قراءة في نص(قصيدة) للشاعر محمد صوالحة بقلم جوهرة أحمد
في دهاليز الروح بين رقصة الكينونة وفناء الكلمة، بين الشعر والأنا، تكشف القصيدة عن ذاتها في تشظيات الروح وأشلاء الجسد المتآكل. ترسل الوميض كمرآة عاكسة لرحلة نفسية مضنية، رحلة الأنا الباحثة عن ذاتها و وهج الكلمة. في تجلٍ لحوار قد يبدو سطحي لكنه يمثل صراعا وجوديا يدور في أعماق النفس الشاعرة، بين ما هو متوقع من الشعر وما هو كائن فيه. بين ما هو منطوق وما لم ينطق بعد .. نغوص في رحاب الكلمات، حيث تتراقص الحروف على إيقاع الروح، وتتجسد الأنا في أبهى صورها وأعمق تجلياتها.
وتأتي القصيدة لتُشرّع الأبواب أمام فهمٍ مغايرٍ لذات الشاعر، مغاير للواقع، ولما يمكن رؤيته في شريط حياة بلا ألوان، تُلونها ريشة الشاعر كما يحلو له. فالاعتداء بفعل ماض “كان” يشير لحياة ولّت ومضت، أصبحنا نراها بالأبيض والأسود .. وفعل “جلس” يدل على الثبات واللّا مُتغير من الأمور، فكل شيء كما هو لم يتغير منذ زمن بعيد، مثل الشعر.
فنحن لا نقف أمام نص بكلمات تُقرأ أو لا تُقرأ، بل سوف ندخل عوالم لم تُكتشف بعد، ومرايا قد تعكس صراع الإنسان الأبدي مع الوجود، الذات، والآخر. حيث هنا، الأنا تتجاوز كونها ضمير لفاعلٍ متكلم، بل تغدو نبضًا حيًا، تارةً تلملم أشلاء المدينة بقلب مُحِبٍّ وعينِ مُرمّم، وتارةً أخرى تقف حائرةً، مُصيخةً السمع لتحذير غامض يتهامس حول جنون الشعر. دعونا نغوص معًا في دهاليز هذه الأبيات، لا لنفكك ألغازها فحسب، بل لنستشعر رحلة الأنا وهي تتأرجح بين الفعل العميق والتأثر الوجودي، بين جنون الإبداع وحكمة التحذير، في سيمفونية أدبية تُوقظ فينا حواس الدهشة والاستكشاف.
بداية، تتسم القصيدة بنبرة ذاتية عميقة، لتكشف عن علاقة خاصة وحميمة بين الشاعر والشعر. علاقة تتجلى في حوار الشاعر مع شخصية نسائية، ومع حفيده الجني، مما يضفي على النص بعدًا رمزيا وفلسفيا.
كانت أمامي تجلس
وأنا ألملم أشلاء المدينة
أسرح جديلة الشوارع
أداعب الرصيف
أناغي الحسان
هذا النص الشعري يحمل في طياته أبعادًا نفسية ورمزية عميقة، تتجاوز المعنى الحرفي للكلمات لتتوغل داخل مشاعر محملة بأثقال سنين مرت وتجارب إنسانية ذات معنى يوحي بحالة نفسية تتأرجح بين الفقد والتعويض، الرغبة الجامحة في الترميم، والبحث عن الجمال والألفة داخل عالم كئيب مضطرب.
تُظهر الأبيات الأولى في “كانت أمامي تجلس” حالة من الحضور الغائب أو الفقد الوشيك. إن هذه الجملة الافتتاحية، رغم بساطتها، تحمل ثقلاً نفسيًا كبيرًا. فكلمة “جلست” تشير إلى حالة من السكون أو الثبات، ولكن ما سيأتي لاحقًا يوحي بأن هذا الثبات ربما يكون مؤقتًا أو أنه يسبق حالة من التغير أو الابتعاد. وقد تمثل هذه “التي تجلس” شخصًا عزيزًا، أو ذكرى، أو حتى جزءًا من الذات.
إن الانتقال إلى الـ”أنا” في “وأنا ألملم أشلاء المدينة”، يشير إلى “أنا” الشاعر بين الذات الفاعلة والذات المتماهية حيث أن المقطع الشعري يُظهر أن هذه الـ “أنا” ذات حضور قوي، فاعلة، ومتفاعلة مع محيطها، بل منصهرة فيه إلى حد الاندماج. وهي ليست مجرد ضمير متكلم، بل هي محور دلالي يكشف عن طبقات من المعنى تتجاوز الظاهر.
ففي الشطر الأول “وأنا ألملم أشلاء المدينة”، تبرز “الأنا” كقوة فاعلة تسعى إلى لملمة ما تبعثر وتشتت. وتشير “أشلاء المدينة” إلى حالة من الخراب، التفكك، أو ربما الحزن الذي أصاب المدينة، وربما ما أصاب الذات الشاعرة نفسها. وهنا تُمثّل “الأنا” دور المُنقِذ، المُرَمّم، الذي يحاول إعادة الحياة والنظام لما فسد أو لما تمّ إفساده. وهذا الفعل يعكس وعيًا عميقًا بالمسؤولية تجاه المحيط، ورغبة في تجاوز الدمار.
ثم تنتقل “الأنا” من فعل الترميم المادي إلى أفعال ذات أبعاد نفسية وإنسانية عميقة مع الجمادات، “أسرح جديلة الشوارع / أداعب الرصيف”. هنا تتجسد ظاهرة الأنْسَنَة بشكل واضح، حيث تمنح “الأنا” الشوارع والرصيف صفات بشرية (جديلة، مداعبة). وهذا التماهي يكشف عن حساسية مفرطة، فالشاعر ليس مجرد ملاحظ، بل هو يتفاعل مع تفاصيل المدينة الدقيقة ويمنحها جزءًا من روحه ومشاعره. كما يدل هذا التماهي على علاقة وجدانية عميقة مع المكان، فالمدينة ليست مجرد مبانٍ، شوارع وأزقة … بل هي كائن حي يتألم ويتنفس ويحتاج إلى رعاية وحنان، و”الأنا” هنا هي جزء لا يتجزأ من روح المدينة. وقد تكون هذه الأفعال انعكاسًا لحالة نفسية داخلية، حيث تسقط “الأنا” مشاعرها وأحاسيسها على العالم الخارجي، فتخلق واقعًا موازيًا أكثر دفئًا وإنسانية.
يختتم المقطع بـ “أناغي الحسان”، وهو فعل يحمل دلالة حسية وعاطفية مباشرة. فالمناغاة تشير إلى الكلام الودي أو اللطيف، وغالبًا ما تكون موجهة للأطفال أو الأحبة. وهذا الفعل يُعيد “الأنا” إلى سياق التفاعل البشري المباشر، بعد غوصها في علاقتها مع الجمادات. إذ يمكن أن تشير “الحسان” إلى النساء الجميلات، مما يعكس ميلًا طبيعيًا نحو الجمال الإنساني والتفاعل العاطفي في إطار تقليدي. أو قد تكون “الحسان” رمزًا لكل ما هو جميل ومبهج في الوجود، حيث تسعى “الأنا” لمناغاة هذه الجوانب والتمسك بها.
وإذا حاولنا الغوص في ما ورائيات النص نجد أن ذلك يستدعي مقاربة الأنا من زوايا نقدية متعددة. ففي النقد العربي، يمكن رؤية بعض ملامح الذات المتسامية أو المتماهية مع الوجود في تماهي الشاعر مع المدينة، على نحو يذكرنا ببعض جوانب الأنا الصوفية، حيث تتحد هذه “الأنا” بروح المكان، وتمنحها من فيض إحساسها. وهذه ليست أنا متفردة منفصلة، بل هي أنا منفتحة على الكون ومحتوية له. كما أن هذا التركيز على الذات الشاعرة ومشاعره تجاه الطبيعة والمكان يتردد فيه صدى الأنا الرومانسية العربية المتأثرة بالغرب، حيث تبحث هذه الأنا عن الجمال والمعنى في التفاصيل الصغيرة، وترمم الخراب الروحي والمادي من خلال فعلها الشعري، مما يجعلها أنا محورية، فكل الأفعال تدور حولها وتصدر منها، مما يعكس مركزية الذات في التجربة الشعرية.
أما إذا حاولنا الغوص فيما تشير له “الأنا” من خلال النقد الغربي، فنجد أن صدى الأنا الرومانسية (Romantic Ego) يتردد بقوة في هذا المقطع. فالتركيز على فردية المشاعر العميقة، والتفاعل الحسي مع الطبيعة (أو هنا، مع المدينة)، كلها سمات مميزة للحركة الرومانسية. “الأنا” هنا هي الذات الشاعرة التي تعيد تشكيل الواقع عبر عدسة مشاعرها المتفردة، مانحة الجماد حياة وروحًا. إنها أنا تفرض ذاتها على العالم وتعيد تجديده وخلقه فنيا.
ومن منظور التحليل النفسي، يمكن تحليل هذه “الأنا” من زاوية الأنا الفرويدية (The Ego)، حيث قد تشير أفعال مثل “لملمة الأشلاء” إلى آلية دفاع نفسية لمواجهة واقع مؤلم أو تجربة صادمة، يسعى فيها اللاوعي إلى ترميم الذات من خلال ترميم الخارج. “مداعبة الرصيف” و”مناغاة الحسان” قد تعكس رغبات لاواعية للاتصال الإيجابي والبحث عن الجمال والحنان، كآلية للتعامل مع الألم أو الوحدة. وعلى الرغم من أن النص لا يحمل سمات الوجودية الصريحة، إلا أن فعل “الترميم” قد يُرى كتعبير عن محاولة “الأنا” الوجودية لإضفاء معنى على عالم قد يبدو فوضويًا أو مهجورًا “أشلاء المدينة”. إنها “أنا” تسعى لفرض وجودها ومعناها من خلال الفعل والتفاعل مع العالم، حتى لو كان هذا العالم جمادًا.
تُقدم “الأنا” في هذا المقطع نموذجًا للذات الشاعرة العميقة، الحساسة، والفاعلة. إنها “أنا” في أبعادها وتشكلاتها المتعددة، تتجاوز مجرد الحضور السلبي لتصبح قوة مبدعة، ترمم، تؤنسن، وتتفاعل حسيًا. هذا التعدد في الأدوار يعكس ثراء التجربة الإنسانية وقدرة الشعر على تجسيد أعقد المشاعر والعلاقات، سواء مع الذات، مع الآخر، أو مع المكان.
“وأنا ألملم أشلاء المدينة” يكشف عن حالة نفسية من الانكسار والتبعثر. “أشلاء المدينة” هي استعارة قوية للفوضى، التدمير، أو الضياع. حيث أن الذات الساردة هنا لا تعيش هذه الفوضى فحسب، بل تحاول جاهدة لملمتها. وهذا الفعل يعكس دافعًا عميقًا وقويا نحو الترميم، الإصلاح، وإعادة البناء، ليس بالضرورة للمدينة المادية، بل للعالم الداخلي للذات أو للعلاقات التي تضررت. وهذا الجهد الكبير في “لملمة الأشلاء” يشير إلى عبء نفسي كبير يقع على عاتق الشاعر، ورغبته في استعادة الانسجام والنظام.
وتأتي الأبيات اللاحقة لتكشف عن آلية نفسية بارعة للتعامل مع هذا الفقد والتبعثر من خلال الأنسنة والإسقاط العاطفي. فالشاعر يقوم بأنسنة عناصر المدينة الجامدة في: “أسرح جديلة الشوارع”، فالشوارع، التي غالبًا ما ترتبط بالحركة والفوضى، تتحول هنا إلى كيان حي ذي جديلة تحتاج إلى التسريح. وهذا الفعل يعبر عن رغبة من الشاعر في إضفاء النظام والجمال على ما هو فوضوي. والجديلة قد ترمز للروابط المتشابكة، وللتاريخ، أو للمسارات التي سلكتها الذات. وتسريحها هو محاولة لفك تعقيدات الماضي أو الحاضر، وإيجاد ترتيب منطقي فيه. “أداعب الرصيف”، الرصيف، الذي يمثل نقطة التقاء بين الفرد والمساحة العامة، يصبح هنا كائنًا حساسًا يمكن مداعبته. والمداعبة توحي للحنان، الألفة، والبحث عن اتصال آمن ومطمئن في بيئة قد تكون قاسية أو غير مبالية. إنه سعي لإعادة إحساس الأمان والراحة إلى الذات من خلال التفاعل اللطيف مع المحيط. “أناغي الحسان”، هذا السطر هو ذروة الإسقاط العاطفي والأنسنة. “الحسان” قد تشير إلى الفتيات الجميلات، ولكن في سياق النص الذي يركز على المدينة وعناصرها، يمكن تأويلها كأنسنة للجمال الكامن في تفاصيل المدينة أو في الحياة ذاتها. والمناغاة تعبر عن اللعب، والدلال، والبحث عن البهجة الخفيفة. إنها آلية للهروب من ثقل الأشلاء إلى عالم من الجمال والمرح، محاولة إيجاد بصيص أمل أو فرح حتى في خضم التشتت.
من منظور نفسي، يمكن قراءة البحث عن المعنى والجمال داخل الفوضى في هذا النص كمحاولة من الشاعر لإعادة تشكيل واقعه الداخلي والخارجي بعد تجربة مؤلمة. وعملية “لملمة الأشلاء” لا تقتصر على الفعل المادي فقط، بل تتجاوزه لعملية إعادة تجميع أجزاء الذات المبعثرة. فالأنسنة المتكررة لعناصر المدينة (الشوارع، الرصيف، الحسان) هي بمثابة إسقاط للرغبات الداخلية في الألفة، الجمال، والنظام على العالم الخارجي. فالشاعر عندما لا يستطيع السيطرة على الفوضى الكبرى، فإنه يبحث عن مساحات صغيرة يمكنه فيها فرض إحساسه بالجمال والنظام والألفة. هكذا فإن النص يصور الذات كذات ترميمية بامتياز، لا تستسلم للفوضى بل تتفاعل معها بطريقة إبداعية ومُحِبة. وفي هذا التفاعل، يجد الشاعر معنى جديدًا لواقعه، ويعيد بناء علاقة ذاتية مع محيطه، محولًا الألم والفقد إلى دافع للبحث عن الجمال والتواصل، حتى مع الجماد. ويظهر من المقطع الأول أن القصيدة تشير للمرونة النفسية وقدرة الروح البشرية على البحث عن النور في أحلك الظروف، وتحويل الفوضى إلى فرصة لإعادة تعريف الذات والعالم المحيط بها.
نظرت إليّ تمتمت
وقالت :
لا تقرأ الشعر
فالشعراء قوم مجانين
تُقدم هذه الأبيات مشهدًا دراميًا ومثيرًا للتساؤل. مشهد يتضمن نهيا عن قراءة الشعر بين التحذير والجاذبية الغامضة خصوصا عندما تواجه الذات الساردة تحذيرًا مباشرًا وصريحًا من شخصية يبدو أنها ذات سلطة أو تأثير (نظرت إليّ، تمتمت، قالت).
إن في هذه النظرة “نظرت إليّ تمتمت / وقالت: …” مشهدًا مكثفًا يضع “الأنا” الشاعرة في مواجهة مباشرة مع سلطة غامضة، تفرض تأثيرها عبر التواصل البصري واللفظي. ومحاولة تحليل وفهم أبعاد هذه “الأنا” هنا لا يتعلق بأفعالها أو صفاتها الذاتية بالدرجة الأولى، بل بكيفية تلقيها وتفاعلها مع هذا التحذير المباشر والمثير للريبة.
“أنا” تبدأ تجربتها بـ”نظرت إليّ”. هذه النظرة لم تكن مجرد لمحة عابرة، بل هي فعل مقصود يحمل الكثير من الدلالات. فعندما يرى الشاعر أن الذات المخاطبة وجهت نظرة مباشرة له قبل القول فهي ذات لها ثقل و وزن وسلطة عند الشاعر، “ذات” لها قيمة ومكانة خاصة. و لو لم تكن كذلك لما وجهت نظرها للشاعر وهي تتحدث، كانت كما لو أنها تأمره، وهذا يبرز أن “الأنا” الشاعرة قد استقبلت هذه النظرة كفعل سلطوي، مهيب، ومباشر. إنها نظرة تخترق، تثبت، وتستدعي الانتباه، مما يجعل “الأنا” في وضع المتلقي المستعد للأمر أو التوجيه. وهي في هذا المشهد ليست أنا فاعلة، بل هي أنا متأهبة للاستجابة.
تلي النظرة “تمتمت”، وهو فعل يزيد من غموض الموقف ويثير القلق. التمتمة عادة ما تكون صوتًا خافتًا، غير واضح المعالم، مما يشير إلى أن ما سيُقال قد يكون ذا أهمية خاصة، أو ربما يُراد له أن يبقى في حدود معينة من السرية أو الخصوصية. أو أن الشخصية المخاطبة مترددة في القول. فالنظرة تشير لسلطة أنثوية تعرف كيف توجه كلامها ويكون مسموعا وذا تأثير خاص، حيث يسبق التمتمة النظرة، فالنظرة تجعل المتلقي يستعد ويتأهب لسماع ما سيقال والتمتمة نوع من الإقناع الأنثوي (الكلام الخافت دليل على دلال المرأة ومحاولة منها لإقناع الطرف الآخر بطريقة غير مباشرة وكأنها تترك له الخيار). وهذا في حد ذاته قد يجعل المشهد ذا تركيبة غامضة. وهذا الغموض يضاعف من وطأة “الأنا” المتلقية، فهي لا تعرف بالضبط ما الذي ينتظرها، مما يزيد من حالة الترقب والقلق لديها. ثم يأتي “وقالت: …” ليضع “الأنا” أمام جوهر الموقف. وهو التحذير المباشر من قراءة الشعر. هنا، تتحول “الأنا” من مجرد متلقٍ إلى ذات تواجه تحديًا مباشرًا لوجودها الشعري. فالنهي عن قراءة الشعر هو نهي عن جزء أساسي من كيانها وهويتها. والنبرة الآمرة الناهية والمحذرة التي استشفها الشاعر (كما لو أنها تأمره) تؤكد على أن هذه “الأنا” تُوضع أمام قوة لا يمكن تجاهلها بسهولة.
إن النهي عن قراءة الشعر، خاصة عندما يأتي من مصدر ذي “سلطة أو تأثير أو قيمة خاصة”، يخلق صراعًا داخليًا عميقًا لدى “الأنا” الشاعرة. فهي أنا مهدَّدة تتعرض لتهديد مباشر لوجودها، فإذا كان الشعر يمثل لها الوجود أو التعبير، فإن النهي عنه يمثل محاولة إلغاء هذا الوجود، مما قد يثير شعورا بالتمرد، أو بالقلق، أو حتى بالخوف. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تكون هذه “الأنا” أنا متمردة أو منجذبة، فغالبًا ما يكون النهي عن شيء ما هو بحد ذاته عامل جذب. وهنا تكمن الجاذبية الغامضة.
فهذه “الأنا” ليست مجرد “أنا” خاضعة، بل هي ذات لديها شغف بالشعر، وبالتالي فإن هذا التحذير قد يزيد من إصرارها على قراءته، أو على الأقل يدفعها إلى التساؤل عن سبب هذا النهي وربما يزيدها إصرارًا.
ويمكن استنباط ما ورائيات هذا النص من خلال مقاربة “الأنا” والنظرة والسلطة في النقد العربي والغربي. فقد تمثل هذه السلطة في النقد العربي، الحقيقة المطلقة أو اليقين الذي لا يقبل الشك، بينما الشعر يمثل الشك أو التساؤل أو الرؤية المتعددة. هنا، تُوضع “الأنا” الشاعرة في مواجهة هذا اليقين، وكأنه يُطلب منها التخلي عن أداتها في اكتشاف العالم. و يمكن أن تكون الشخصية التي تُحذّر تمثيلاً للموروث الفكري، أو المؤسسة الدينية، أو حتى السلطة السياسية التي ترى في الشعر (بما فيه من خيال وحرية) تهديدًا لنظامها أو قناعاتها. وهنا، تتحول “الأنا” إلى ذات تسعى لتأكيد فرديتها وحريتها في مواجهة القمع الفكري. كما يمكن ربط هذا النهي بمفهوم “الكلمة والسحر” في التراث العربي، حيث ارتبط الشعر بالسحر والتأثير، وقد يكون التحذير هنا من قوة الكلمة الشعرية التي قد تكون خطيرة أو تؤثر على النفس بطريقة لا يرغب بها صاحب السلطة.
أما في النقد الغربي، يمكن تحليل هذا المشهد من منظور ميشيل فوكو كنوع من ممارسة السلطة على “الأنا” (الذات). فالنظرة، والتمتمة، والأمر المباشر هي آليات لتنظيم السلوك وإنتاج المعرفة، حيث يتم تحديد ما هو مسموح به (لا تقرأ الشعر) وما هو ممنوع. هنا، “الأنا” هي ذات تتشكل وتُقيّد بواسطة خطاب السلطة.
ومن منظور جاك لاكان، يمكن ربط النظرة هنا بمفهوم “الآخر الكبير”. فالنظرة المباشرة للذات الشاعرة هي نظرة قادمة من موقع سلطوي، وكأنها نظرة تذكّر “الأنا” بمكانها في النظام الرمزي، مما قد يثير فيها شعورًا بالانقسام أو القلق، حيث تتصادم رغبتها في الشعر مع الأمر القادم من “الآخر الكبير”. والمشهد يحمل أيضًا مسحة من الغموض والعبثية الكافكاوية، حيث تواجه “الأنا” أمرًا غير مبرر تمامًا أو غير مفهوم السبب، قادمًا من سلطة غامضة، مما يضعها في موقف الضعف والعجز، حيث لا تستطيع فهم منطق التحذير أو الاعتراض عليه بسهولة. ويمكن فهم التحذير من قراءة الشعر كشكل من أشكال الرقابة، سواء كانت رقابة ذاتية مفروضة من الآخر، أو رقابة مجتمعية. وهنا، تتحول “الأنا” إلى ضحية محتملة للرقابة، أو ذات يُطلب منها أن تُخضِع نفسها لسلطة معينة.
إن “الأنا” الشاعرة في هذا المقطع هي “أنا” تتعرض لضغوط خارجية تمس صميم هويتها. وهي “أنا” متلقية للسلطة في البداية، تتحول بعد ذلك إلى ذات تواجه صراعًا داخليًا بين الإذعان لتهديد لا تعرف أبعاده، أو التمرد عليه والتمسك بوجودها الشعري. فالنظرة والقول يجعلان هذه “الأنا” محورًا لعملية فرض سلطة وربما محاولة قمع إبداعي، مما يثير في النص طبقات عميقة من التساؤل حول الحرية، والرقابة، وطبيعة العلاقة بين الذات والشعر والسلطة.
أما النهي عن قراءة الشعر، وربطه مباشرة بالجنون، يفتح الباب لتأويلات عميقة تتجاوز المعنى الظاهري، وتغوص في الممكن واللاممكن من دوافع التحذير والغايات من الشعر بين الظاهر والخفي، حيث يُقدّم التحذير من قراءة الشعر في المقطع الذي سبق (نظرت إليّ تمتمت / وقالت: …) مشهدًا دراميًا لا يتوقف عند السطح، بل يمتد ليغوص في طبقات عميقة من الدوافع النفسية والاجتماعية والوجودية، ليكشف عن صراعٍ أزلي بين “الأنا” الشاعرة ووصمة “الجنون” المرتبطة بالإبداع. هذا النهي، الذي يبدو ظاهريًا وقائيًا، قد يحمل في طياته جاذبية غامضة ودعوةً خفيةً للغوص في الممنوع، ليكشف بذلك عن ثنائية الممكن واللاممكن في فهم العلاقة بين الفن والوعي.
وتبدو الدوافع الظاهرية للتحذير من الشعر نابعة من الخوف من التأثير السلبي الذي قد يلحق بالمتلقي نفسيًا واجتماعيًا. فقد يكون النهي هنا نابع من خوف حقيقي على الذات الساردة، و قد ترى الشخصية الناهية، التي قد تمثل الحكمة التقليدية أو التجربة الحياتية أو حتى جزءً من الذات الواعية، في الشعر خطرًا كامنًا. هذا الخطر قد يتمثل في أن هذا الأخير يثير العواطف الجياشة التي قد تخرج عن السيطرة، أو يدفع إلى التفكير غير التقليدي الذي يتجاوز الحدود المألوفة، أو يؤدي إلى الانعزال عن الواقع المادي الملموس. وكل هذه الأمور قد تُفسر على أنها جنون في إطار تفكير مجتمعي أو نفسي معين يفضل الاتزان والعقلانية على الشطط العاطفي أو الفكري. ويدعم هذا التفسير وصمة الجنون التاريخية التي لطالما ارتبطت بالشعراء على مر العصور. ففكرة أن الشاعر يرى العالم بطريقة مختلفة، أو يعيش تجارب حسية وعاطفية مكثفة وغير مألوفة، جعلته غالبًا ما يُصنف على هامش المجتمع العقلاني.
والنهي هنا هو ترديد لهذه الوصمة التاريخية-الاجتماعية التي ترى في الإبداع الشعري خروجًا عن المألوف، وبالتالي، تصنيفه كجُنون يجب الحذر منه والابتعاد عنه.
علاوة على ذلك، يُمكن فهم التحذير من الشعر كخوف من كونه بابًا للمجهول (الممكن وجوديًا). فالشعر في جوهره يكسر الحدود، ولا يلتزم بقواعد المنطق المعهودة، ويتلاعب باللغة، ويمزج الواقع بالخيال، ويستكشف أعماق النفس البشرية والجوانب الغامضة للوجود. وهذا الكسر للحدود قد يعتبر “جنونًا” لأنه يخرج بالمتلقي من منطقة الأمان المعرفية، ويدفعه إلى التساؤل والشك، وهو ما قد يعتبر خطيرًا على استقرار الفرد أو المجتمع الذي يفضل الثبات والوضوح. كما أن الشعر مرآة للذات، وقراءته قد تكون عملية اكتشاف ذاتي مؤلمة. فالشعر غالبًا ما يعكس دواخل النفس البشرية بكل تعقيداتها، بما في ذلك المخاوف، والرغبات المكبوتة، والتناقضات. و ربما يكون النهي محاولة لحماية الذات الساردة من مواجهة هذه الحقائق الداخلية التي قد تكون مزعجة أو مربكة، وبالتالي تدفع الشخص إلى حالة تشبه الجنون في فقدان السيطرة على العواطف أو الأفكار.
وعلى النقيض من الدوافع الظاهرية، يُمكن للتحذير أن يُقرأ كنوع من النهي كدعوة خفية للاممكن نفسيًا. فمن الممكن أن يكون النهي نفسه آلية نفسية لإثارة الفضول ودفع الذات الساردة إلى فعل العكس تمامًا. فعندما تُمنع من شيء ما، تزداد رغبتك فيه. ربما تهدف الناهية، بوعي أو بغير وعي، إلى تحدي المتلقي، ودفعه لاكتشاف هذا العالم المجنون المحظور، وبالتالي اكتشاف جوانب جديدة من ذاته أو من العالم. فيصبح هذا النهي نوعًا من الدعوة المقنعة أو الاختبار لقوة الإرادة والشغف بالشعر. وفي هذا السياق، إذا كان الشعراء مجانين، فربما لا يكون هذا الجنون سلبيا بالضرورة، بل قد يشير إلى قيمة الجنون الإبداعي. إذ يمكن أن يُفهم الجنون هنا على أنه الخروج عن المألوف، و التحرر من القيود، والقدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون. وفي هذه الحالة، يصبح النهي تحذيرًا من التميز، أو من اكتساب رؤية فريدة قد تكون مكلفة اجتماعيًا، ولكنه في الوقت نفسه اعتراف بقوة هذا الجنون”وفرادته.
وقد يشير التحذير إلى أن الشعر طريق للخلاص أو للهلاك أي اللاممكن ميتافيزيقيًا. فالشعر قد يكون في جوهره بوابة لعوالم أخرى لا يمكن للعقل المنطقي إدراكها. وهذا الجنون لا يعني بالضرورة الخلل العقلي، بل قد يشير إلى القدرة على تجاوز الواقع المادي والانفتاح على تجارب روحية أو ميتافيزيقية عميقة. فالنهي هنا يصبح تحذيرًا من الدخول في هذه العوالم العميقة والمضطربة، والتي قد تكون خطيرة على سلامة العقل والنفس في حال عدم القدرة على التعامل معها. ففي بعض التفسيرات، يمكن اعتبار الموهبة الشعرية نوعًا من الابتلاء أو النعمة التي تأتي معها لعنة الجنون أو عدم الاستقرار. فالنهي يكون هنا بمثابة شفقة على الذات الساردة، ومحاولة لإنقاذها من هذا المصير المحتمل. في المقابل، قد يكون الشعر هو المسار الوحيد الذي يمكن أن يحقق الخلاص أو المعنى العميق في حياة الذات، حتى لو كان ثمن ذلك هو الجنون في عيون الآخرين.
إن النهي عن قراءة الشعر في هذه الأبيات هو دعوة للتأمل في العلاقة المعقدة بين الفن، العقل، والجنون. إنه يلعب على وثيرة التوتر بين الرغبة في الحماية والتحذير من المجهول، وبين الجاذبية الخفية لكل ما هو محظور ومختلف. فالشاعر هنا لا يقدم إجابة قطعية، بل يفتح الأبواب أمام المتلقي ليستكشف بنفسه سر جنون الشعراء، وما إذا كان هذا الجنون هلاكًا أم طريقًا فريدًا للمعرفة والوجود.
وإذا عدنا للمرأة في المشهد الأول، فقد لا تكون مجرد شخصية خارجية، بل هي “الأنا العليا” في تجليها المحافظ، وصوت المجتمع الذي يُملي قواعده ويُبرمج الأفكار المسبقة. أو هي ذلك الجزء من نفس الشاعر الذي تلقى ترسبات التنميط: “لا تقرأ الشعر فالشعراء قوم مجانين”. إنها صدى الخوف من التجاوز، من الانفلات من الأطر، من وصمة الجنون التي لطالما ألصقت بكل من يجرؤ على رؤية ما وراء الواقع الملموس. هي، بعبارة أخرى، “اللاوعي الجمعي” الذي يتسلل إلى الفرد، ويحاول أن يقيده بقيود المألوف.
ثم يأتي “حفيدي الجني”. هنا، لا يمكننا رؤيته مجرد كائن أسطوري. إنه “الأنا الخفية” للشاعر، “الظل” اليونغي، ذلك الجزء العارف الذي يسكننا جميعا، الحكمة الباطنية التي لا تتلوث بالتدجين الاجتماعي. الجني هو صوت البديهة الصافية، صوت الفطرة التي لم تفسدها أحكام العقل المحدود. و ردُّه “إلا الذين صدقوا وكانوا بحبهم يؤمنون” هو بمثابة إيقاظ للضمير، طعنة حادة في قلب القناعات الزائفة. إنه يهمس في أذن الشاعر: “الحقيقة ليست فيما يظهره السطح، بل فيما يخفيه العمق”. والشعر ليس جنونا إلا إذا افتقر إلى الصدق، وتجرد من إيمانه العميق بجدواه. هذا الجني هو البطارية التي تشعل الشاعر وتوقد في نفسه شرارة التمرد على المألوف، وتدفعه للكشف عن حقيقته الكامنة ..
لا تقرأ الشعر
فالشعراء ( يتبعهم الغاوون )
رد حفيدي الجني وقال :
إلا الذين صدقوا
وكانوا بحبهم يؤمنون
“إلا الذين صدقوا”، وهو استثناء من قاعدة الجنون، وهذا التفاعل بين الحفيد الجني والشخصية الناهية يُضيف طبقة جديدة من التعقيد والتأويل للنص. فإذا كانت المرأة تحذر من الشعر والشعراء لأنهم مجانين ويتبعهم الغاوون، فإن رد الحفيد الجني يقدم استثناءً جوهريًا يكسر هذه القاعدة، ويُعيد تعريف العلاقة بين الشاعر والحقيقة.
فجملة “فالشعراء يتبعهم الغاوون” هي اقتباس مباشر من القرآن الكريم (سورة الشعراء، الآية 224)، وتحديدًا الآية التي ينتقد فيها الله سبحانه وتعالى الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، والذين يغوون الناس بكلماتهم. وهذا الاقتباس يرفع التحذير من الشعر من مجرد رأي شخصي إلى حكم ذي مرجعية دينية وأخلاقية عميقة.
وهذا الربط يفسر النهي السابق بشكل أقوى يتمثل في وجود خطر أخلاقي في قراءة الشعر، فلم يعد الجنون مجرد حالة نفسية، بل أصبح يُفهم على أنه انحراف أخلاقي أو ضلال. فالغاوون هم الضالون، الذين يضلون غيرهم أو يتبعون سبل الضلال. وبالتالي، فإن الشعر هنا يُنظر إليه كقوة قادرة على إفساد العقول والأخلاق، ودفع الناس إلى مسارات غير صحيحة. أو على اعتبار الشعر كنوع من أنواع الفتنة، فالتحذير يشير إلى أن الشعر، بقدرته على التأثير العاطفي والخطابي، قد يكون أداة للفتنة أو للخداع. فهو يلعب على المشاعر، وقد يغشي البصيرة، مما يجعل المتلقي يتبع ما ليس بصحيح. أو قد يجعل قارئه يخرج عن الحق، وهذا في سياق المفهوم الديني، الذي يشير لكون الشعر الذي يتبعه الغاوون هو الذي لا يستند إلى الحقيقة أو الإيمان الصادق. إنه شعر الزيف، أو المبالغة، أو الذي يخدم أهدافًا دنيوية بحتة دون التزام بالقيم الروحية أو الأخلاقية.
والاستثناء الذي تضمنته الأبيات، و رد الحفيد الجني “إلا الذين صدقوا وكانوا بحبهم يؤمنون”
يأتي كتصحيح إلهي أو حكمة أعمق، مستلهمًا ذلك من الآية التي تليها في القرآن الكريم مباشرة (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) [سورة الشعراء، الآية 227] وهذا الاستثناء ليس مجرد تلطيف للتحذير، بل هو تمييز نوعي بين الشعراء. فقد استثنى من الشعراء الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا صالحا، وأكثروا من ذكر الله، وانتصروا من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم. فصار شعرهم من ضمن أعمالهم الصالحة، وآثار إيمانهم، لاشتماله على مدح أهل الإيمان، والانتصار لهم من أهل الشرك والكفر، والدفاع عن دين الله، وتبيين العلوم النافعة، والحث على الأخلاق الحميدة.
فجاء ذكر الصدق “رد حفيدي الجني وقال :
إلا الذين صدقوا ..” كمعيار للخلاص، وهو المعيار الأساسي الذي يفصل بين الشعراء الضالين والشعراء المؤمنين. فالصدق هنا ليس فقط صدق القول، بل هو صدق النية، وصدق التجربة، وصدق الإيمان بما يقوله الشاعر. وهذا الصدق يبرؤه من تهمة الجنون أو الضلال، ويجعله مصدرًا للحكمة والإلهام بدلًا من الغواية.
والإيمان بالحب كقوة دافعة، في قول “وكانوا بحبهم يؤمنون” يضيف بُعدًا روحيًا وعاطفيًا عميقًا. فالحب هنا يمكن أن يكون حب الله، حب الحق، حب الجمال، حب الناس، أو حتى حب الشعر ذاته كوسيلة من وسائل التعبير عن الحقيقة. وهذا الإيمان بالحب يعطي للشعر غاية سامية ونبيلة، تجعله يتجاوز مجرد الكلام إلى فعل إيماني. فالشعراء الذين يؤمنون بحبهم هم أولئك الذين يستمدون إلهامهم من مصدر نقي، وتكون كلماتهم انعكاسًا لإيمانهم العميق والصادق.
ويمكن اعتبار الشعر كوسيلة للبحث عن الحقيقة، ففي ضوء هذا الاستثناء، يتحول الشعر من وسيلة للترفيه أو الغواية، إلى أداة قوية للوصول إلى الحقيقة، والتعبير عن الإيمان، ولإلهام الخير. إنه يفتح الباب أمام الشعر ليكون نوعًا من الوحي، أو وسيلة لمعرفة أعمق، أو مرآة تعكس أسمى القيم الإنسانية. والغاية من كل هذا هي إعادة تعريف الشعر والشاعر.
فهذا الحوار بين الشاعر والمرأة والحفيد الجني لا يدور حول قراءة الشعر من عدمها فحسب، بل هو نقاش حول طبيعة الشعر وقيمته في محاولة لتطهير صورة الشاعر والشعر من الوصمات السلبية. فليس كل شعر ضلالًا، وليس كل شاعر غاويًا أو مجنونًا. حيث يقدم الحفيد الجني شروطًا واضحة لتمييز الشعر الصادق والمفيد، وهذا الاستثناء لا يلغي التحذير من الشعر الضال، بل يضعه في سياقه الصحيح، ويبرز الجانب المشرق والمضيء من الإبداع الشعري. وهي دعوة للتدبر، حيث أنه في نهاية الحوار يدعو المتلقي إلى التدبر والتمييز. وكأنه يقول له: “لا ترفض الشعر كله، بل اقرأه بوعي، وميز بين الشعر الذي يضل والشعر الذي يهدي، وبين الشاعر الذي يقول ما لا يفعل والذي يصدق في قوله وفعله، ويؤمن بما يقدمه من حب وحقيقة”.
يمكن القول أن النص يتطور من تحذير شامل إلى نظرة أكثر دقة وفهمًا للطبيعة المزدوجة للشعر، فهو قد يكون مصدرًا للغواية والضلال، ولكنه قد يكون أيضًا مدعاة للصدق، والإيمان، والحب، والمعرفة العميقة.
ويمكننا اعتبار هذه المناقشة للحفيد الجني (صوت الحفيد الجني) مناقشة لاهوتية، حيث يقول الشاعر محمد صوالحة: “يأتي رد حفيدي الجني … “، هنا يقدم لنا وجهة نظر مغايرة “إلا الذين صدقوا وكانوا بحبهم يؤمنون”. هذا الرد كما قلنا ذلك سابقا يحمل دلالات دينية وفلسفية واضحة، مستوحاة من الآية القرآنية في سورة الشعراء (الآية 227): (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا).
هذا الاستشهاد ليس مجرد اقتباس، بل هو إعادة تأويل لمفهوم الشاعر الحق، الذي لا يكون مجنوناً أو من الغاوين، بل هو مؤمن صادق في إبداعه. وهنا يمكننا الربط بين رؤية الشاعر ورؤى النقاد العرب المعاصرين مثل عبد الفتاح كيليطو في كتابه “الكتابة والتحول”، الذي يتناول العلاقة المعقدة بين النص الديني والأدبي، وكيف يتفاعل الأدب مع المقدّس ويعيد تشكيله. فالجني هنا ليس مجرد كائن خرافي، بل هو صوت الحكمة الباطنية أو “الأنا العارفة” التي تدرك الحقيقة الكامنة وراء المظهر.
وبالتأكيد، إن النظر إلى “الحفيد الجني” كرمز للحكمة الفطرية والرؤية الباطنية يثري النص بشكل كبير ويضيف إليه بعدًا رمزيًا أعمق وأكثر تعقيدًا. وهذا التأويل يرفع الشخصية من مجرد كائن خرافي إلى محور فلسفي يكشف عن طبقات من المعنى، خصوصًا في سياق الشعر ودوره.
ويعزز وجود الجني فكرة أن الحقيقة لا تقتصر على ما هو ظاهر أو منطقي. ففي العديد من الثقافات، يرتبط مصطلح الجن بعوالم خفية وبقدرات غير مرئية تتجاوز الإدراك البشري المعتاد. لذا، عندما يأتي رد الجني على تحذير المرأة فإنه لا يأتي من منطلق المعرفة المكتسبة أو المنطق البشري التقليدي، بل من مكان أعمق وأكثر أصالة. إنه يمثل منظورًا يتجاوز الأحكام السطحية أو التحذيرات المسبقة التي تُطلق على الشعر، ويقدم تصحيحًا حاسمًا ومفاجئًا لا يعتمد على جدال مطول، بل هو كشف مباشر لحقيقة أعمق. وهذا النوع من التصحيح الفوري والحاسم غالبًا ما يرتبط بالحدس أو الحكمة التي لا تحتاج إلى براهين معقدة لفرض نفسها.
كما أن ارتباط الجن، في التراث العربي والإسلامي، بالوحي والإلهام الشعري سواء بالخير أو بالشر يضيف طبقة أخرى من الرمزية. وهنا يلعب الجني دور الملهم الذي يكشف عن الجانب الروحاني والإلهي للشعر الصادق، مما يجعله رمزًا لقوة الإلهام التي تتجاوز حدود العقل البشري لتصل إلى جوهر الحقيقة. إذ يمتلك هذا الجني بصيرة داخلية تمكنه من رؤية ما يرفض الآخرون رؤيته أو ما لا يمكنهم إدراكه بسبب أحكامهم المسبقة. إنه يرى ما وراء الظاهر ليصل إلى الجوهر النقي، وهو ما يتمثل في الصدق والإيمان بالحب. وهذا يجعله ممثلًا للحكمة التي تُدرك الأمور بحدسها لا بمنطقها الظاهر.
وعلى مستوى الرؤية الباطنية، فإن الجني كشخصية غير بشرية تشير إلى وصوله لمستويات من المعرفة أو الإدراك لا يمكن للبشر العاديين الوصول إليها بسهولة. وهذه المعرفة باطنية لأنها ليست ظاهرة أو منطقية، بل هي مُدركة بالحدس أو الإلهام. بينما ترى المرأة الشعراء مجانين ويتبعهم الغاوون في حكم ظاهري ومُعمّم، فإن الجني يميز بين الشعراء بناءً على صفات عميقة مثل الصدق والإيمان بالحب. وهذا التمييز يكشف عن فهم أعمق وأكثر دقة، وهي سمة أساسية للرؤية الباطنية العميقة التي لا تكتفي بالسطح. ويمكن للجني أن يمثل صوت اللاوعي الجمعي أو الحكمة التي تتوارثها الأجيال في الوعي غير الواعي، و رده ليس نابعًا من تعلم مباشر، بل هو صدى لحقيقة أزلية كامنة في وعي البشرية، يتم التعبير عنها هنا بلسان كائن من عالم آخر، يضفي عليها قوة وتأثيرًا خاصًا.
وبهذا المعنى، يصبح الحفيد الجني ليس مجرد شخصية إضافية في النص، بل هو صوت الحقيقة العميقة والحدسية التي تأتي لترفع الحجاب عن سوء الفهم أو الحكم المُسبق، وتكشف عن القيمة الحقيقية للشعر عندما يكون مصدره الصدق والإيمان بالحب، مانحًا النص أبعادًا رمزية وفلسفية تتجاوز ظاهر الكلمات.
تنهدَ قلبي وقلت :
الشعر نبض روحي
به أستعين على يومي
أهش به تعبي
وجعي وهمي
((ولي به
مآرب أخرى ))
قالت : اذا
قل لي ما القصيدة
قلت :
هي وضوء العاشقين
صلاة الكادحين
او هي يد تقي
ما ملت التسبيح
أو لسان راهب
ما اتعبه الدعاء
ولا ملّ الرجاء
تتجلّى نفسية الشاعر بوضوح في إجابته التي تعقب تنهيدة: “الشعر نبض روحي / به أستعين على يومي / أهش به تعبي / وجعي وهمي / ولي به / مآرب أخرى”. هنا، يصبح الشعر ملاذا نفسيا، وأداة للتعافي الذاتي. إنها علاقة وجودية، حيث يمثل الشعر شريان الحياة للشاعر. وهذه الرؤية تتوافق مع ما قدمه سيغموند فرويد في تحليلاته حول الفن كآلية للتسامي والتفريغ النفسي للرغبات المكبوتة أو الآلام. فالشاعر هنا لا يرى الشعر كفعل ترفيهي، بل كضرورة وجودية، كطريقة للتغلب على قسوة الحياة. ويمكن أيضا أن نستحضر مفهوم “الضرورة الشعرية” الذي يتحدث عنه بعض النقاد، حيث لا يمكن للشاعر أن يتوقف عن الكتابة لأنها جزء لا يتجزأ من كيانه.
“تنهد قلبي وقلت: الشعر نبض روحي…” هنا، ينزاح القناع. التنهيدة ليست مجرد زفرة جسدية، بل هي زفرة الروح التي أثقلتها التوقعات، ثم وجدت متنفّسها. فالشعر هنا لا يُعَرّف، بل يُعاش. إنه “نبض روحي”، وهذا التعبير يتجاوز أي تعريف عقلي. فهو الدم الذي يجري في عروق الإحساس، الهواء الذي تتنفسه الروح. وعندما يقول الشاعر محمد صوالحة “أهش به تعبي، وجعي وهمي”، فإنه لا يصف فعلاً خارجيًا، بل يصف عملية نفسية داخلية عميقة. فالشعر هنا لم يعد وسيلة للتعبير عن الألم فقط، بل هو آلية الدفاع النفسي، الوسيلة التي يستخدمها الشاعر لمواجهة الفوضى الداخلية، لتنظيم عالم مشاعره المضطرب. إنه العلاج النفسي الذاتي الذي يمارسه الشاعر، ويمسح به غبار روحه، ويخفف به وطأة وجوده. “ولي به مآرب أخرى” هذا التذييل الغامض يحمل في طياته عالمًا كاملاً من الأسرار، من الرغبات الدفينة، ومن الطموحات الماورائية التي لا يستطيع العقل الواعي الإفصاح عنها بالكامل. إنه اعتراف بأن العلاقة بين الشاعر وشعره تتجاوز الوصف اللفظي، وأن هناك أبعادًا لا يمكن أن تُرى إلا بعين البصيرة.
وعندما يسأله الصوت الخارجي “قل لي ما القصيدة ؟”، يصبح السؤال بوابة لرحلة استكشاف أعمق لذات الشاعر. إجابته لا تأتي كتعريف جامد، بل كتجليات متعددة لمعنى واحد عميق.
وحين يقول: “وضوء العاشقين، صلاة الكادحين …”: هنا، يتجاوز الشعر حدود الفن ليصبح فعلاً مقدسًا. فالوضوء ليس مجرد تطهير للجسد، بل هو تطهير للروح، واستعداد للقاء خالق الكون. والقصيدة هي طقس نفسي، وتجربة روحية. أما المعنى في “صلاة الكادحين” فيشير إلى أن الشعر ليس حكرًا على الرفاهية، بل هو حاجة أساسية، ومتنفّس للمهمّشين، هو صوت المتعبين الذين لا يجدون سوى الكلمة لتخفيف أعبائهم. وهذا التعبير يربط الشعر بجوهر المعاناة الإنسانية، وبقدرته على تحويل الألم إلى جمال. أما حين يصف الشعر بـ “يد تقي ما ملت التسبيح، لسان راهب ما أتعبه الدعاء …”: هنا، الشعر هو الإخلاص المطلق، والتفاني الذي لا يكل ولا يمل. إنه النفس التي لا تتوقف عن التعبير، وعن التضرع، وعن البحث عن المعنى في عمق نفس الشاعر. هنا الشعر هو الصبر، والمثابرة، والالتزام الذي لا يتزعزع حتى في وجه القنوط. إنه الصوت الذي يرتفع في ظلام اليأس، ويصدح بالأمل.
قالت : اذا
قل لي ما القصيدة
قلت :
هي وضوء العاشقين
صلاة الكادحين
او هي يد تقي
ما ملت التسبيح
أو لسان راهب
ما اتعبه الدعاء
ولا مل الرجاء
يتعمق هذا الجزء من النص في العلاقة الحميمة بين الذات الشاعرة والشعر، محولًا إياه من مجرد فن أو هواية إلى قوة حيوية محورية، شريان حياة يتدفق بالمعنى والقوة. هنا، يتجاوز الشعر كونه وسيلة للتعبير ليصبح ملاذًا روحيًا، وطقسًا وجوديًا، وفعل مقاومة. أما جمالية اللغة فتتجلى في الاستعارات الدينية والصوفية التي تُلبس الشعر قدسية ومعنىً عميقًا. حيث تتحول القصيدة لصلاة الروح ووضوء الحياة.
ونعود للمشهد الذي يبدأ بتنهيدة قلب الذات، وفيها إشارة إلى عمق التأثر والارتباط الوجداني قبل أن يُفصح الشاعر عن قيمة الشعر عنده “الشعر نبض روحي / به أستعين على يومي / أهش به تعبي / وجعي وهمي”. هذه العبارات لا تصف الشعر كأداة فحسب، بل كجزء لا يتجزأ من الكينونة. “نبض روحي” يجعله معادلاً للحياة ذاتها، فهو ليس شيئًا يمكن الاستغناء عنه، بل هو ما يمنح الروح وجودها واستمرارها. والأفعال اللاحقة “أستعين”، “أهش” تُصوِّر الشعر كقوة دافعة ومُنقذة في مواجهة تحديات الحياة اليومية. إنه درع وشفاء في آن واحد، يُعين على قسوة الواقع، ويُزيل غبار التعب والوجع والهم. إذ يبدو هنا، أن الشعر ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، وآلية بقاء نفسية. إنه رفيق الروح في مواجهة شقاء الحياة، فهو ملاذها الذي تجد فيه السكينة والقوة.
ثم تأتي جملة ((ولي به / مآرب أخرى)) لتُضفي لمسة من الغموض والجاذبية على علاقة الذات بالشعر. هذه الجملة الموضوعة بين قوسين توحي بوجود أبعاد خفية، وتعلن عن أغراض أعمق، ربما لا يمكن البوح عنها صراحةً، أو ربما لا تُفهم إلا من قبل من يعيش التجربة. إنها دعوة للتأمل فيما وراء المعنى الظاهر، وإشارة إلى أن الشعر يخدم أغراضًا تتجاوز التعبير العادي، و ربما تتعلق بالبحث عن الحقيقة، أو التواصل مع ما هو سامٍ، أو حتى تحقيق نوع من الخلود. فهذا الغموض يثير فضول القارئ ويدفعه للتفكير في الأسرار التي قد يحملها الشعر لصاحبه.
وعندما تتحدى المرأة الذات بقولها: “إذا / قل لي ما القصيدة ؟”، يأتي الرد بلغة ساحرة تتجلى فيها قمة جمالية النص وعمقه الروحي. تتحول القصيدة إلى مفاهيم دينية وصوفية عليا، مانحة الشعر مكانة مقدسة “هي وضوء العاشقين”، وكما سبق الإشارة لذلك فالوضوء هو طهارة وتطهير يسبق الصلاة. وهنا، القصيدة تُصبح الفعل الأول الذي يُهيئ الروح العاشقة للقاء محبوبها، سواء كان هذا المحبوب إنسانًا، أو فكرة، أو إله. إنها تُطهر النفس وتُنقيها، لتصبح مستعدة لاستقبال التجليات العظمى. وهذا التشبيه يرفع القصيدة إلى مستوى الطقس الروحي الذي يُعد القلب للحب الأسمى. أما المعنى في “صلاة الكادحين”، يشير إلى أن الصلاة هي عماد الدين، و رمز التضرع والتواصل مع ما هو أسمى. فربطها بـ”الكادحين” يُضفي عليها بعدًا اجتماعيًا وإنسانيًا عميقًا. فالكادحون هم من أثقلتهم الحياة، وشغلهم السعي، وهم في أمس الحاجة إلى السكينة والرجاء. والقصيدة هنا تُصبح ملاذهم، دعاءهم، وسيلتهم للتعبير عن آمالهم وآلامهم، وللتواصل مع قوة تتجاوز شقاءهم اليومي. إنها صلاة غير تقليدية، صلاة روحية يؤديها القلب واللسان من خلال الشعر.
والمعنى في “اليد” في قول الشاعر “أو هي يد تقي / ما ملت التسبيح”، يشير لليد التي تسبح، وهي رمز للذكر الدائم، للعبادة المستمرة، وللتواصل اللامنقطع مع الإله أو الحقيقة المطلقة. فالقصيدة هنا تُصبح تجسيدًا لهذا الذكر الروحي، في حركة دائمة من الحمد والشكر والتأمل الذي لا ينقطع، وهذا دليل على نقاء العلاقة وطهارتها واستمراريتها.
وفي تعبير الشاعر عن كون القصيدة “لسان”، “أو لسان راهب / ما اتعبه الدعاء / ولا مل الرجاء”، فالإسلام يشير للتقوى والذكر والورع و قول الحق، و الراهب يُمثل التفاني، و الانعزال للعبادة، والتفكر العميق. عبادة بالقلب واللسان الذي لا يكل من الدعاء والرجاء ويرمز كل هذا للإيمان الراسخ، والأمل اللامتناهي، والمثابرة الروحية التي لا تعرف الملل أو اليأس. والقصيدة تُجسد هذا اللسان، لتصبح وسيلة للتضرع والأمل، و وعاء يحمل أعمق أماني النفس وأصدق دعواتها، دون كلل أو ملل.
تكمن جمالية اللغة في هذا الجزء بالذات في قدرتها على مزج المقدس بالدنيوي، وتجريد المفاهيم الدينية من سياقها الحرفي لتُسقطها على الشعر، فتُكسبه هالة من القدسية والعمق. فالاستعارات هنا ليست مجرد زخرفة، بل هي تجسيد لمفهوم الشعر كطاقة روحية، كقوة مُحركة تتجاوز مجرد الكلمات. والنص هنا يقدم تعريفًا للشعر لا بوصفه مجموعة قوافي، بل بوصفه فعلًا وجوديًا، إيمانيًا، ومقاومًا، إنه الطهارة، الصلاة، الذكر، والدعاء الذي لا ينقطع. إنه ليس فقط وسيلة للتعبير عن الروح، بل هو الروح ذاتها في أبهى صورها وتجلياتها.
أو
هي أنت
لحظة عشق
وعناق وحنين
لحظة ذوبان وانصهار
لحظة اشتعال الشوق
بين الضلوع
حين يساقط العمر
وجعا …
تعبا وأنين
يدخلنا الشاعر للحظة تجلٍّ وجودي داخل وابل من الرموز عندما يبدأ سرده بقول: “هي أنت / لحظة عشق / لحظة ذوبان وانصهار … ” إلى أن يصل لـ “تعبا وأنين” حيث يقدم لوحة شعرية مكثفة، لا تُعبر عن العاطفة، بل تجسد تجربة وجودية عميقة، تُقرأ سيميائيًا كشبكة من الإشارات التي تُحيلنا إلى ما وراء المعنى الظاهري، وتسبر أغوار النفس في لحظات التسامي والألم.
“هي أنت” فيها إشارة مركزية وتجلي للذات. حيث يفتتح الشاعر هذا المقطع بإشارة مرجعية قاطعة ومكثفة، “هي أنت”. فهذه الثنائية “هي/ أنت” ليست مجرد ضميرين، بل هي علاقة سيميائية أساسية. “هي” هنا تشير للقصيدة، أو للحظة الشعر ذاتها، أو ربما للوجود بأكمله الذي يتجلى في القصيدة. أما “أنت”، فهو المخاطَب الذي يتماهى مع القصيدة، أو يمثل الذات الشاعرة في لحظة تجليها القصوى. وهذا التماهي بين “هي” و”أنت” يُشير إلى لحظة اتحاد وانصهار بين الذات والموضوع، بين الوجود والإدراك، حيث يصبح الشعر هو جوهر الوجود المتجسد في الذات، أو حيث يصبح “أنت” تجسيدًا لكل ما يمثله الشعر من معنى وحياة. إنه إعلان عن اكتشاف، عن يقين لا يقبل الشك، وكأن “أنت” هو الإجابة الشافية لكل الأسئلة.
إنها دلالات للحظات التسامي، وذوبان في اشتعال، حيث تتوالى الإشارات الزمنية والمعنوية لتُعرف بهذه “الأنت” على أنها مجموعة من اللحظات المتتابعة، وكل لحظة تحمل ثقلًا رمزيًا خاصًا بها.
“لحظة عشق / وعناق وحنين”، هذه الثلاثية الأولى تُشكل دلالات على أقصى درجات الارتباط الوجداني والإنساني. فالعشق يتجاوز الحب العادي إلى درجة الهيام، والعناق يُشير إلى الاتحاد الجسدي والروحي، بينما الحنين يُضيف بُعدًا زمنيًا من الشوق للماضي أو للأصل. وهذه اللحظة هي تجسيد للكمال العاطفي، لتوق الروح للاندماج والاتحاد الكامل. فالعلامات هنا تُشير إلى حالة من الامتلاء العاطفي الذي يتخطى حدود الزمان والمكان.
“لحظة ذوبان وانصهار”، فيها دلالة تُشير لمحو الحدود والفواصل. فالذوبان والانصهار هما عمليتان كيميائيتان تُفقدان المواد خصائصها الفردية لتصبح جزءًا من كل واحد. وسيميائيًا، يُشير هذا إلى لحظة فناء الذات في الآخر، أو فناء الشاعر في تجربته الشعرية، أو حتى فناء الوعي الفردي في وعي كوني أوسع. إنه تجاوز للانفصالية، ودخول في حالة من الوحدة والاتحاد الصوفي حيث تُمحى الثنائيات. فهذه لحظة خطرة ومُباركة في آن واحد، حيث يختفي الألم الفردي في لحظة الذوبان الكبرى.
“لحظة اشتعال الشوق / بين الضلوع”، فالاشتعال هنا يدل على الطاقة المتفجرة، على اللهيب المحرق الذي يُنهي حالة السكون. والشوق ليس مجرد رغبة، بل هو ألم لتلك الرغبة، و توق مؤلم لشيء غائب. و ربطه بـ”بين الضلوع” يُشير إلى مصدره الجسدي العميق، وكأنه احتراق داخلي لا يمكن السيطرة عليه. فهذه اللحظة تُمثل ذروة الانفعال العاطفي، حيث يتجسد الوعي بالألم كجزء لا يتجزأ من تجربة الحب العميق أو الاتصال المطلق. وهذا الاشتعال قد يكون إلهامًا شعريًا عنيفًا، أو صحوة روحية تُحرك كل الكيان.
القصيدة تنثرنا في سقوط وجودي يصبح فيه الألم جزءً من دورة الحياة. فهذا التحول المفاجئ في النصف الثاني من النص يُقدم دلالة على التناقض الوجودي الذي لا يمكن فصله عن لحظات التسامي: “حين يساقط العمر / وجعا … تعبًا وأنين”.
“حين يساقط العمر”، يساقط هذه فعل يحمل دلالة الضعف، الوهن، التلاشي، والسقوط غير الإرادي، كأوراق الشجر الذابلة. و العمر هنا لا يمكن اعتباره زمنا فعليا يمر ويتوالى فقط، بل هو الوجود المادي للذات، زمن يتعرض للتآكل والتلاشي. وفي هذا إشارة إلى التدهور الجسدي والزمني، فالقصيدة هنا في هذا المقطع تُقدم تناقضًا صارخًا للحظات الذوبان والاشتعال السابقة، وتُبرز أن هذه اللحظات المتسامية لا تُعفي الذات من واقع الزمن القاسي.
تليها الثلاثية السيميائية “وجعا … تعبا وأنين”، التي تُمثل تجسيدًا للألم الإنساني في أعمق صوره. فالوجع هو الألم الجسدي والنفسي الخام. والتعب هو إرهاق الجسد والروح في مسيرة الحياة. أما الأنين فهو الصوت الصادر عن هذا الألم، صوت يعبر عن العجز والضيق. كل هذه الكلمات أو هذه الصفات، تشير لحالة وجودية من المعاناة المحتومة، وترسم خاتمة الرحلة.
هكذا يأتي الشعر كاستجابة للوجود، فمن خلال هذا النص، ومن منظور سيميائي، يُقدم لنا الشعر لحظة التجلي كاستجابة للوجود الإنساني بكل تناقضاته، “هي أنت” تُشير إلى أن الشعر هو تجسيد أسمى للحب، للاتحاد، وللذروة العاطفية التي يمكن أن يختبرها الإنسان. إلا أن الشاعر محمد صوالحة في كل هذا التجلي لا يغفل الجانب المظلم من التجربة الإنسانية، فلحظات التسامي الوجودي، مهما كانت عظيمة، لا تُفصل عن واقع العمر الذي يتساقط، والألم الذي لا مفر منه. فالتوتر بين لحظات الذوبان والاشتعال في الوجود المتعالي، وبين تساقط العمر والألم في الوجود المتهاوي، هو جوهر النص. الشعر هنا لا يمكن اعتباره لحظة هروب من الألم، بل هو وسيلة لاحتواء الألم وتجاوزه في لحظات من التجلّي. إنها لغة الذات التي تُحاول أن تُشكّل معنىً لحياتها، وأن تجد لحظات من الكثافة الوجودية تُعينها على تحمل الأعباء. وبالتالي تُصبح القصيدة هي نفسها تلك اللحظة التي تُكثّف فيها الذات تجربتها، وتُعيد تعريف ذاتها في مواجهة الفناء. إنها إشارة إلى أن الجمال والألم هما وجهان لعملة واحدة في رحلة الوجود الإنساني.
ويمكن عكس الرؤية في “هي أنتِ، لحظة عشق، وعناق وحنين .. ” بطريقة تُرى فيها القصيدة تتجسد في الآخر، في الأنا الأخرى التي تكتمل بها الذات. فقد لا تكون مجرد حبيبة، بل هي تجسيد للحظة الاندماج الكوني. “ذوبان وانصهار”، “اشتعال الشوق بين الضلوع” كل هذه الأوصاف الحسية قد تعبر عن فقدان الحدود بين الذات والموضوع، بين الشاعر والشعر، بين الوعي واللاوعي. إنها لحظة الوحدة الصوفية، حيث يصبح كل شيء واحدًا، حين تتلاشى الثنائيات.
بعدها يأتي الشعر ليحتضن السقوط، “يساقط العمر وجعًا … تعبًا وأنينًا”، يأتي ليحوله إلى لحظة تأمل، إلى لوحة من جمالٍ حزين. هنا، يصبح الشعر هو الرفيق في رحلة الألم، هو الذي يمنح المعنى في لا معنى المعاناة ذات المعنى الحقيقي باطنيا، وظاهريا تبدو بلا معنى بل مجرد جنون.
أو هي عيناك
تمتطي ضوء الصباح
وتحلق كفراشة
في الآفق
تمسح دموع الشمس
وعن خد السماء
تمسح غبار الألم
وأثر العابرين
وتعود مساء
يسكنها الخجل
وهي
تسكن كفي
لتنام
“أو هي عيناكِ / تمتطي ضوء الصباح / وتحلق كفراشة في الأفق…”، في هذا المقطع الختامي يتجلى الشعر كبصيرة تتجاوز الرؤية المادية. فالعين هنا ليست مجرد عضو، بل هي بوابة الروح، التي ترى ما لا يراه الآخرون. فالفراشة هنا ترمز للتحول والجمال المؤقت، تحلق في الأفق اللامحدود، لتشير إلى قدرة الشعر على تجاوز الواقع المحدود نحو عوالم الممكن.
يبدو الشعر هنا كعين الروح في رحلة تطهيرية عبر الفضاءات الداخلية والخارجية فهذا المقطع يُقدم تعريفًا للشعر ليس كمادة أو فعل، بل ككيان حي، كعينين تحملان صفات روحية ورمزية عميقة. حيث يتحول النص إلى قصيدة في القصيدة، أما الاستعارة المطولة فتتبع مسارًا تطهيريًا، نفسيًا ووجوديًا، عبر الفضاءات الداخلية والخارجية، كاشفة عن مكنونات النفس البشرية ومقصدية الشاعر في التعامل مع الألم والجمال.
“هي عيناك”، وهي جملة افتتاحية في هذا المقطع تُحوّل القصيدة إلى عضو حسّي شديد الأهمية، إلى نافذة تطل على العالم الخارجي والداخلي معا. و”عيناك”، تشير للرؤية، التي تضفي عليها بعدًا شخصيًا وحميميًا، وتُشير إلى كون الشعر هو الرؤية الفريدة للشاعر، أو الطريقة التي يرى بها العالم ويُدركه. وهذه العيون ليست سلبية، بل هي فاعلة ونشطة، تبدأ رحلتها بـامتطاء ضوء الصباح والتحليق كفراشة .. “تمتطي ضوء الصباح / وتحلق كفراشة / في الأفق”. هنا، يُصبح الشعر مركبة ضوئية، تتجاوز حدود الجسد والواقع المادي. فامتطاء ضوء الصباح يرمز إلى البداية، إلى الأمل، إلى الصفاء، وإلى استمداد القوة من مصدر النور والإيجابية. وتشبيه القصيدة بـ”فراشة تحلق في الأفق” يمنحها خفة، حرية، جمالًا، وهشاشة في آن واحد، ويُشير إلى قدرتها على التحليق بعيدًا عن ثقل الأرض وقيودها. أما الأفق فيرمز إلى اللانهاية، إلى عالم الاحتمالات الواسع، حيث لا حدود لرؤية الشعر.
في قلب هذه الرحلة التطهيرية، تُمارس هذه العيون الشاعرة وظيفتين أساسيتين، تُشكلان مقصدية الشاعر في “تمسح دموع الشمس” الشمس هنا، ترمز للحياة والنور، لكنها رغم الإشراق لا تخلو من الدموع. وهذه الاستعارة عميقة جدا، تُشير إلى أن حتى الشمس كمصدر عظيم للطاقة والبهجة يمكن أن يحمل حزنًا أو ألمًا خفيًا. ودور الشعر هنا هو التطيهر، والتخفيف، والاعتراف بهذا الألم الكوني أو الوجودي. فالشاعر لا يتجاهل الجانب المظلم من الوجود، بل يواجهه ويمسح عنه أثر الحزن، في محاولة لاستعادة نقائه وإشراقه. وهذا الفعل يكشف عن حساسية مفرطة لدى الشاعر تجاه المعاناة الكامنة حتى في أجمل الصور.
“وعن خد السماء / تمسح غبار الألم / وأثر العابرين”، تنتقل العيون لتطهر “خد السماء”، وهي استعارة تُشير إلى الفضاء الواسع، إلى الكون، أو حتى إلى نقاء الوجود الذي تلوث بغبار الألم وأثر العابرين. وغبار الألم يرمز للرواسب النفسية، للشوائب التي تتراكم بفعل المعاناة. أما أثر العابرين فيُشير إلى الذكريات، والآلام، والخيبات، والبصمات التي يتركها الآخرون أو التجارب السابقة على الروح، مما يُحدث خدوشًا أو تشوهات. و دور الشعر هنا هو إزالة هذه الرواسب، و محو آثار الماضي المؤلم، وإعادة النقاء إلى النفس والعالم. إنها عملية تطهير شاملة، هدفها استعادة البراءة والصفاء الأصلي للذات والوجود.
وتكتمل رحلة هذه العيون مع عودتها مساءً، “وتعود مساء / يسكنها الخجل / وهي / تسكن كفي / لتنام”. العودة في المساء ترمز لنهاية الدورة، للسكون بعد النشاط، وللحظة التراجع والتأمل. “يسكنها الخجل” فيها إشارة نفسية دقيقة للغاية، فهذا الخجل ليس شعورًا بالذنب أو النقص، بل هو أقرب إلى خجل الروح النقية بعد عمل جليل، خجل من رؤية كل هذا الألم ومحاولة مسحه، أو ربما خجل من انكشاف هشاشتها وضعفها بعد كل هذا الجهد. إنه خجل المحب، خجل من عمق تجربتها العاطفية، أو من الكشف عن جانبها الأكثر حميمية.
أما جملة “وهي / تسكن كفي / لتنام”، فتُقدم صورة بالغة الرقة والحميمية. فبعد كل هذه الرحلة الوجودية التطهيرية، تعود هذه العيون إلى مكانها الآمن والأكثر قربًا من الذات، تعود للكف. و الكف هنا ترمز إلى الحماية، والأمان، والاحتواء، واللمسة الإنسانية. فاحتضان الشعر الذي هو العيون في الكف قبل أن تنام يُشير إلى الطمأنينة، والسكون، والعودة إلى الذات بعد رحلة روحية شاقة. والنوم هنا ليس موتًا، بل هو راحة، وتجديد للطاقة، واستعداد لدورة جديدة من الرؤية والتطهير .. إنها لحظة استسلام نقي، حيث يجد الشعر، كعين الروح، مأوى آمنًا في حضن الذات بعد أن أنجز مهمته في تنقية العالم والروح.
يقدم هذا المقطع الأخير الشعر ككيان حي، كعين بصيرة تقوم برحلة يومية من التطهير والشفاء، تمسح آلام الكون وتُزيل رواسب التجارب المؤلمة. وغاية الشاعر من الإفصاح عن كل هذا، تتجلى في رؤيته للشعر كقوة فاعلة قادرة على معالجة الجراح الوجودية والنفسية، وإعادة النقاء والصفاء إلى الذات والعالم، لتنتهي رحلتها في حضن الأمان والألفة، في تجسيد لجمالية اللغة التي تُحوّل المعاني المجردة إلى صور حسية تنبض بالحياة والعمق الروحي.