بماذا تميز الغراب؟
بقلم: د. سرمد فوزي التايه
بماذا تميز الغراب: قصة أطفال صادرة عن دار الهدى لصاحبها ومؤلفها طارق مهلوس.
قصة هادفة، تحاكي عقول اليافعين بطريقة ذكية من خلال وضع المعطيات أمامهم وجعلهم يتفكّرون في المآلات التي قد تُفضي اليها الافكار لتحقيق الهدف المنشود لهم ولبطل القصة- الغراب-، ناهيك عن حجم الخط الكبير والواضح، والرسومات الجميلة المعبرة والتي تقود للفكرة وتسوق لها حتى دون أن يتلفظ الكاتب بما أراد ويُريد.
وحتى تكتمل الصورة، نرى أنّ الكاتب طارق مهلوس والرسامة مريم الرفاعي قد تعاونا معاً وضخا جُلَّ انسجام افكارهما لتوضيح الفكرة والهدف من وراء هذا العمل وبسطة بصورة شيِّقة امام القارئ؛ وقد تجلّى ذلك في (صفحة 4) عندما جعلا الغراب داخل القفص والدفاتر والاقلام خارجه للتلميح لمضمون فكرة العمل.
لا اعلم لماذا اختار الكاتب مكاناً بعيداً ابتدأ به قصته؟ حيث يجلس غراب حزين في قفص حديدي ظهر حزنه بوضع جناحية على منقاره تعبيراً عن شدة الحزن.
استهلت القصة بظهور حصى مُتناثرة في أرضية القفص، وزجاجة ماء بجانبه في قاعها القليل من الماء. وهنا تظهر الحبكة التي يُريدها المؤلف من قُرائه لاستنباط هدف وجود هذه الأشياء على هذه الهيئة في هذا المكان. ليكون الجواب في نهاية القصة في (صفحة 25) وذلك بعد ان تم استثارة عقل الطفل القارئ بهذا المشهد ليُدرك بعدها ان كان تفكيره ابداعياً يتوافق مع ما أراده صاحب القصة ام لا.
يكمن جمال هذا العمل في ان الغراب قد خرج من محبسه في القصة – رغم انه ما زال في قفصه – وبدأ يحاور الكاتب. وهذا أسلوب جديد مُميَّز ومُثير للاهتمام. وهنا نرى ان الكاتب هو الآخر راح يحاوره ويخبره انه سيُخبر الأطفال الذين سيقرأون هذه القصة بفحوى قضيته وسبب وجوده هنا حبيس القفص والقصة معا!
لقد اظهر الغراب السوداوية والبؤس بين جنبات هذه القصة حينما قال في (صفحة 5): كل الغابة تكرهنني. كما راح يتساءل بذات الصفحة: ما لي وللمناصب والجوائز؟ وكأنه يريد ان يقول لنا ان سبب وجوده هنا والذي يعرفه هو جيداً يكمن في الحصول على الجوائز، فيعود ويستذكر أيامه الهانئة وهو في الغربة. وبرأيي هذا أسلوب جميل ومُحفِّز أيضاً لذهن القارئ من جانب، ومن جانب آخر، فكأنه يريد أن يُرسل رسالة مفادها أن كل الجوائز والمناصب لا تغني ولا تسمن من جوع امام عطش الحرية.
والسؤال هنا: هل كان هناك صفقة او اتفاق بين الكاتب والغراب لإخراجه من الغابة وايداعه في القفص؟ كما انه ما الذي كانت تريده الفنانة راسمة القصة عندما خطت ريشتها في (صفحة 6) نفسها وهي تقوم بعملها على أوراقها الخاصة بحضور الغراب؟
بعد ان وضع “مهلوس” كل ادواته التشويقية امام الطفل القارئ، وجعله يتفكّر في المسير والمصير المُتوقع لبطل قصته، راح يشرح على لسانه-الغراب- سبب وجوده هنا. فبدأ بالإخبار عن قيام الاسد بجمع كل حيوانات الغابة ليجعل لكل واحدٍ منهم عملاً يناسبه حسب تميزه، هذا وقد اعطاهم خمسة أيام حتى يبحث كل واحد منهم عن الشيء المميز عنده، ومن وجده، يحصل على الجائزة الملكية والمنصب الفخم الذي يليق به.
يستطرد الغراب بالإبلاغ ان الجميع بدأ بالبحث عما يميزه، ومر يومان دون أن يجد هو ذاته ذلك. ومثل الكثير من الناس، اراد ان يستطلع أوضاع أصدقائه من الحيوانات لعله يجد ما يفتح له الطريق لاستكشاف ذاته او ان ينكفئ خاسراً كما يظن الجميع ان ليس لديهم مواهب او قدرات يُعتدُّ بها؛ فيرتاح ضميره دون أن يؤنبه أو أن يقُضَّ مضاجعه. وفي هذا إشارة ذكية من الكاتب الى أن الشخص كثيراً ما يجهل ميزاته وقدراته، وغالباً ما يبحث عن أحد يُماثله أو يُجاريه في فشله؛ فيرتاح من عناء التفكير وتأنيب الضمير.
يبدأ الغراب باستطلاع أوضاع الحيوانات حوله: (الفيل، الحرباء، الطائر الطنان، الطاووس)، فيجد كل واحدٍ منهم قد أدرك قدراته وعرف ميزاته، الا انه هو ظل عاجزا عن اكتشاف مكامن قدراته، ما جعله يُصاب بالحزن والإحباط وقال في نفسه: شَعَرْتُ بِالْإِحْبَاطِ الشَّدِيدِ وَالْحُزْنِ … لَنْ أَعْرِفَ ما يُمَيَّزني وَسَأَشْعُرُ بِالْخَجَلِ أَمَامَ الْحَيَوَانَاتِ والطيور. (صفحة 19). ثم يُخبر انه تم اصطياده من قبل صياد عندما نزل ليشرب الماء هو في حالة الحزن والتعب والعطش الشديد. فآل به الوضع الى هذا المكان حبيساً بين جنبات قفصه وقصته.
بعد حوار واستجداء طويل لم يتم الرد عليه من الكاتب (صفحة23)، شعر الغراب بالعطش، وبدأ محاولات الحصول على الماء من الزجاجة شبه الفارغة التي كانت امامه، فأخذ بضربها بالحصى في حالة يأسٍ شديد، الا انها لم تنكسر، بل تناثرت منها قطرة ماء لمست منقاره، فشعر بالانتعاش. وعندما كرر العملية، لاحظ ارتفاع مستوى الماء عند رمي حصاة وراء الأخرى حتى وصل الماء الى الفوهة فشرب وارتوى. وهنا كانت المفاجأة والكنز الثمين الذي كان يبحث عنه ويجهله؛ فقد اكتشف ذكائه قبل ان يرتوي من الماء! ولما أرد ان يكرس هذا الذكاء والعبقرية بزيادة، قام بسحب المزلاج وفتح باب القفص وطار عالياً مُنتشياً وقد أدرك ما يُميزه. فقال:” عَرَفْتُ مَا يُمَيَّزنِي… عَرَفْتُ مَا يُمَيَّزُني.” (صفحة 25). هذا وقد تناثرت أوراق القصة اثناء طيرانه ليتحرر من قيد القفص ويعود حراً بعد ان تحرر من خوفه وهواجسه وسوداويته وعدم تقدير ذاته.