتناني لك، أنتِ من علمني أن أؤمن بنفسي يوم تركت الجامعة، الآن دوري لأساعدكِ.
في الداخل، كان علينا صعود الدرجات العشرين إلى الطابق الثاني.
بخطواتها الرشيقة سبقتني، وقفت عند أول درجة. حين عبرت سيدة تجاوزت الأربعين بقليل، تبادلت معها تلك النظرات الشائعة بين نساء لا يعرفن بعضهن، ومع هذا تتفحص إحداهن الأخرى بشكل خاطف وحاد.
بخطى بطيئة أصبحنا ثلاث نساء عند أول درجة من السلم. لوّحتُ بيدي لتصعد أولًا، هزّت رأسها وهمست:
– شكرًا.
فيما لحقت ليلى، ومن بعدها أخذتُ أصعد، وكعب الحذاء يعزف موسيقى رنانة على الرخام. لم تمنع أذناي من التقاط صوت أنفاس السيدة اللاهثة.
أخيراً ، هانحن في الطابق المنشود نصطف وراء بعضنا البعض مثل عربات قطار متتالية. السيدة تدفع الباب ونحن من خلفها. أمسكت بيدها المقبض النحاسي لندخل، همستُ:
– شكرًا.
– لا بأس، وهذه ضريبة انتعال الحذاء الأنيق.
قالتها بأسلوب ينمّ عن سخرية!
ثم خاطبت ليلى مرحّبة:
– أنتِ ناهد إذن؟ من أجل مقابلة العمل؟
– لا، أنا صديقتها. (لوّحت بيدها نحوي).
– أنا مسؤولة التوظيف، عليا. أحتاج إلى موظفة تساعدني لمدة محدودة،
وضغطت على حروف الكلمة الأخيرة. مشت خطوات في الممر وأشارت لنا لنجلس في قاعة مخصصة للانتظار.
فتحت باب مكتبها، دخلته ، وسمعنا صوت أغلاقه القوي دون دعوتي مباشرة للمقابلة. التفتُ إلى ليلى وهمست:
– لن أقبل بالعمل معها، تبدو سيدة لئيمة!
علياء:
لم يخطر في بالي أن أطلب صورة شخصية تُرفق مع السيرة الذاتية. الصورة تُمهّد للانطباع الأول، تُسهّل الحكم المبكر، وتمنحني وقتًا للتصرّف إن احتجت.
وافقت على طلب ناهد فقط بدافع تعاطفٍ لحظي مع ما كتبته:
سيدة توقفت عن العمل، خمس سنوات بعد الإنجاب، . ظننت أنها تشبهني حين كنتُ أظن أن العودة إلى المكتب بعد الغياب سهلة.
توقعت مظهرها بسيطًا. امرأة بملابس عملية، لا وقت ولا مال تخصصه لطلاء الأظافر أو تنسيق الأحجار الكريمة.
فاجأتني، رأيتها كما اشاهد فتيات قادمات من مجلة أزياء، بدلة “شانيل”، عطر فرنسي يملأ القاعة، وأظافر مطلية بلون صيفي بهيّ.
تقف بثقة، منتعلة حذاء بكعب عال، ابتسامتها هادئة، متصالحة… لا تشبه امرأة قلقة من فواتير أو أقساط حضانة.
جعلتني أشعر بثقل حقيبتي الجلدية القديمة. ليست حقيبة، بل إرث تعب. تذكرت كم من مرة تجولت أمام واجهات المتاجر، أتأمل حقائب مثل التي تحملها، ثم أُعرض عن السعر، وأختار من زاوية التنزيلات شيئًا “يشبهني أكثر”.
منذ متى لم أضع طلاء أظافر. منذ متى لم أغيّر تسريحة شعري، أو أشتري شيئًا لمجرد أنه “جميل” وليس “ضروريًّا”.
الساعة تقترب من الثانية عشرة. موعد دفع فاتورة الكهرباء المتأخرة. سأقوم بتحويل المبلغ ولندعها تنتظر قليلاً لابأس، والرسالة الأخيرة من المحامي لا تزال في بريدي: “زوجكِ لم يرد على الاستدعاء، نحتاج لجلسة جديدة.”
انظر إلى الساعة، فاتت ربع ساعة إضافية، واختفى معها تعاطفي، انتباني
شعورًا بالتهديد لمكانتي في الشركة.
كنتُ أنوي أن أُجري مقابلة سريعة، أسألها بعض الأسئلة النمطية، وأقرر بعدها بهدوء. الآن مضطرة للتخلّص منها، حتى لو تطلّب الأمر تحمل المزيد من ساعات العمل الإضافي. لا بأس، سأحتمل. أحيانًا، الضغط يكشف الحلول. يجعلنا نرى بوضوح أن الخطر ليس خارجنا، بل على بُعد بابٍ واحد فقط. تخيلتها تحتل مكاني ببساطة، دون حتى أن تجلس بعد.
شابة. متألقة. تملك مؤهلات أعلى، وحضورًا لافتًا، ستثير إعجاب المدير حتمًا.
سيحبّون أناقتها، حديثها، ربما يبتسم لها الحظ سريعًا، ويُفتح أمامها الباب الذي أقف أنا عند عتبته منذ سنوات. قررت : – لا مكان لناهد هنا.
لكن المشكلة ليست فيها. أقسى ما في الأمر أنني لم أعد أملك رفاهية المنافسة. معها.
فرصتي الأخيرة حانت، قبل أن يراها المدير، أسبقها إلى باب القاعة،
أُخبرها، بلطف مصطنع، أن الموظفة السابقة ستعود من إجازتها، وأننا نعتذر… هكذا أتخلّص من مأزق مساعدة أنيقة متعالية.
ليلى:
بذلت ما في وسعي، استثمرت كل علوم الطاقة التي تدربت عليها في آخر كورس للتنمية البشرية حضرته لمدة أسبوعين، وصرفت مبالغ كبيرة على شراء مختلف صنوف الأحجار الكريمة لكل مناسبة.
لم أكمل دراستي الجامعية، لكنني لم أحتجها لأُثبت نفسي. وجدت طريقًا آخر أسرع وأكثر بهجة، كورسات تطوير الذات، الطاقة الحيوية والتفكير الإيجابي، صارت حسابي على الأنستا يترتفع فيه أرقام المتابعات،وصرت أشارك متابعاتي تفاصيل بسيطة تُشعرهن بالسحر في حياتهن اليومية.
أعرف كيف أتحدث، متى أبتسم، متى أضع رابط التخفيض تحت الفيديو. وها أنا اليوم أتلقى هدايا من علامات تجارية تحلم بها نساء كثيرات، فقط لأني أعرف كيف أستخدم كلمتين منمّقتين: “الحبّ والامتنان”.
حقيبتي الجديدة هدية من شركة راعية، وحين نشرت صورتي بها كتبت: “كلّما آمنتِ بجمالك، جاءكِ كل ما تحتاجينه.”
ضحكت ناهد حين قرأتها، لكنها لم تقل شيئًا.
أنا لا أزعم الحكمة، فقط أعرف أن الجمال يُصغي لمن يحسن الكلام، والنجاح أحيانًا يحتاج إلى إضاءة جيّدة… لا إلى شهادة جامعية.
وها هي فشلت مع أول اختبار جربته فيها مع ناهد. لماذا لم تعمل معها؟ هذا ما يؤرقني ولابد من سبب ما لم أنتبه له.
تجذب ناهد يدي ونحن ننتظر السيدة التي دخلت مكتبها وأغلقت الباب، ومضت نصف ساعة نتأمل الجدران وبعض العاملين يعبرون يلقون نظرة فضولية، يسكبون القهوة في أكوابهم من جهاز وضع في ركن الغرفة، ويمضون.
– ليلى، اسمعيني: لن أقبل العمل في هذا المكان، تبدو هذه السيدة لئيمة!
نهضنا معاً كأننا على اتفاق، أثناء خروجنا من الباب، برز جسد السيدة الضخم، وقفت تراقب مغادرتنا بنصف فم مفتوح من الدهشة، ثم تحولت إلى ابتسامة خبيثة، حتى لم تسألنا عن سبب انصرافنا. لم ألفت انتباه ناهد التي مشت باتجاه الممر بخطوات أكثر ثقة وغير مبالية بما يجري وراءها،كيف لوحت بيدها بمعنى بالسلامة، سطع ضوء الشمس قوياً في وجوهنا خارج المبنى، نظرت إلى صديقتي وسألتها:
– ناهد! أنت لم تضعي عقد اللؤلؤ!!؟ وهو صانع التوازن الطاقي الذي يمنحك الفرص!
– لا، بالطبع، اللؤلؤ لا يصنع الفرص، أنا من أصنعها.
– آه، لحظة، تذكرت! هناك سبب إضافي لفشل المقابلة: فلكيًّا، كوكب عطارد يتراجع في برجك يا عزيزتي، وهو المسؤول عن التواصل.
داخل السيارة ابتسمت لصورتها المنعكسة على المرآة الجانبية. تبدو ملامحها راضية تماماً، كأنها لم تتعرض للرفض لتوّها، كأن هماً انزاح عن قلبها، بينما أفكر بأنها خسرت طاقة عقد اللؤلؤ، لو فعلت ذلك، كانت هناك فرصة أكبر لحدوث انسجام مع علياء، التي لم تسمح لنفسها ولو للحظة أن تجد نقاط التشابه بينها وبين ناهد.
بينما خسرت محتوى رائع على حسابي في الآنستا، لو حصلت على الوظيفة، لصنعت فيديو عن طاقة اللؤلؤ وسيلهم كثير منالنساء ، واربح المزيد من التاجر على شطارتي في التسويق.
أما عليا اللئيمة، خسارة… أظهرت حقًا أنها غيورة!.
27مارس 2021

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي