من شاشة هاتف لا يفارقني، تصفحت الفيسبوك، ضغطت على اسم صديقي الشاعر هادي، وفتحت نافذة الرسائل. الكتابة إليه كانت منقذة لأفهم: هل أنا في منتصف حلم؟
– “كنتُ بين النوم والصَّحْو، قرأت نصّاً وضعت عليه علامة إعجاب، ورأسي ما زال على الوسادة بنفس الوضعية. الآن أكتبُ لك على وقع حرب أهلية تُدار من قبل هواة لا يجيدون إلا الاقتتال. أسمعُ صوت تفجير قوي اهتز له البيت، هل يهم؟ لا أدري. لحظة… سأنهض لاستطلاع ما يحدث. الاسترخاء في السرير نعمة لا تُقدّر بثمن، أفضل من النوم في ممر البيت الأكثر أماناً. هل تعلم؟ معظم الأوقات، نتناول ما تيسر من بقايا الطعام المتروك في الثلاجة منذ أيام، نتدبر أمورنا ريثما يتعب المقاتلون وتحدث هدنة.
دعنا من ذلك، لماذا تعجب بنص تعلم بأنه يتناص مع آخر معروف لشاعر كبير؟ هل قرأته؟ أم وضعت “لايك” مجاملة فقط؟ أكتبُ دون انتظار إجابة منك لأعرف أني قرأته ولم أكن أحلم.”
– “مجنونة رسمي أنتِ؟”
أتابعُ الكتابة: “ابتسم، لأنني بكامل وعيي قبضت على حادثة تناص أو سرقة. نفعل هذا حتى نحتمل صوت القذائف العشوائية ونستمر في العيش. كل شيء هنا يدعونا للجنون. أريد أن أستلف بعض البهجة، فهذا يعني أني ما زلت على قيد الحياة. حدثني، ماذا تفعل الآن؟”
– “في الحانة أحتسي البيرة مع الرفاق. قبل لحظات اندلق الكأس على الطاولة، كنت على وشك الخروج، لكن رسالتك طردت آخر ثمالة حصلت عليها. لماذا لا تأتين إلى هنا؟ قرري وسوف تجدينني بانتظاركم على بوابة رأس إجدير.”
– “تمزح أكيد؟ حقائبنا الصغيرة جاهزة منذ أسبوعين. يوم حُرق المطار أصبت بانهيار عصبي، بكيت، ثم استسلمت للأقدار.”
– “إذاً ماذا تنتظرين؟”
– “جواز سفري عالق. كان موعد استلامي صبيحة انطلاق هذه الحرب اللعينة، أغلقوا المقرات. أخبرتك أن صديق زوجي يحاول التفاوض مع بعض المقاتلين ليجد حلاً هناك.”
– “أرى أنكِ تعيشين في عالم موازٍ! عالم لا يشبه شيئاً أعرفه. ربما ما زلتِ عالقة في منتصف حلم فعلاً.”
– “يا صديقي، قبل نصف ساعة حاولت سرقة غفوة لأمنح جسدي بعض الراحة. أصوات الرصاص من البنادق لم تنتهِ بعد، وشهوة المقاتلين مستمرة لحرب طويلة. علينا أن نتعامل معها بما يشبه الواقعية السحرية؛ حيث الحياة مستمرة والموت، وإن حدث، فهو غير حقيقي. طارت الغفوة عندما قرأت بنصف عين مفتوحة، نصّاً لصديقك، يحكي عن جسد امرأة يبالغ في وصف رغباته، وتلك الملذات التي صارت من الماضي بالنسبة لي. أيقظني التشابه، ونسيت متابعة أحداث الحرب بالجوار. تخيل، سأنهض للبحث بين الكتب عن ذاك النص الشبيه. لقد صحوت تمامًا. اللعنة، هذا ما وددت التأكد منه، أني على قيد الحياة، أنام وأصحو وأبعث رسائل… كل شيء على ما يرام. (هههه).”
– “ألستِ معنية بالبحث عن أسباب الخراب والدمار؟”
– “لا طبعاً. الحرب وقعت، وقبلها حاولوا التخلص مني وفشلوا.أما الأسباب؟ سؤال ممل يا هادي، وهل هناك أسباب جديدة لم تُكتشف بعد؟ هذه الحرب كلها تبدو لي مثل نص رديء، “تناص” مبتذل وسخيف مع كل حرب سبقتها. دوي المدافع هو اقتباس من دمارتعودنا رؤيته على الشاشات،. صور النازحين على الحدود هي مشاهد مسروقة من فيلم أبيض وأسود عن حروب حدثت قبل أن نولد . حتى خوفي هذا، ليس أصيلاً. أشعر به في نخاعي كأنه خوف جدتي، ورثته عنها أيام حرب الطليان القديمة. كل شيء نسخة مكررة. فلماذا أغضب من سرقة قصيدة صغيرة، بينما العالم كله مجرد سرقة كبيرة ومفضوحة؟ لهذا لا، لست معنية. أنا أستمتع بعزلتي الموحشة. أبنائي يضعون سماعات الأذن ويستمتعون بما تنقله هواتفهم. ربما ابنتي تتحدث مع صديقها المراهق، وابني يشاهد في أحسن الأحوال مباراة. وزوجي بعيد، ينام عند شقيقه بعد أن تقطعت السبل بيننا. كل حركة غير محسوبة هي مخاطرة.”
– “اكتبي ما يحدث.”
– “نكتبه. اسمع: هل جربت اكتشاف سحر الحياة في ظل خطر محدق؟ أن تتنفس هواءً ملوثاً برائحة البارود، ثم فجأة، أثناء سيرك في الشارع المفخخ بكل الأخطار، تشم عطر امرأة تتجاوزك وتمضي. تخمّن: هل لديها موعد عاطفي في هذا الوقت؟ كيف أفسر لك تلك المتعة؟ لا أدري. إنما توقع حدوثها في أي وقت هنا. كل شيء عادي تمارسه هنا يصبح بمثابة مواجهة للعاصفة! أنت تكتب عن الحياة هناك، والحرب هنا تجعلك مادة للكتابة. كيف أشرح أن هناك ملذات مخفية تحت وطأة الخسارات؟ نتحسسها بمتعة، ربما لأننا كنا الناجين هذه المرة. أو حينما تتحول حياتنا إلى كلمات باذخة، نشعر بخسارة فادحة لو أضعنا مفردات جميلة يمكنها جعل نصنا أكثر عذوبة. أو هي تعبير عن الرومانسية المفقودة، نوع من التعويض.”
يقاطعني: “لا أستسيغ الاستمناء في الأدب. ليكن نصك قتالياً، ترتفع ألسنة اللهب من حروفه، تلسع القارئ، تميته وتحييه من جديد. اقتبسي نار جهنم المشتعلة حولك. واكتبي.”
– “لم تجب بعد! هل التناص حلال أم حرام يا صديقي؟”
– “هل وقعتِ على نصٍّ ينهش الروح ويصور الخسارة الفادحة في سرقة أرواح الأجساد التي يخلفها القتال؟ نص يلامس ألمك مما يجري، وأنتِ عاجزة عن كتابة ما يشبهه؟”
– “لا. سأجيبك عن هلوسة النهوض من نومي على صوت تفجير قريب. عن خطواتي التي صارت في البيت محدودة. عن أحلامي بإعداد فنجان قهوة دون خوف من شظية تخترق نافذة المطبخ.
عن شهر مر علينا أخشى فيه الاغتسال تحت مياه الدش الدافئة. لطالما خشيت أن تسقط قذيفة وأنا على تلك الحال. ماذا أفعل بهذا العري؟ هم تعروا، ماتت أخلاقهم. وصنعوا مني امرأة تتلفّت حولها خائفة من سرقة حقها في الاستحمام، خشية ضمائرهم، فتُصبح صور جسدها على ركام منزلها العاري خبراً في الفيسبوك. وصار عريي المحتمل خبراً يتناص مع فضيحة مختلفة ، جسد آخر انكشف في حرب أخرى. لا شيء أصيل هنا يا هادي، حتى الخوف من الفضيحة صار شعوراً مستعاراً.
سرقوا مني بهجة الصَّحْو، واحتضان أطفالي، ومداعبة قطتي، وغفلة رفة العين مع النعاس. صرت أنام بملابس الخروج ونادراً ما أخلع حذائي، تحسباً لمداهمة ما. زرعوا الخوف، ويدفعون بك نحو الرحيل أو الموت تحت أنقاض بيتك، الذي كان لك، ولا تعلم لمن يؤول بعد مغادرتك، سواء أقفلت بابه أم تركته مفتوحًا للصوص.
مضى أسبوع لا نفتح باب البيت إلا بعد قرعه ثلاث مرات متتالية. صبي البقالة يضع الأكياس بجوار الباب، وعندما تبتعد خطواته، أفتحه خلسة، أسحبها بخفة، أضعها كيفما اتفق على أرضية المطبخ. لا وقت لرفاهية ترتيبها، أو حتى لإعداد وجباتنا.
أرتبُ جواز السفر على مزاج التيار الكهربائي المتقطّع، وأتواصل مع زوجي حسب توفر الإنترنت. يقول: “وضعنا خطة الخروج من هذه البلاد”.
لم ينتبه لسؤالي: “هل تقصد الهروب؟”. فكرتُ في نبرة صوته، الذي صار لا يُفاجئني؛ مرتبكاً، بجمل غير مترابطة، غير مهتم ليهدئ مخاوفي. انتبهت فقط لقوله: “نخرج”. وأنا أتذكر آخر مرة وضع فيها يده على يدي… هل كانت في المطبخ؟ لا، قبل الحرب بسنوات كانت آخر مرة ربت فيها برومانسية عليها. الآن ينتابني شعور بأن كلانا يفكر بالخروج، ليس هرباً من الخطر، بل لأننا نريد النجاة معاً من حرب قديمة خفية بيننا، تريدنا أن نضع حداً لحالة اللاحرب واللاسلم.
كان يتحدث عن تبادل أماكننا كأننا صناديق شحن، لسنا أرواحاً خائفة. قال: “أنتِ مع أولاد عمتهم، وأنا مع أولاد أخي”. لم يسألني إن كنت أستطيع رعاية ثلاثة في تلك السيارة، لم يختر الجهة الأكثر أمناً لي، بل الجهة التي يُفترض بها أن تتقبلني. أحسست به كمن يرتب نجاته أولاً… ثم لأطفاله، ثم لي.
عبرت بوابة الحدود سيارتان من رتلنا، والثالثة توقفت بسبب استراحة ربما تطول. لنصف نهار أو أكثر، كنت مع أبنائي من الناجين، وزوجي مع أبناء شقيقه هناك.
جلست على رصيف البلاد التي رحّبت بالهاربين، مع كوب قهوة حصلت عليه من مقهى شعبي. فتحت هاتفي، فتدفقت الرسائل القلقة على مصيرنا. آخر رسالة كتبها هادي:”
– “أكرهُ ما تفعلين، لماذا تستعيرين هدوء القتلة؟”
أضغطُ على الحروف للرد عليه:
– “ها أنا أكتبُ نص سفر النجاة يا صديقي. خلفت ورائي امرأة تشبهني، تحمل اسمي وملامحي وخوفي، جالسة مرعوبة تحدق في الفراغ، وتحلم بالعيش. وعبرت الحدود امرأة أخرى تحمل في ذاكرتها تفاصيل حرب ستعيش برفقتها إلى الأبد.”
نثيث المطر /رائدة جرجيس
نثيث المطر هو همسُ السماء حين تخجل أن تبكي علنا هو الوعدُ الخفي بأن الحياة ما زالت تنب، وأن اليابسَ...
اقرأ المزيد