البروفيسور يونس فتاحاي: شعرية الذاكرة، أخلاقيات الطفولة، والصحافة الثقافية في الأدب الألباني المعاصر
بقلم: الأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل الكوسوفي*
المقدمة
يمثل يونس فتاحاي أحد الأصوات الأكثر ثباتًا وحساسية في الأدب الألباني المعاصر. من خلال مسيرة إبداعية تمتد لأكثر من سبعة عقود، بنى عالمًا أدبيًا تتداخل فيه الطفولة والذاكرة ومسقط الرأس والكلمة الشعرية بشكل عضوي. كشاعر وكاتب للأطفال وصحفي ومحرر، ساهم فتاحاي في ترسيخ تقليد أدبي وثقافي مستدام، مؤكدًا على القيم الجمالية والأخلاقية والتربوية.
يهدف هذا المقال إلى تحليل أعمال يونس فتاحاي بشكل منظم وعميق، مع التركيز على ثلاثة محاور رئيسية: الأدب الموجّه للأطفال كمشروع أخلاقي وجمالي؛ الشعر كشكل من أشكال الذاكرة والتأمل؛ والصحافة الثقافية كالتزام فكري. سيتم التركيز في التحليل على عملين تمثيليين: الحنين المضيء والذكرى الحية، واللذان يمثلان شكلين مختلفين من شعرية الذاكرة – أحدهما غنائي وماورائي، والآخر ملحمي وتاريخي.
السيرة الذاتية والسياق التاريخي-الثقافي
1.1. الميلاد والتكوين الفكري
وُلد يونس فتاحاي عام ١٩٤٦ في راهوفيتسا قرب برشوه، وهي منطقة ذات تاريخ ثقافي وتعليمي غني في جنوب شرق كوسوفا. شكّل تعليمه الأولي في مسقط رأسه ثم في برشوه مرحلة مهمة في تكوينه الفكري، حيث واجه تحديات نظام تعليمي في مرحلة انتقالية، إلى جانب شغفه باللغة والأدب الألباني.
من خلال دراسته الجامعية في كلية الفلسفة بجامعة بريشتينا، تخصص في اللغة والأدب الألباني، حصل على قاعدة نظرية ومنهجية قوية، مما هيّأه لمسيرة طويلة ومتنوعة في مجالات الصحافة والأدب والنقد الثقافي.
2.1. النشاط الصحفي والمؤسساتي
منذ عام ١٩٦٩، انخرط يونس فتاحاي في الصحافة الثقافية والتعليمية، حيث نشر أولى مقالاته في صحيفة الطلبة “العالم الجديد”. لاحقًا، ومع صدور المجلة التربوية “شكنديا”، بدأ مسيرته الطويلة كصحفي ومحرر ورئيس تحرير، مسهمًا في تشكيل الخطاب العام حول التعليم والثقافة وأدب الأطفال.
دوره كرئيس تحرير في صحف مثل “بويكو”، “بيؤنري”، وقيادته لمؤسسة المجلات “ريلينديا”، يدل على قدراته التنظيمية والتزامه بتطوير الإعلام الثقافي في كوسوفا. وتُعد مجلة ” بيؤنري”، التي لا يزال يشغل فيها منصب رئيس التحرير، منصة مهمة لترويج أدب الأطفال وتعزيز التربية الجمالية للأجيال الجديدة.
3.1. المساهمة في بناء الهوية الثقافية الألبانية
في سياق تاريخي مليء بالتحديات السياسية والاجتماعية والتعليمية، لعب نشاط يونس فتاحاي دورًا مهمًا في الحفاظ على الهوية الثقافية الألبانية وتطويرها. كان من أبرز الأصوات المدافعة عن القيم الأدبية واللغوية والتربوية، مقدّمًا للأطفال الألبان أدبًا عالي الجودة وشعورًا بالانتماء والفخر الثقافي.
مشاركته في أنطولوجيات مهمة مثل “الكتّاب الألبان ٤٨–٨٣” لنبيل دوراكو، “اللغة النارية” لكويتيم داشي، “معجم الكتّاب الألبان” لحسن حساني، و”الصحفيون والكتاب الألبان” لحامت بوريشي، تضعه كمرجع مهم في تاريخ الأدب والصحافة الألبانية.
4.1. التداخل بين الأدب والصحافة
تمكن يونس فتاحاي من دمج الصحافة التحليلية مع الإبداع الأدبي ببراعة، مما جعل كلمته ملتزمة وحساسة وعميقة. كتاباته حول التعليم والثقافة وأدب الأطفال ليست مجرد معلومات، بل تحمل بعدًا نقديًا وأخلاقيًا يمنحها قيمة دائمة.
بيبليوغرافيا الأعمال والمواضيع المهيمنة
1.2. إنتاج أدبي واسع ومتنوّع
يُعدّ يونس فتاحاي من أكثر الكتّاب إنتاجًا في الأدب الألباني المعاصر، حيث نشر أكثر من ٧٠ عنوانًا تشمل الشعر، القصص، الروايات، القصائد الطويلة، النثر الشعري، المونوجرافيات، الأنطولوجيات، وأعمالًا مخصصة للأطفال. هذا الإنتاج الواسع يدلّ على التزامه المستمر في مجال الأدب منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
نُشرت أعماله من قبل أبرز دور النشر في كوسوفا مثل “ريلينديا”، “فاترا”، “أورا”، “روزافا”، “لينا”، وقد نال جوائز أدبية مرموقة مثل “عمر ألشاني” و”وهبي كيكاي”. كما أعدّ أنطولوجيات مهمة للأطفال، مما يضعه في موقع القيّم الحريص على أدب الأجيال الناشئة.
2.2. التصنيف حسب النوع الأدبي
الأعمال التمثيلية النوع الأدبي
“رحلات”، “سقطت أسنان الزمن”، “الحنين المضيء”، “غنائية مع صقيع”، “كم شاخت الانتظار” الشعر
“الخلود”، “صوفيكادا”، “الحنين المضيء” القصائد الطويلة
“وحدة جميلة”، “لا يُعرف قبر سيزيف”، “متحف الروح” النثر الشعري
“الجد المرح”، “الطائر بلا جواز سفر”، “بيت الريح”، “الشمس بنظارات” قصص للأطفال
“فيروس الجد”، “العش”، “دمعة الألم”، “القلم الطيب” روايات للأطفال
“ناسالسا – مركز التعليم”، “دمير بهلولي”، “بحيرة الألم” المونوجرافيات
“بارذافيرا”، “ذهبت الصيف من القلعة”، “النوم تحت التاج” الأنطولوجيات
هذا التصنيف لا يُظهر فقط تنوّع الأنواع الأدبية، بل يبرز أيضًا قدرة الكاتب على التواصل مع قرّاء من أعمار واهتمامات مختلفة.
3.2. المواضيع المهيمنة
تتكرر وتتحوّل بعض المواضيع في أعمال يونس فتاحاي بشكل طبيعي:
• الطفولة والخيال: عالم غني بالشخصيات المحبوبة، الفكاهة اللطيفة، والحس التربوي. أعماله للأطفال ليست مجرد ترفيه، بل تحمل رسائل تعليمية عميقة.
• الحنين والذاكرة: في أعماله للكبار، خاصة في الشعر الغنائي والنثر الشعري، يُعدّ الحنين إلى مسقط الرأس، الزمن الماضي، والأشخاص الأحبّاء موضوعًا مركزيًا.
• الهوية والانتماء: تتناول العديد من الأعمال قضايا الهوية الثقافية، التاريخية، واللغوية، وتعكس دور الفرد في المجتمع والإرث الروحي.
• الأخلاق والإنسانية: في القصص والروايات للأطفال، وكذلك في شعر الكبار، يهتم الكاتب بالتكوين الأخلاقي للقارئ من خلال شخصيات الأجداد، المعلمين، والأطفال الحكماء.
• فلسفة الحياة: في أعماله الأخيرة مثل “لا يُعرف قبر سيزيف” و”متحف الروح”، يظهر تأمل عميق في العبث، الألم، وجمال الحياة.
4.2. التطوّر الأسلوبي
انتقل أسلوب يونس فتاحاي من الغنائية الكلاسيكية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى تجريب أكثر جرأة في الشكل واللغة خلال العقود الأخيرة. يستخدم استعارات غنية، إيقاعات شعرية متنوعة، ولغة نقية، حساسة، ومصقولة.
في أعماله للأطفال، الأسلوب بسيط دون أن يكون سطحيًا؛ يحتفظ بأناقة لغوية لا تستخف بالقارئ الصغير. أما في شعره للكبار، يبني صورًا قوية ويستخدم رموزًا أسطورية، تاريخية، وفلسفية لتعميق الرسالة.
أدب الأطفال كمشروع أخلاقي وتربوي
1.3. التزام دائم تجاه الأطفال
يُعدّ يونس فتاحاي من أكثر الكتّاب التزامًا بأدب الأطفال في الفضاء الألباني. منذ نشره لكتاب “النهر الذي لا ينام” عام ١٩٨٢ وحتى “أغنية المطر” عام ٢٠٢٤، بنى عالمًا أدبيًا غنيًا يكون فيه الأطفال ليسوا مجرد قرّاء، بل أبطالًا حساسين، حكماء، وشجعان.
أدب الأطفال بالنسبة له ليس نوعًا ثانويًا، بل مهمة ثقافية وتربوية. فهو يعامل الطفولة كفضاء مقدّس تتشكّل فيه المشاعر والأفكار والشخصية الإنسانية.
2.3. المواضيع التربوية والأخلاقية
في أعماله للأطفال، يبني يونس فتاحاي منظومة قيم تشمل:
• حب الأسرة: شخصية الجد والجدة مركزية في العديد من الأعمال مثل “الجد المرح”، “الجدة الملكة والأمير في البيت”، “كتاب حكايات الجد”، “يضحك شارب الجد”. هذه الشخصيات تحمل الحكمة، الفكاهة، والرعاية.
• الحساسية تجاه الآخر: في قصص مثل “الطائر بلا جواز سفر”، “أين يسكن الحنين”، “الشمس بنظارات”، تُطرح مواضيع مثل الهجرة، الوحدة، تقبّل التغيير، والتضامن.
• النقد ضد الظلم: في “دمعة الألم” و”فيروس الجد”، يتناول الكاتب مواضيع ثقيلة مثل العنف، المرض، والفقدان، ولكن دائمًا بنبرة إنسانية ومفعمة بالأمل.
• الاهتمام بالطبيعة والخيال: في “صافح الأرض”، “الريح وأنا”، “أغنية المطر”، يتعلّم الأطفال مراقبة العالم بحس شعري وبناء علاقة صحية مع الطبيعة.
3.3. جمالية البساطة والأناقة
أسلوب يونس فتاحاي في أدب الأطفال بسيط لكنه مصقول. يتجنب التلقين الجاف ويستخدم لغة دافئة، تصويرية، مليئة بالإيقاع والفكاهة. الحوارات طبيعية، المواقف قابلة للتصديق، والشخصيات مبنية بحب وعناية.
في أعمال مثل “العش”، “القلم الطيب”، “الطيور تغادر الحضانة”، يجرّب أشكالًا سردية مختلفة، محافظًا دائمًا على التوازن بين الحبكة والرسالة.
4.3. التأثير في تشكيل القارئ الناشئ
لأدب يونس فتاحاي للأطفال تأثير مباشر في تشكيل الحساسية، الخيال، والأخلاق لدى القارئ الصغير. لا يرى الأطفال كقرّاء سلبيين، بل كمحاورين متساوين قادرين على فهم تعقيدات الحياة من خلال فن الكلمة.
هذا الالتزام يجعله شخصية لا غنى عنها في بناء تقليد مستدام لأدب الأطفال الألباني، حيث يتعايش التعليم والجمال الفني بتناغم.
الشعر كذاكرة وتأمل
1.4. الشعر كفعل للذاكرة
في شعر يونس فتاحاي ، الذاكرة ليست مجرد استرجاع للماضي، بل فعل واعٍ لبناء الهوية والحس الإنساني. أعمال مثل “الحنين المضيء”، “سقطت أسنان الزمن”، “غنائية مع صقيع”، “خريطة الدموع”، و”كم شاخت الانتظار” تحتوي على غنائية عميقة، حيث تتحول الزمن، الحنين، والفقدان إلى صور شعرية قوية.
الذاكرة في شعره مرتبطة دائمًا بالوطن، بالأحباء، بالطفولة، وبالتجارب التي تشكّل الروح. إنها ذاكرة حساسة، متألمة، لكنها جميلة وغنية بالصور.
2.4. التأمل في الحياة والوجود
في أعمال مثل “لا يُعرف قبر سيزيف”، “وحدة جميلة”، “متحف الروح”، “ورقة حياة”، يأخذ الشعر بعدًا فلسفيًا. يتأمل الكاتب في العبث، الفناء، الألم، وجمال الحياة. يستخدم رموزًا أسطورية (سيزيف، روزافا)، رموزًا طبيعية (الضباب، النهر، الريح)، وبُنى شعرية مصقولة (أكاليل السوناتات) لبناء شعر يتحدث بالصمت، بالغياب، وبالأمل.
هذا التأمل الشعري لا ينغلق على ذاته، بل يدعو القارئ للتفكّر، للشعور، ولإدراك عمق التجربة الإنسانية.
3.4. البنية الشعرية والتجريب الشكلي
يجرّب يونس فتاحاي أشكالًا شعرية متعددة: سوناتات، قصائد غنائية، نثر شعري، ألبومات شعرية بمشاركة مؤلفين آخرين. يستخدم إيقاعات متنوعة، تقطعات طبيعية، استعارات غنية، ولغة نقية، مصقولة، وحساسة.
في “أكاليل السوناتات” مثل “الرحلة الأولى”، “الضوء في الصخر”، “الذكرى الحية”، “لا للنسيان”، يبني بنية شعرية منضبطة، حيث يحمل كل بيت معنى وشعورًا.
4.4. الشعر كشكل من أشكال المقاومة الثقافية
في سياق كوسوفا وبرشوه، يحمل شعر يونس فتاحاي وظيفة ثقافية مهمة: إنه شكل من أشكال المقاومة ضد النسيان، العنف، وتفكك الهوية. في أعمال مثل “الحنين المضيء”، “كشف الألم”، “بحيرة الألم”، يمنح صوتًا للألم الجماعي، دون تحويله إلى خطاب شعاراتي؛ بل يسمو به من خلال فن الكلمة.
الصحافة الثقافية ودور المحرر
1.5. البدايات والتكوين المهني
بدأ يونس فتاحاي مسيرته الصحفية عام ١٩٦٩ بمقالاته الأولى في صحيفة الطلبة “العالم الجديد”، حيث أظهر منذ البداية حساسية خاصة تجاه المواضيع التعليمية، الثقافية، والأدبية. مع صدور المجلة التربوية “شكنيديا”، تموضع كصوت مهم في الصحافة التعليمية، متناولًا تحديات النظام التربوي الألباني بكفاءة وشغف.
هذا التكوين المبكر هيّأه لمسيرة طويلة وناجحة في تحرير المجلات الثقافية، حيث لم يكن مجرد ناشر، بل صانع لمعايير جديدة في الصحافة الألبانية.
2.5. رئيس تحرير وقائد مؤسساتي
كان دور يونس فتاحاي كرئيس تحرير في “بويكو”، “بيؤنري”، وكقائد لمؤسسة المجلات “ريلينديا” حاسمًا في تطوير الصحافة الثقافية في كوسوفا. بنى منصات مستدامة لترويج أدب الأطفال، التربية الجمالية، وتأكيد القيم الثقافية الألبانية.
تُعدّ مجلة “بيؤنري”، التي لا يزال يشغل فيها منصب رئيس التحرير، مثالًا على التزامه تجاه الأطفال كقرّاء ومبدعين. لقد خدمت كمختبر أدبي، تخرّج منه أجيال من الكتّاب الشباب، وزُرعت فيه حساسية خاصة تجاه فن الكلمة.
3.5. الصحافة كشكل من أشكال النقد الثقافي
في كتاباته الصحفية، تناول يونس فتاحاي طيفًا واسعًا من المواضيع: تعليقات، رؤى، تحليلات، تقارير، مقالات، نقد أدبي. تابع بتفانٍ التطورات في التعليم، الثقافة، الأدب، محللًا إياها ليس فقط من الجانب الإخباري، بل أيضًا من الجانب النقدي والأخلاقي.
الصحافة بالنسبة له ليست مجرد نقل أخبار، بل شكل من أشكال الالتزام الفكري. يستخدم الكلمة كأداة للإضاءة، للتربية، ولمواجهة التوافقية الثقافية.
4.5. التأثير في تشكيل الخطاب العام
من خلال عمله كصحفي ومحرر، أثّر يونس فتاحاي في تشكيل خطاب عام حساس تجاه القيم الثقافية، أدب الأطفال، والتعليم كأساس للمجتمع. كان صوتًا ثابتًا في الدفاع عن اللغة الألبانية، التراث الثقافي، والأخلاقيات المهنية في الإعلام.
هذا التأثير واضح ليس فقط في المجلات التي أدارها، بل أيضًا في الطريقة التي شكّل بها ثقافة القراءة وحساسية جمالية لدى الجمهور الألباني.
أدب الأطفال كمشروع أخلاقي وتربوي
أعمال مختارة – تحليل نقدي أدبي
1.2.6. “الحنين المضيء” – ذاكرة غنائية وماورائية
تُبنى قصيدة “الحنين المضيء” كدورة شعرية من ٤٤ مقطعًا، حيث تظهر برشوه كفضاء شعري وماورائي. يمنحها البناء المجزّأ تدفقًا داخليًا، حيث يشكّل كل جزء منعطفًا شعوريًا، عودة إلى الذاكرة، ومحاولة لتخليد المؤقت.
في المقطع “قدسيتي”، يكتب المؤلف: “برشوه، أنتِ عذراء كلمتي، حيث تصبح الكلمة صلاة للحنين الأبيض.” هذه الاستعارة لمسقط الرأس كعذراء الكلمة تعبّر بقوة عن شعرية الحنين، حيث لا تكون الكلمة مجرد وسيلة تواصل، بل فعل تقديس.
تتشابك القصيدة مع إشارات توراتية، أسطورية، وتاريخية، مما يخلق تداخلاً نصيًا غنيًا. تظهر شخصيات مثل بينيلوب، شوتا غاليكا، سكاندربيو، إدريز سيفيري، ليس كزينة، بل كجزء من ذاكرة حيّة يسعى الكاتب لحفظها عبر فن الكلمة.
2.2.6. “الذكرى الحية” – ذاكرة ملحمية وتاريخية
“الذكرى الحية” هي إكليل من السوناتات، مبني بانضباط شكلي وحساسية عميقة. مكرّسة لعبد الله كراشنيتسا، تُعدّ عملًا شعريًا يدمج الذاكرة الشخصية بالجماعية. السوناتات مكثّفة، غنية بالصور، وتتمتع بإيقاع داخلي يجعل النص متدفقًا وقويًا.
في السوناتة الأولى، يكتب المؤلف: “قوي في العاصفة، بقي في كاراداك، تنين الأرض، صوت الزمن الذي لا يشيخ.” هنا، تتحوّل شخصية كراشنيتسي إلى رمز للمقاومة، للخلود، وللإرث الثقافي. تتحرك القصيدة بين النبرة الملحمية والرثائية، مكوّنة توازنًا شعريًا نادرًا.
تشير الإشارات إلى التاريخ الألباني، الشخصيات الأسطورية، وألم الشعب، إلى أن هذه القصيدة تنتمي إلى أعلى تقاليد الشعر الألباني، حيث تكون الذاكرة فعلًا شعريًا وسياسيًا.
3.2.6. المواضيع المهيمنة
• الذاكرة التاريخية: الإشارات إلى شخصيات مثل بينيلوبا، آغو عمري، إدريز سفري، شوتا غاليسا، سكندربك، وأحداث مثل رابطة بريزرن، تخلق شبكة من الذاكرة التاريخية تربط برشوه بسير التاريخ الألباني.
• الألم والحنين: القصيدة مليئة بصور الألم – “جمرة الكلمة”، “جرة الذاكرة”، “مهد النشأة”، “القبعة السوداء” – تعبّر عن حنين لا يُشفى لمسقط الرأس وللأزمنة الضائعة.
• الكلمة كفعل شفاء: الكلمة الشعرية هي وسيلة للشفاء، للاستعادة، للبناء. “كلمة الأم”، “نصب الكلمة”، “تحالف الكلمات” هي صور تعبّر عن إيمان الكاتب بقوة اللغة.
• النقد ضد النسيان والخداع: في مقاطع مثل “لماذا لم يُشفَ الجشع”، “ثم حدث شيء”، “الخداع حُفظ للعبة الدم”، ينتقد الكاتب النسيان التاريخي، تشويه الذاكرة، والجشع الذي دمّر القيم.
4.2.6. الأسلوب والصور الشعرية
• استعارات قوية: “طائر بأجنحة مكسورة”، “جرة الذاكرة”، “القبعة السوداء”، “جمرة الكلمة” تحمل شحنة عاطفية وفلسفية.
• رمزية توراتية وأسطورية: الإشارات إلى الكتاب المقدس، القرآن، بينيلوب، أوديسيوس، سيزيف، تخلق تداخلاً نصيًا يضع القصيدة في سياق عالمي.
• الإيقاع والموسيقية: الأبيات حرّة، لكنها مبنية بعناية إيقاعية. التكرارات (“برشوه”، “فقط الأم”، “يأتون، يأتون، يأتون…”) تخلق تأثيرًا موسيقيًا وعاطفيًا.
5.2.6 القيمة الثقافية والأدبية
“الحنين المضيء” يمكن قراءته كـ:
• رثاء لمسقط الرأس: نص يحفظ ذاكرة مكان محبوب ومُعذّب.
• بيان شعري: إعلان عن قوة الكلمة، أهمية الذاكرة، وضرورة حب الوطن.
• وثيقة روحية: شهادة لحساسية كاتب عاش بعمق كل خيط من هويته الثقافية.
تحليل نقدي لـ “الذكرى الحية”
1.3.6. بنية العمل: إكليل السوناتات كشكل للتخليد
العمل مبني كإكليل من السوناتات، حيث كل سوناتة حجر في فسيفساء الذاكرة. تمنح بنية الإكليل – وهي شكل كلاسيكي من الشعر – انضباطًا شكليًا يتناقض مع الغنائية الداخلية للأبيات. السوناتات مترابطة موضوعيًا وعاطفيًا، مكوّنة سردًا شعريًا يعبر الزمن، الألم، والفخر.
2.3.6. شخصية عبد الله كراشنيتشي كرمز للمقاومة
في مركز العمل تقف شخصية عبد الله كراشنيتسي، كرمز للشجاعة، الوفاء، والإرث الثقافي. يظهر كشخصية أسطورية، مرتبطة بكاراداك، بالنضال من أجل الحرية، وبذاكرة الشعب.
• التصوير الشعري: “قوي في العاصفة، بقي في كاراداك”، “تنين الأرض”، “البطل الذي صنع السحر”.
• الرمزية: ليس مجرد إنسان، بل نصب، جسر، قوس قزح، صوت الزمن والذاكرة.
3.3.6. المواضيع المهيمنة
• الحرية والتضحية: العمل نشيد للحرية، حيث تتشابك الحرب، الدم، الألم، والأمل في سرد قوي. “صدى الحرية سيطرق القلب حينها”، “رمى البندقية على كتفيه، الأبطال أطلقوها”.
• الذاكرة الجماعية: السوناتات مليئة بالإشارات إلى التاريخ، الأساطير، الشخصيات الرمزية، والأحداث المهمة. الذاكرة فعل شعري وسياسي.
• الألم والأمل: “الأمهات احتضنّ الأيتام بالدموع والتنهدات”، “استنشق كل طفل حينها دخان البارود”. الألم ليس مغلقًا، بل يسمو في الفن.
• الإرث والخلود: “كان لك عهد وإرث تفتخر به دائمًا”، “من بقي نصبًا تحت شجرة الجميز والزيزفون”، “حتى الشمس لم تغرب. قيل دعاء الخلود”.
4.3.6. الأسلوب والصور الشعرية
• لغة غنية ومصقولة: الأبيات مكثّفة، بإيقاع داخلي، باستعارات قوية، وبلغة تحافظ على الأناقة والقوة العاطفية.
• صور بلاغية: استخدام الاستعارة (“قوس قزح الأحلام”، “تنين الأرض”)، التكرار الصوتي، التقطيع، والتوازي يخلق نصًا غنيًا ومتعدد الأبعاد.
• نبرة ملحمية ورثائية: يتحرك العمل بين ملحمية الحرب ورثاء الفقد، مكوّنًا توازنًا شعريًا نادرًا.
5.3.6. القيمة الأدبية والثقافية
“الذكرى الحية” عمل ذو قيم متعددة:
• جمالية: شعر مبني بمهارة شكلية وحساسية عميقة.
• تاريخية: وثيقة شعرية لذاكرة جماعية ألبانية.
• ثقافية: تأكيد على الهوية والإرث.
• تربوية: نص يمكن استخدامه في التربية الجمالية والتاريخية للأجيال الجديدة.
الخاتمة والتقييم الأكاديمي
1.7. مؤلف متعدد الأبعاد
لا يمكن تعريف يونس فتاحاي فقط كشاعر، كاتب للأطفال أو صحفي؛ بل هو مبدع شامل، بنّاء للذاكرة الثقافية، ومربٍّ للحس الجمالي. يمتدّ إنتاجه الأدبي والصحفي والمؤسساتي لأكثر من سبعة عقود، مما يجعله شخصية مرجعية في الأدب الألباني.
2.7. أدب الأطفال كمشروع أخلاقي وجمالي
في أعماله الموجّهة للأطفال، بنى يونس فتاحاي عالمًا غنيًا بالحب، الفكاهة، الحساسية، والتربية الأخلاقية. أنشأ شخصيات لا تُنسى مثل الجد، الجدة، والطفل الحساس، والتي تُعدّ نماذج للسلوك والتفكير. أدبه للأطفال هو مشروع مستدام يجمع بين التربية والفن.
3.7. الشعر كذاكرة وتأمل
في شعره للكبار، أنشأ المؤلف شعرية للذاكرة، حيث يتحوّل الحنين، الألم، مسقط الرأس، والتاريخ إلى صور شعرية قوية. تُعدّ “الحنين المضيء” مرثية غنائية لبرشوه، بينما “الذكرى الحية” إكليل سوناتات ملحمية لعبد الله كراشنيتسي وللإرث الثقافي الألباني. كلا العملين يشهدان على حساسية عميقة وإتقان رفيع للشكل الشعري.
4.7. الصحافة الثقافية كالتزام فكري
كصحفي ومحرر، أثّر يونس فتاحاي في تشكيل الخطاب العام حول التعليم، الثقافة، وأدب الأطفال. أنشأ منصات مستدامة لترويج القيم الثقافية، وكان صوتًا ثابتًا في الدفاع عن اللغة الألبانية والأخلاقيات المهنية.
5.7. القيمة الأكاديمية والثقافية
القيمة الأساسية البُعد
لغة مصقولة، صور غنية، بنية شعرية راقية جمالي
تربية أخلاقية، حساسية تجاه الآخر، تأكيد على القيم الإنسانية أخلاقي
ذاكرة جماعية، استحضار الشخصيات والأحداث التاريخية تاريخي
مساهمة في تشكيل القارئ الناشئ والتربية الجمالية تربوي
تأكيد على الهوية الألبانية، حفظ الإرث الأدبي واللغوي ثقافي
6.7. اقتراحات لأبحاث مستقبلية
• دراسات مقارنة مع كتّاب آخرين في أدب الأطفال الألباني (مثل أغيم ديفا، وهبي كيكاي، جوات سيلا).
• تحليل أسلوبي لأكاليل السوناتات كشكل شعري في الأدب الألباني.
• إدراج أعمال يونس فتاحاي في المناهج المدرسية والجامعية كنماذج لأدب ذي قيم أخلاقية وجمالية.“ذاكرة الحرية – قصيدة مهداة للبروفيسور يونس فتاحاي”
بقلم الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي“في الوادي حيث تتحول الكلمات إلى ذكريات،
بَنَيتَ مدارسَ بدموع وقوافي.
برشوه، أيها المزمور المكتوب على الطربوش،
حيث كل مقطع هو أغنية للوطن الأبيض.
طفولتك – كتاب حكايات الجد،
حيث ظلال الطربوش هي صفحاته المكتوبة.
أنت، مثل سيزيف، تدحرج صخرة الذاكرة،
بينما تحول كل بيت شعر إلى جسر للأجيال القادمة.يا يونس، أيها الصوت الصامت لأراضينا،
تحمل شعلة “الشعلة” في كل كلمة.
مثل كراشنيتسا في سونتاتك،
تبقى معلم الزمن الذي لا يشيخ أبداً.”تحليل أدبي نقدي عميق وشامل لقصيدة “ذاكرة الحرية”
مقدمة: الذاكرة كإلهام شعري ورسالة وطنية
تُعدّ قصيدة “ذاكرة الحرية” للأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي، المهداة إلى الشاعر يونس فتاحاي، نصًا شعريًا يتجاوز الإطار التقليدي للقصائد الإهدائية، ليتحوّل إلى بيان أدبي يعبّر عن رسالة الشاعر في حفظ الذاكرة الوطنية ونقلها عبر الأجيال. بلغة كثيفة، مجازية، ومرتكزة إلى الرمزية الوطنية، تتحوّل القصيدة إلى مرثية لحياة الشاعر وأعماله، وتعبير عميق عن دوره كحامل لشعلة الحرية ووسيط بين الماضي والمستقبل في مسيرة الذاكرة التاريخية.
الهيكل والموضوع: الذاكرة والتضحية ورسالة الكلمة
من السطر الأول: ” في الوادي حيث تتحوّل الكلمات إلى ذكريات”, يضع الشاعر المشهد في وادي برشوه، ليس كمكان جغرافي فحسب، بل كمجال رمزي حيث تتحوّل الكلمات إلى ذاكرة، ويتجلى الشاعر ككاتب غير مرئي للتاريخ.
في قوله: ” بنيت مدارس بالدموع والقوافي”, يربط الشاعر مهمة يونس بعمل بناء روحي وثقافي، حيث المدارس تمثّل الإرث الفكري والأخلاقي، والدموع تعبّر عن الالتزام والمعاناة، والقوافي أدوات مقاومة ثقافية.
ويظهر اسم برشوه كـ “مزمور مكتوب على الطربوش”, مما يدمج بين الديني والوطني. فـ”الطربوش” هنا رمز للنقاء والانتماء، و”المزمور” نص مقدّس، مما يجعل من المكان رمزًا مقدسًا يُحتفى به من خلال الشعر.
الرمزية والتناص: سيزيف وكرشنيتسا
من أقوى الصور في القصيدة هي تشبيه الشاعر بسيزيف:
“أنت، كسيزيف، تدحرج صخرة الذاكرة”
هذا المجاز الأسطوري المأخوذ من الميثولوجيا اليونانية لا يحمل هنا معنى العقوبة العبثية، بل معنى الالتزام الدائم بحفظ الذاكرة الجماعية عبر الكلمة. فالصخرة لم تعد عبئًا، بل أداة للبناء. هذا السيزيف الألباني هو الشاعر الذي يتحوّل إلى جسر يصل الأجيال، في مهمة تاريخية وثقافية مستمرة.
كذلك، في السطر: ” كما كرشنيتسا في سوناتاتك”, يبني الشاعر تناصًا مع شعر يونس فتاحاي، من خلال الإشارة إلى شخصية البطل عبد الله كرشنيتسا، التي تُعدّ من أبرز رموزه الشعرية. فكلمة “كرشنيتسا” هنا، باعتبارها لقب بطل وطني ورمزًا للصمود، تصبح جزءًا من لوحة تكريم مزدوجة – تكريم للبطل الذي خُلِّد في الأبيات، وللشاعر الذي أنشد له. وهذا يخلق صدى شعريًا عميقًا، حيث يكرّم الشاعر شاعرًا آخر، وفي الوقت نفسه يكرّم الشخصية والمثل الأعلى الذي يمثله.
تصوير يونس: المعلم الصامت والصوت العميق
ينعت الشاعرُ يونس بـ:
“يا يونس، الصوت الصامت لأرضنا”.
الصمت هنا ليس غيابًا، بل عمقًا؛ فهو يمثل الفعل النبيل والهادئ الذي لا يحتاج إلى ضوضاء ليكون مؤثرًا. إنه الصوت الذي يتحدث حينما يصمت الآخرون.
كما يصفه بـ “معلم الزمن الذي لا يشيخ أبدًا”, وهذا يرفعه إلى مصاف الشخصيات الخالدة التي تعيش في الوعي الجمعي لشعبها، من خلال التعليم والمثال الحي والكلمة النبيلة.
اللغة والأسلوب: شعرية الذاكرة والرمز
القصيدة مكتوبة بلغة رصينة وعميقة، ببنية شعرية متزنة. يكفي الشاعر بضعة أبيات ليُجسّد تجربة حياتية وتاريخية كاملة. فالاستخدام المكثف للرموز الوطنية (الطربوش، برشوه، المدرسة، كراشنيتسا) والمجازات الثقافية (سيزيف، المزمور) يجعل من النص بناءً جمالياً وفكرياً متماسكاً.
إنها ليست مجرد قصيدة تكريمية، بل عمل شعري يحمل في ذاته رسالة حفظ الذاكرة كمكوّن جوهري من الهوية والوجود.
خاتمة: نص شعري يتذكّر ليبني
تُعدّ قصيدة “ذاكرة الحرية” نموذجًا راقيًا لـ”شعر الذاكرة”. حيث ينجح الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي في تقديم صورة متكاملة ليونس فتاحاي – كشاعر، ومربٍ، وإنسان صاحب قضية – وفي الوقت ذاته، يعرض فلسفة كاملة عن دور الكلمة في حفظ التاريخ وبناء الوعي.
فالذاكرة هنا ليست مجرد استعادة للماضي، بل بناء للمستقبل. ويونس، من خلال هذا الإهداء الشعري، يتحوّل إلى رمز لا يمثّل ذاته فقط، بل يمثل كل من يحمل الكلمة الصادقة في وجه النسيان، وكل من أبقى “شعلة الشرارة” حية في كل حرف، وكل من علّمنا – حتى في صمته – كيف نحب هذا الوطن بكرامة وأمل.ببليوغرافيا مختارة
أعمال يونس فتاحاي المشار إليها في المقال:
• الحنين المضيء، فاترا، بريشتينا، ٢٠٠٨
• الذكرى الحية، فاترا، بريشتينا، ٢٠٠٩
• لا يُعرف قبر سيزيف، فائك كونيتسا، بريشتينا، ٢٠٠٩
• وحدة جميلة، فاترا، بريشتينا، ٢٠٠٨
• دمعة الألم، أورا، بريشتينا، ٢٠١٦
• كتاب حكايات الجد، روزافا، بريشتينا، ٢٠١٩
• العش، أورا، بريشتينا، ٢٠١٦
مصادر مقارنة وسياقية:
• حسن حساني، معجم الكتّاب الألبان، بريشتينا
• حاميت بوريشي، الصحفيون والكتاب الألبان، المعجم الموسوعي للصحافة
• نبيل دوراكو، الكتّاب الألبان ٤٨–٨٣، أنطولوجيا
• كويتيم داشي، اللغة النارية، أنطولوجيا شعرية
• أوظيسي غريلو، معجم كتّاب الأطفال، تيرانا
• أستريت بيشكمي& ميجينا أرلاتي، كتّاب الأدب الألباني للأطفال والشباب ١٨٨٦–٢٠١٧، تيرانا**كاتب الدراسة:*
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
بين القيود والأطلال /عماد الدين
بين الأطلال والقيود انتفض قلبه بين الركام، فمد يديه يمسح جراحها. قبل جبين أطلالها، لكنها همست تطلب منه أن يحارب...
اقرأ المزيد