الريس حسنين لسيد غلاب
بين الوجود والعدم
مقدمة
يحيا الإنسان بين تحولاته الخاصة والعامة وفق معايير المجتمع والبيئة والمكان والزمان، محاولًا إثبات ذاته المفقودة بفعل عوامل ربما تكون خارجة عن إرادته. وما المجتمع سوى فرد (الإنسان) يمثل كيانًا متكاملًا، يتكون من حالات نفسية تأخذ وضعيتها في إطار علاقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية.
تتناول مجموعة الريس حسنين إشكاليةً تطرح ما يعيشه المواطن المصري، وربما العربي، من ظروف اجتماعية صعبة أثرت على حياته الزوجية، سواء كان رجلًا أو امرأة. وسط صراع الحياة، يصبح الإنسان بين حافتي المطرقة والسندان، بين الوجود والعدم.
ويأتي دور الأدب ليعرّي الواقع والمجتمع معًا، لأنه ببساطة مسكون بالحياة، يسعى برؤية استشرافية إلى انتشال الإنسان من واقع غير مرضٍ عنه إلى ما هو مأمول. تعيش الشخصيات في السرد وتسعى إلى تنقية الواقع من السموم التي تنشر الضبابية في سيرورة التطور والبناء، لأن الأدب مرآة الواقع وارتقاء بالحياة من وجهة نظر المبدع. لذا، فإن كل أدب مأهول بسرديات الكون الكبرى وقضاياه الإنسانية والاجتماعية والثقافية والحضارية هو أدب أصيل.
يحاول سيد غلاب، من خلال مجموعته القصصية الريس حسنين، استشراف واقع حالم انطلاقًا من الواقع المتخيل. إذ لا يكتفي بعرض الواقع القاتم، بل يتخطاه إلى تقديم الوعي الممكن من خلال قصص مستمدة من الحياة المصرية. تتناول القصص موضوعات مثل الزوج والزوجة، الطلاق، الحب واللاحب، الثقافة، النقد والنقاد، عمال التراحيل، استدعاء التاريخ، الصعيد، وعبد الناصر، لتشكل جميعها مدونة واحدة تمثل الهوية المصرية أو جزءًا منها.
تطرح المجموعة عدة تساؤلات، مثل: هل هذه هي الحياة؟ وهل يمكن للإنسان أن يبدع ويشعر بحياته ويثبت ذاته بين أفراد المجتمع؟ هل الحياة اليومية سهلة وسلسة؟ هل أنا متفاعل مع الحياة، أفيدها وأستفيد منها؟ هل ما نحياه نموذج لحياة العالم من حولنا، أم أنه خاص بنا وبمجتمعنا العربي والمصري؟ أم أن الأمر صراع مع الطبقية وترجمة لهذه الطبقية في أفعال الإنسان المعاصر، سواء في محيطه الضيق أو الواسع؟ أم هو صراع مع التاريخ والدين والسياسة والثقافة؟
القصص العشر في المجموعة
تضم مجموعة الريس حسنين عشر قصص قصيرة، وهي:
- طلاقه، طلاقها، طلاقهما (في قصة واحدة مقسمة إلى ثلاثة أقسام)
- حتى لا تستيقظ الدواجن
- صولو نشاز
- أفكار
- الريس حسنين
- عقرب سبت
- جحود
- السفاح
- توهان
- المتاهة
تحليل بعض القصص
1- طلاق (طلاق 1، طلاق 2، طلاق 3)
تحكي القصة الأولى عن الزوج الذي يسعى إلى الطلاق وما يعانيه، ثم في طلاق 2 تتناول معاناة الزوجة ورغبتها في الطلاق. لكنهما يصلان في طلاق 3 إلى قرار عدم الطلاق، حفاظًا على الأسرة من أجل الأولاد. في هذه الثلاثية، نجد تقنيات سردية تتناول الاستسلام للواقع بدافع تحمل الألم، لأن المخاطرة قد تؤدي إلى ألم أكبر.
تناقش القصة أيضًا نقد القوانين التي تصب في مصلحة الزوجة، وصراع المعيشة بين الدخل المالي ومتطلبات الحياة، ورب العمل الذي لا يرحم، إضافة إلى القوانين التي تُسن لصالحه، والمقارنة بين البيوت التي تؤدي إلى خرابها.
2- الريس حسنين
تتناول القصة بناء السد العالي، واستدعاء الصعيد، وشخصية عبد الناصر، وعبقرية العامل المصري، إضافة إلى الحياة الاجتماعية والمعيشية للعمال في تلك الفترة. كما تتناول دور الأم في التحفيز، وإقصاء الصعيد، مع الحفاظ على التراث الشفهي والعادات والتقاليد.
تناقش القصة أيضًا عقدة “الخواجة” لدى المصريين، المتمثلة في استيراد المهندس الأجنبي وإهمال المواهب المصرية، وسرقة الأضواء والأفكار لصالح الكبار ليظلوا دائمًا في الصدارة.
3- حتى لا تستيقظ الدواجن
تدور هذه القصة حول فلسطين، وتقارن بين حالها وحال الشعوب العربية، التي تنشغل بمعظمها بمتابعة كرة القدم. ففي الوقت الذي يُباد فيه شعب، نجد شعبًا آخر يحتفل أمام شاشات التلفاز.
4- صولو نشاز
تحكي القصة عن أشرف، الذي يشبه إلى حد كبير شخصية أحمد زكي في فيلم الراقصة والطبال. فقد تحول من نجم الفرقة إلى شخصية مهمَلة، لأنه لم يدرك ماذا يريد الجمهور، الذي أصبح لا يميز بين الطرب والنشاز، فكانت النتيجة أن أُلقي به خارج الفرقة.
5- أفكار
تتناول القصة كاتبًا يناقش روايته، فإذا بالنقاد يذبحونه نقديًا. تنقذه فتاة تُدعى “أفكار”، تمارس معه الجنس ثم تتركه. كان يتمنى أن يعرف عنها المزيد أو أن يصبحا صديقين، لكنها رفضت. رغم ذلك، استطاعت أن تخرجه من أزمته ليبدأ حياة جديدة.
6- عقرب سبت
تحكي القصة عن حياة البيوت في الصعيد، وظلم الفتيات، وزواج القاصرات، وتدمير حياة الفتاة بحرمانها من التعليم وإجبارها على تحمل المسؤولية قبل أوانها.
7- السفاح
تتناول القصة فكرة الخوف، حيث تسكن عائلة خارج المدينة، وتدور حول خرافة أن الجن يخرجون الكنوز بشرط ذبح عدد معين من الأطفال.
8- جحود
تعالج القصة جحود الأبناء تجاه آبائهم، حيث يربي الأب أبناءه ويتعب في تربيتهم، ثم يتركوه وحيدًا في شيخوخته.
9- توهان
تدور القصة حول أخت شديدة التعلق بأخيها، لكنها خلال رحلة سفر تنساه أو تتناساه، وهو بجوارها. تعبّر القصة عن استهزاء المجتمع الرأسمالي بالمشاعر الإنسانية.
10- المتاهة
تناقش القصة الاستعجال في الزواج دون التفكير في العواقب، وفكرة السفر من أجل الحياة وتأمين متطلبات الزوجة، مما يؤدي إلى موت الحب، فتتحول الحياة إلى مجرد بقاء بلا روح.
في النهاية:
يتضح من خلال هذه القصص أن المجموعة تدور في فلك واحد: الظروف الاجتماعية التي يحياها الإنسان المصري والعربي، حيث يبدو الوجود كالعدم.
المجموعة القصصية وتقنيات السرد
تسعى القصة القصيرة إلى تصوير الواقع والتفاعل معه نقديًا، عبر تقنيات سردية تُبرز أزمات الفرد في المجتمع. في هذا السياق، تأتي مجموعة “الريس حسنين” لسيد غلاب كعمل أدبي يتناول قضايا اجتماعية وسياسية عبر رؤية تجمع بين الواقع والمتخيل، حيث يتجلى الصراع الأزلي بين الوجود والعدم في بنية النصوص المختلفة. تطرح المجموعة عدة تساؤلات حول معنى الحياة، حدود الفرد داخل المجتمع، وتأثير الطبقية والتاريخ والسياسة على الهوية. في هذه الدراسة، سنحلل البنية السردية للمجموعة، ونتناول دلالاتها الفكرية والاجتماعية، مع التركيز على تقنيات السرد التي وظفها الكاتب.
الإنسان بين الوجود والعدم: المحور الفكري للمجموعة
يحاول سيد غلاب في مجموعته أن يستنطق الواقع من خلال شخصيات عالقة بين الفعل والانفعال، بين الرغبة في التغيير والخضوع للظروف القاهرة. تتداخل القضايا الاجتماعية مع السياسية، ليظهر الفرد العربي، والمصري تحديدًا، ككائن يتأرجح بين المقاومة والاستسلام. تتناول القصص قضايا مثل الطلاق، الفقر، التهميش، الظلم الاجتماعي، الصراعات الأيديولوجية، والواقع السياسي الذي انعكس على الحياة اليومية للناس.
تتمثل الفكرة المركزية للمجموعة في ثنائية الوجود والعدم، حيث يصبح الإنسان مغيّبًا رغم حضوره الفيزيائي، ويعيش حالة من التناقض بين ما يطمح إليه وما يفرضه عليه المجتمع. يظهر هذا جليًا في قصة “طلاقه، طلاقها، طلاقهما”، حيث نجد الزوجين يتصارعان بين الرغبة في الانفصال والاستمرار من أجل الأولاد، ليكون القرار النهائي تكريسًا لحالة الجمود والاستسلام، مما يعكس فكرة الاستسلام للواقع كحل لتجنب الألم الأكبر.
تقنيات السرد: البناء والأسلوب
1- التعدد الصوتي وتنوع الرؤى
تعتمد المجموعة على التعدد الصوتي
حيث تتنوع وجهات النظر بين الشخصيات، مما يعكس حالة التشظي الاجتماعي. في قصة “طلاقه، طلاقها، طلاقهما”، يتم تقسيم السرد إلى ثلاث زوايا، لكل من الزوج والزوجة والعلاقة بينهما، مما يتيح تحليلًا عميقًا للحالة النفسية لكل طرف.
2- التناص واستدعاء التاريخ
يستخدم الكاتب التناص مع النصوص الأدبية والتاريخية لتوسيع أفق الدلالة. في قصة “الريس حسنين”، يتم استدعاء عبد الناصر وبناء السد العالي، مما يعكس رؤية نقدية لحقبة شهدت تناقضات جمّة بين الطموح والتهميش. كما يتم استدعاء أبيات من قصيدة أبي تمام، لتأكيد التلاقي بين الماضي والحاضر في قراءة الواقع العربي.
3- المفارقة والرمز
توظف المجموعة تقنية المفارقة بشكل بارز، حيث تُقابل القيم الإنسانية بالواقع المرير. في “حتى لا تستيقظ الدواجن”، يتم وضع مشهدين متوازيين: الأول عن معاناة الشعب الفلسطيني، والثاني عن الشعوب العربية المحتفلة بمباريات كرة القدم، مما يعكس الانفصال القاسي بين القضية والوعي الجماهيري. كما يظهر الرمز في قصة “عقرب سبت”، حيث تمثل لدغة العقرب معتقدًا خرافيًا، لكن البطلة تنجو في النهاية، لتكسر بذلك قيود التفكير التقليدي.
4- السرد الدائري والتكرار البنيوي
يتجلى السرد الدائري في عدة قصص، مثل “المتاهة”، حيث يبدأ السرد بمأزق الزواج غير المدروس، وينتهي بالعودة إلى نفس النقطة، ليؤكد على فكرة أن الزمن ليس خطيًا، بل حلقة مفرغة تدور فيها الشخصيات دون خلاص.
القضايا الاجتماعية والإنسانية في المجموعة
1- صراع الطبقات والعدالة الاجتماعية
تعكس المجموعة بوضوح الفجوة بين الطبقات في المجتمع المصري. في “الريس حسنين”، نجد الإشارة إلى إقصاء الصعيد وأزمة العمال الذين ساهموا في بناء السد العالي، بينما تُعطى الأضواء للأجانب. كما تتناول “جحود” فكرة الجحود الطبقي، حيث يعمل الأب جاهدًا ليمنح أبناءه حياة أفضل، لكنهم يتخلون عنه بعد نجاحهم، في نقد واضح للأنانية التي يفرزها المجتمع الرأسمالي.
2- المرأة بين القهر والتحرر
تناقش المجموعة وضع المرأة في المجتمع العربي عبر عدة قصص. في “عقرب سبت”، يتم تصوير زواج القاصرات كواقع مفروض، بينما تعكس “أفكار” تناقضات العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث تنقذ “أفكار” البطل من أزمته الوجودية ثم تتخلى عنه، مما يثير تساؤلات حول مفاهيم الحب والعلاقات العابرة.
3- أزمة الهوية والانتماء
يتجلى موضوع الهوية في قصة “توهان”، حيث تعيش البطلة حالة من الضياع النفسي، لدرجة أنها تفقد إدراكها لوجود أخيها بجوارها. إنها استعارة لمجتمع يفقد تواصله مع ذاته، ويمضي في الحياة دون وعي.
الخاتمة: هل هو وجود أم عدم؟
تُقدم مجموعة “الريس حسنين” تصورًا سوداويًا للمجتمع العربي، حيث يتحول الإنسان إلى كائن مسلوب الإرادة، يعيش وجودًا أقرب إلى العدم. عبر توظيف تقنيات سردية متقدمة، نجح سيد غلاب في تقديم رؤية نقدية للواقع، تُحاكي أزمات الإنسان العربي في عصر تُهيمن عليه الرأسمالية والقهر الاجتماعي والسياسي. تظل التساؤلات التي تطرحها المجموعة مفتوحة، لأنها تعكس قلقًا وجوديًا لا يزال قائمًا: هل نحن حقًا موجودون، أم أننا مجرد ظلال في متاهة الحياة؟
___
*عضو اتحاد كتاب مصر
رئيس ملتقى الشعراء العرب
