
متاهات الوجود الهش: قراءة تحليلية لقصة “زلزلة”
للقاص ماجد السرحي
بقلم: وفاء داري- كاتبة وباحثة من فلسطين
تنطلق هذه القراءة المتعمقة من عتبة عنوان لافت، “زلزلة”، لا يكتفي بالإشارة إلى هزة أرضية عابرة، بل يستبطن دلالات وجودية ونفسية عميقة تهز أركان الذات وتزعزع ثوابت العالم. تستكشف قصة ماجد السرحي القصيرة هذه، عبر سرد يتدفق بسلاسة الوعي، متاهات الوجود الإنساني الهش في مواجهة الفقد، والعبثية، والتمرد على زيف المشاعر الاجتماعية. نسعى في هذه المقالة إلى تحليل قراءة تحليليّة معاصرة للنص، بدءًا من تفكيك دلالات العنوان والصنف الأدبي، مرورًا بالأسلوب والثيمات والرسالة، وصولًا إلى استجلاء الأبعاد الفلسفية والانزياحات والصور الشعرية التي تشكل نسيج هذه التجربة الأدبية.
قصة “زلزلة” للقاص ماجد السرحي تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة، اذ تصنف القصة ضمن الأدب الوجودي المعاصر، حيث تتجلى ثيمة الغربة والعبثية والبحث عن المعنى في عالم يبدو فاقدًا لليقين. حيث تتقاطع الكتابة الوجودية مع التشظي النفسي واللغوي.
يحمل العنوان “زلزلة” دلالة رمزية عميقة ومزدوجة تتجاوز المعنى الحرفي للهزة الأرضية ليشير إلى اضطراب وجودي ونفسي عنيف يزلزل كيان الشخصية الرئيسة. زلزلة مادية (كارثة طبيعية)، وأخرى وجودية داخلية تهز كيان البطل. النص مشبع بـانزياحات لغوية وصور شعرية (“دوامة أعماقي”، “السكون يخترق قلبي”) تعكس حالة تيه روحي وموت رمزي يتقاطع مع موت الأم.
الثيمات الرئيسية: البطل يعاني قلقًا وجوديًا يعبّر عن اللامعنى والمفارقة: فقد الأم يقابله حضور أمسية شعرية؛ هروب من الحزن إلى الجمال، ومن الواقع إلى القصيدة. هذا الانفصال يفضح الزيف الاجتماعي والطقوسي المرتبط بالحزن. السرد الغائر في اللاوعي والرمز يشي بـ”قبر داخلي”، يحيا فيه البطل، إلى أن تنكسر الجدران بخطاب ساخر ينهي القصة: “نجوت من زلزال بقوة تسع درجات من العبثية الوجودية”. القصة تمثل تجليًا حديثًا للاغتراب الكافكوي، بلغة تلامس التجريب الصوفي والعدمية المعاصرة.
تطرح القصة رسالة: مفادها أن المواجهة الصادقة مع الذات والعبث الوجودي قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية لتجاوز النفاق الاجتماعي والوصول إلى فهم أعمق للوجود. أما الأبعاد الفلسفية فتتمثل في استكشاف مفهوم العدم، والبحث عن الذات في مواجهة الفقد، والتساؤل عن جدوى الطقوس الاجتماعية في التعبير عن الحزن الحقيقي.
في النهاية، يكشف “الزلزال” عن قناع هش يسقط ليُظهر حقيقة إنسانية معذبة، لكنها في ذات الوقت، تنجو من “زلزال العبثية الوجودية” لتطل على نور يقين ما، ربما يكمن في صدق التعبير عن الذات.
يتميز الأسلوب الأدبي: بالتدفق السلس للوعي، والانتقال الحر بين الأفكار والمشاعر، واستخدام صور شعرية موحية كـ “دوامة مرعبة إلى الأعماق” و”سكون يخترق قلبي مرعب حد الموت” للتعبير عن عمق الأزمة الداخلية. تتجلى الانزياحات في وصف مشاعر عدم الانتماء تجاه فقد الأم، والتناقض الصارخ بين الحزن المفترض وحضور الأمسية الشعرية، مما يكشف عن تمرد دفين على الأعراف الاجتماعية والمشاعر السطحية.
التحليل السردي البنيوي
1. البنية الزمنية:
القصة لا تخضع لتسلسل كرونولوجي، بل تقوم على تفكيك الزمن إلى طبقات: زمن الحاضر (الخروج من القبر)، زمن الذاكرة (موت الأم)، وزمن اللاوعي (التجربة العميقة داخل الذات). هذا التفكيك الزمني يُحدث تموجات سردية تعكس تمزق الذات وفقدان المرجعية الزمنية.2. الشخصيات: • الراوي/البطل: شخصية مفككة، وعيها ذاتي، تحمل أبعادًا رمزية وجودية تمثل الإنسان المنكسر أمام الموت، الذاكرة، والمجتمع. • الأم: تظهر كشخصية رمزية لـ”الأصل”، “الجذر”، و”المقدس الضائع”. • الصديقة: شخصية عابرة تمثل التماس الجسدي والروحي مع الحياة، لكنها تُقصى ككل ما هو خارجي في عالم البطل الداخلي. • الفأر: عنصر ميثولوجي/رمزي يهدد جسد البطل في القبر، تمثيل بيولوجي للعدم والتهام الذات. 3. الراوي:
راوٍ ذاتي/متكلم، يحكي من داخل التجربة بضمير “أنا”، ما يضفي على السرد طابعًا اعترافيًا وتأمليًا، لكنه يجنح أحيانًا إلى تفكيك الذات والسخرية منها.
4. الفضاء:
ينتقل من “دوامة داخلية/قبرية” إلى مشهد “زلزال خارجي”، هذا التحول يخلق مفارقة سردية بين الداخل الميتافيزيقي والخارج الفيزيقي. الفضاء هنا رمزي أكثر منه واقعي، يعبر عن مأزق الوعي.
5. الحدث السردي المركزي:
ليس “الزلزال” بمعناه الحسي، بل زلزلة البطل داخليًا نتيجة الفقد والتناقضات الوجودية. أما الزلزال الواقعي، فهو مكثف مجازي لبلوغ الذروة: التحام الموت بالحياة في لحظة استفاقة.
مقاربة تأويلية (وجودية – صوفية – اجتماعية)
• وجوديًا: القصة تسائل معنى الحزن، الحب، الانتماء، والموت. البطل لا يعيش عدمية فلسفية بقدر ما يعيش لا جدوى التعبير الاجتماعي عن الحزن. هنا تتحول التجربة الشخصية إلى نقد للطقوس وتعرية الزيف.
• صوفيًا: “القبر”، “الدوامة”، “العدم”، “انبثاق الروح” هي مفاهيم تحاكي الخلاء الصوفي والانبعاث، وكأن القصة تمرّ بمراحل “موت نفسي”، “مجاهدة”، ثم “نور الكشف”، الذي يتجلى أخيرًا بالتحرر من القبر.
• اجتماعيًا/نقديًا: القصة تسخر من التقاليد الاجتماعية المقيدة: العزاء، الحزن الجماعي، العلاقات الشكلية. البطل يرفض هذا الإطار الزائف، ويحتج على التسليع العاطفي للموت والحب.
خلاصة تأويلية: “زلزلة” ليست مجرد قصة عن موت أم ونجاة من زلزال، بل هي رحلة تفكيك للذات المعاصرة في مواجهة عبثية الوجود، تفضح التناقض بين الشعور العميق والممارسة السطحية، وتعيد مساءلة مفاهيم: الحب، الحزن، الحياة، والموت.
وختامًا، لا يسعنا إلا أن نثمّن هذا العمل القصصي المتماسك الذي قدمه القاص ماجد السرحي، والذي تميز بأسلوب سردي مشحون بالعمق النفسي والانزياحات الدلالية، وبلغة شعرية تتقاطع فيها التأملات الوجودية مع البوح الداخلي الصادق. استطاع الكاتب أن ينقلنا إلى قلب التجربة الإنسانية المهزوزة بفعل الفقد والوعي القلق، دون الوقوع في الابتذال أو الاستعراض الخطابي، بل حافظ على توتر درامي داخلي يحاكي خلخلة النفس لا الأرض فقط.
نشكره على هذا العمل الثرّ الذي يستحق الوقوف عنده طويلًا، قراءة وتأويلاً، لما يحمله من صدق شعوري، وتجريب فني، ووعي فلسفي نادر في القصة القصيرة المعاصرة.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي