
ثواني بيروت الجمال المفجوع بين الدخان والدهشة”
بقلم ناصر رمضان عبد الحميد
أولًا: تقديم عام
اللوحة “ثواني” للفنانة التشكيلية اللبنانية المهندسة فيروز أبو أنطون تمثّل شهادة بصرية صارخة عن لحظة مأساوية في تاريخ لبنان الحديث: انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. وكأن الفنانة أرادت من خلال ضربات اللون والدوّامات أن تحتفظ بتلك “الثواني” قبل الانفجار، حيث الزمن يعلَق، والصدمة تتجسد في موجة رمادية هائلة تبتلع كل شيء.
ثانيًا: تحليل فني بصري للّوحة
- التكوين والفضاء:
اللوحة تنقسم بصريًا إلى نصفين غير متباينين: النصف العلوي الذي يعبّر عن الانفجار والدخان، والنصف السفلي الذي يوحي ببقايا المدينة – بيروت.
تبرز الحركة الدائرية واللولبية للدخان، وهي تقنية تُوحي بالاختناق، والانحباس، والانفجار الآني، وكأنها “ثوانٍ” فعلًا تعيد تكرار نفسها دون انفكاك.
- اللون:
الأبيض المزرق يرمز إلى البراءة والهدوء ما قبل الانفجار، فيما الأسود والرمادي الداكن يجسدان الحريق، الموت، والاختناق.
ومضات الأحمر في الأسفل تُحيل إلى الدماء والدمار، في إشارة مباشرة إلى مأساة الضحايا.
- الرموز والتأويل:
يظهر في اللوحة وجه بشري باهت في أسفل السحابة، يبدو مذعورًا أو مذهولًا، وكأنه روح أو شهيد صاعد في العاصفة.
الشكل الكتلي في الأسفل يشبه صوامع المرفأ، وتكاد تظهر بعض المباني المتناثرة، ما يمنح اللوحة مرجعية مكانية.
ثالثًا: القراءة النقدية المفاهيمية
تُحوّل الفنانة “ثواني” الانفجار من حدث خبري إلى أسطورة جمالية/مأساوية، تتجاوز الواقعة إلى تحليل ما بعد الصدمة بصريًا. لا توثّق فيروز الحدث كواقعة بل تستبطنه وتتفجّر به على سطح اللوحة، حيث يصبح اللون لغة للتعبير عن الوجع الجمعي.
يبرز في العمل تأثير الخلفية الهندسية للفنانة؛ فحسّها بالفراغ والكتلة يظهر في ضبط التكوين المكاني رغم الفوضى اللونية، وهذا يعكس قدرتها على الموازنة بين العفوية والانضباط، بين العاطفة والبنية.
رابعًا: مقاربة من خلال السيرة الذاتية
تتجلى في هذه اللوحة هوية فيروز أبو أنطون الإبداعية الفنية والإنسانية:
كمهندسة تعرف كيف تُشيّد مساحة حتى من رماد؛ فالدخان هنا ليس فوضى عبثية بل مكون معماري متصاعد من كارثة.
كفنانة تشكيلية متأثرة بالتصوير والمسرح، استطاعت أن تنقل الدراما البصرية إلى أقصاها، مستخدمة الضوء والظل كأنها تؤطر مشهدًا سينمائيًا.
كمواطنة لبنانية، هي شاهدة وموجوعة، تنتمي إلى مدينتها التي فجّرها الحزن.
خامسًا: الخلاصة والتوصيف الجمالي
“ثواني” ليست لوحة، بل لحظة متجمدة على قماش. فيها تختنق الأزمنة، وتنبض الأرواح، وتحترق الذكريات. اللوحة تؤرّخ للمأساة لا بأرقامها بل بانفعالاتها، وتمنحنا تأملًا عميقًا في هشاشة المدن، وقوة الفن في التقاط الرعب والجمال في لحظة واحدة.
__
ناصر رمضان عبد الحميد