حوار الصحفية مي خالد من مجلة أزهار حرف المصرية مع الكاتب والصحفي بوشعيب حمراوي
بين السبورة والقلم… مسيرة عمر في خدمة الكلمة والوطن
المقدمة:
في دوار لعمور بجماعة الفضالات، إقليم بنسليمان، بدأت الحكاية. هناك، بين الحقول وأصوات الحياة البسيطة، تشكلت شخصية طفل سيصبح لاحقًا واحدًا من أبرز الأقلام المغربية في الصحافة والرأي والزجل. انتقل إلى مدينة بنسليمان ليكمل تعليمه الإعدادي والتأهيلي، ثم إلى الدار البيضاء، حيث تخرج من المدرسة العليا للأساتذة كأستاذ لمادة الرياضيات بالسلك الثانوي التأهيلي، وهي المهنة التي مارسها لأكثر من ثلاثة عقود، جنبًا إلى جنب مع الصحافة والنشر والتأليف.
على مدى مسيرته، كتب بوشعيب حمراوي في كبريات الجرائد والمجلات الوطنية والعربية، وطرق مختلف الأجناس الصحفية، من التحقيق الميداني إلى المقال التحليلي، ومن العمود الصحفي إلى الكتابة الإبداعية. أصدر مؤلفات في السياسة، التربية، البيئة، الرياضة، والزجل، وجعل من قلمه منبرًا للترافع عن القضايا الوطنية، وفي مقدمتها الدفاع عن الهوية المغربية ووحدة التراب الوطني.
ولم يقتصر حضوره على الصفحات الورقية أو المنابر الرقمية، بل كان حاضرًا ميدانيًا في عشرات الندوات الوطنية الفكرية والعلمية والتاريخية، داخل الكليات والمعاهد والمدارس العليا، والثانويات، ودور الثقافة والشباب، تناولت مواضيع ترافعية، سياسية، اجتماعية، تحسيسية، تربوية، بيئية وتعليمية. في كل تلك المنابر، ظل صوته ثابتًا: التوعية، الدفاع عن القيم، وبناء وعي جماعي يليق بتاريخ المغرب ومستقبله.
الحوار
1.بدايةً أستاذ بوشعيب، كيف كانت أولى خطواتك في عالم الكتابة؟ ومتى شعرتَ أن القلم أصبح جزءًا من هويتك؟
ج: وُلدتُ في دوار لعمور بجماعة الفضالات بإقليم بنسليمان، بين الحقول والبساطة الأولى للحياة. هناك خطوتُ أولى دروسي الابتدائية، ثم انتقلت إلى الحي المحمدي ببنسليمان لأكمل الإعدادي والتأهيلي، قبل أن أرحل إلى الدار البيضاء حيث تخرجت من المدرسة العليا للأساتذة أستاذًا للرياضيات في السلك الثانوي التأهيلي.
لكن قصتي مع القلم بدأت قبل ذلك بكثير. كنتُ طفلًا مهووسًا بالكتابة كما كنت مهووسًا بالرياضيات. أستيقظ في ظلمة الليل لأكتب زجلًا أو خاطرة أو قصيدة رثاء، أو لأحل مسألة في الرياضيات ظلت تؤرقني ساعات وربما أيامًا. كنت أعيش على إيقاع معادلة خاصة: بين لغة الأرقام التي تربي العقل، ولغة الشعر والقصة التي تُسكن الروح.
غير أن الكتابة عندي لم تولد من فراغ. فقدتُ والدتي وأنا في الثانية عشرة، وبعدها بست سنوات فقدت والدي وأنا طالب جامعي حديث العهد بالبكالوريا. وجدتني وجهاً لوجه أمام قسوة اليُتم، أحمل همَّ الأسرة والجيران والبلد. فصار القلم عندي أكثر من حبر على ورق؛ صار صرخةً، ورثاءً، واحتجاجًا، وترافعًا عن المقهورين.
قررت أن أكتب رسائل تصل إلى الجميع: ورقية أو رقمية، عبر الأثير أو الشاشة، بالفصحى أو بالدارجة المغربية. كنت أتنقل بين الأشكال الأدبية والثقافية كما يتنقل الطائر بين أغصان الشجر، أقدم ما جادت به القريحة بتواضع وإيمان عميق بأن الكلمة قادرة على أن تُنصف، أن تُداوي، وأن تُحرّك الراكد.
منذ تلك اللحظة، لم يعد القلم هواية ولا مجرد ظلٍّ للذاكرة. صار هوية ورسالة، وامتدادًا لعقلي وضميري، وجسرًا أحمله لأعبر به نحو الآخرين.
2. لقد وُلدتَ في جماعة الفضالات بإقليم بنسليمان، كيف ساهمت البيئة التي نشأتَ فيها في تشكيل ملامح شخصيتك وقلمك؟
ج: وُلدتُ في دوار لعمور بجماعة الفضالات، وسط طبيعة بكر وحياة قروية بسيطة لكنها مليئة بالتحديات. هناك كان أول درس لي في الصبر والجدّ، حيث يتعلم الطفل أن يواجه قسوة الطبيعة كما يتعلم أن يقتات من دفء التضامن الإنساني بين الأهالي.
كنت أراقب تفاصيل الحياة اليومية: تعب الفلاحين، فرحة الحصاد، مواسم المطر والجفاف، قصص الجدّات وحكايات السمر. كل ذلك شكّل في داخلي ذاكرة وجدانية غنية بالصور والمشاعر.
وحين انتقلت إلى المدينة، أولًا إلى الحي المحمدي ببنسليمان ثم إلى الدار البيضاء، لم أنفصل عن جذوري. حملت معي نقاء الريف وصدق إنسانه، وأضفت إليهما وعي المدينة واتساع آفاقها. وهكذا صار قلمي يجمع بين الحس الشعبي الأصيل والرؤية التحليلية العميقة. أكتب بلغة قريبة من الناس، لكن بوعي ناقد يقرأ الواقع ويحلله.
ورغم أنني فقدت والديّ مبكرًا، إلا أنني تلقيت منهما قبل رحيلهما كل ما يلزم لأكون قادرًا على الإدماج في الحياة، وكيف أُميّز بين خيرات الأرض وما قد يلوثها من خبث. ثم كانت أختي الراحلة حكيمة سندي وملهمتي، إذ علمتني كيف أواجه الدنيا بحبها ومكرها، وكيف أواصل البحث والتنقيب دون كلل أو يأس. من العائلة أخذتُ أيضًا حب قضاء حوائج الناس، والتمسك بالأصالة، والتحريض على الحفاظ على قيم البدوي المقاوم.
حين انتقلت لاحقًا إلى المدينة، أولًا إلى الحي المحمدي ببنسليمان ثم إلى الدار البيضاء، حملت معي هذا الإرث: نقاء الريف، صلابة التجربة، حب البساطة، والوعي بالمسؤولية تجاه الناس. لذلك لم تكن كتاباتي يومًا مجرد بوح شخصي، بل كانت دومًا مشروعًا للتسوية والإصلاح والإنصاف. وهكذا، امتزج في قلمي الحس الشعبي الأصيل بالوعي النقدي التحليلي، ليصبح صوتًا للذاكرة والواقع معًا.
الفضالات منحتني الصلابة والبساطة، والمدينة منحتني التحليل والانفتاح. وما يميز تجربتي أنني أكتب وأنا أحمل في داخلي هذا المزيج: وجع القرية وأمل المدينة، سذاجة البدايات ووعي التجربة. ومن هنا كانت كل كلماتي مشبعة بالهوية المغربية في تنوعها، قريبة من الأرض والناس، وفي الوقت نفسه، منفتحة على الفكر والأسئلة الكبرى.
3. لديك مسيرة صحفية حافلة مع كبريات الجرائد والمجلات الوطنية والعربية … ما أبرز موقف أو حدث صحفي ظل محفورًا في ذاكرتك حتى اليوم؟
ج: على امتداد ثلاثة عقود من العمل الصحفي، تراكمت محطات كثيرة، لكن بعض اللحظات تبقى محفورة في الذاكرة لأنها جمعت بين معنى الصحافة كرسالة ومعنى الإنسانية كقيمة عليا.احمد الله على أنني مصحفي كسبت ثقة الناس وحبهم..
أولها تجربة جائحة كوفيد-19، التي حولت العالم إلى سجن كبير من الخوف والانعزال. حينها، أطلقت على فيسبوك برنامجًا مباشرًا بعنوان: “بنسليمان في زمن كورونا”، أشرح فيه المستجدات وأوجه النصائح وأفتح باب التواصل مع المواطنين. لم يكن الأمر مجرد نقل للأخبار، بل محاولة لبث الأمل وسط العتمة. إلى جانب ذلك، أشرفت على مركز لإيواء المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، وخرجت لقضاء مصالح أسر حُرمت من الدعم، رغم إصابتي بالسكري وخطورة الوضع الصحي. كانت أسرتي تنتظرني بقلق، لكنني كنت مؤمنًا أن الصحافة لا تُمارس من خلف المكاتب، بل من قلب الخطر.
ثم جاءت تجربة أخرى لا تقل قوة: قافلة التضامن مع ضحايا زلزال الحوز. رفقة شباب وشابات من بنسليمان، استطعنا خلال أيام قليلة أن نجمع حوالي 80 طنًا من المواد الغذائية، الألبسة، الأغطية، الأفرنة، قنينات غاز الطبخ، وأواني المطبخ. لم نتوقف عند المساعدات المادية فقط، بل اصطحبنا معنا حلاقًا، وفنانًا للرسم على وجوه الأطفال (كلون)، وصانعًا لحلوى غزل البنات لإدخال الفرحة على الصغار. كل ذلك تم من جيوب المواطنين الشرفاء، لا من منتخبين ولا مسؤولين. قضينا يومين كاملين في منطقة أمزميز، أياما ستبقى خالدة في ذاكرتي، لأنها جسدت التضامن الشعبي في أنقى صوره.
لكن طريق الصحافة والالتزام لم يكن مفروشًا بالورود. فقد تعرضت عبر هذه السنوات لمضايقات واستفزازات وصلت حد المتابعات القضائية والتهديد في منصبي كأستاذ بالتعليم العمومي، بل امتدت أحيانًا إلى أبنائي في مسارهم الدراسي وحركاتهم اليومية. غير أنني كنت دائمًا على يقين بأن تلك الضغوط مجرد سراب يصدر عن فئات من المفسدين واللاهثين وراء مصالحهم، ولم تكن أبدًا مواقف رسمية للدولة.
اليوم، حين أستعيد هذه التجارب، أجد أن ما يميزها جميعًا هو أنها علمتني أن الصحافة ليست مهنة محايدة، بل جسر بين معاناة الناس والأمل في غد أفضل. وأن الصحفي الحقيقي لا يُقاس بما كتب فقط، بل بما عاش من أجل غيره، وبما تَرك من أثر في قلوب الناس قبل دفاتر التاريخ.
4. كيف ترى التغيّر في مهنة الصحافة بين جيلك وجيل اليوم، خاصةً مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي والتحوّلات الرقمية السريعة؟
ج : جيلنا بدأ مع الصحافة الورقية، حيث كانت غرفة الأخبار بمثابة مدرسة، وكان رئيس التحرير بمثابة المربي الحريص على جودة كل كلمة. كنا نتحرى الخبر من مصادره، نراجع النصوص لغويًا ومضمونيًا، ونلتزم بأخلاقيات المهنة، حتى لو كلّفنا ذلك فقدان إعلانات أو الدخول في صدام مع مراكز النفوذ.
اليوم تغيّر المشهد كليًا. مع الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح “الترند” و”عدد النقرات” يحددان الأولويات، وغابت في كثير من الأحيان ثقافة التحقق والتدقيق. لا أنكر أن الإعلام الرقمي أتاح سرعة الوصول إلى المعلومة وانتشارها، لكنه أفرز أيضًا فوضى مهنية، حيث يسبق النشر التحقق، ويصبح التصحيح لاحقًا وكأنه أمر عادي.
التحدي اليوم أمام الجيل الجديد من الصحفيين هو أن يجمعوا بين سرعة النشر التي تفرضها البيئة الرقمية، والمهنية الصارمة التي كانت عماد الصحافة الورقية، حتى لا تتحول المهنة إلى مجرد منصة للسباق على “الكليك” دون محتوى حقيقي.
نعم، دفعت ثمنًا على أكثر من مستوى. لم تكن المسألة مادية فقط، بل تعرضت أحيانًا للتضييق، والتشهير والمقاضاة ، ومحاولات التهميش، لأنني اخترت الانحياز إلى قضايا الناس المستضعفين، وفضح الفساد والاختلالات. لكنني مؤمن أن ثمن الصمت أكبر بكثير من ثمن الكلمة الصادقة.
5. كتبك الخمسة الأخيرة تعكس تنوعًا كبيرًا في المواضيع، من السياسة إلى التربية مرورًا بالرياضة والزجل… ففي أي مجال تجد نفسك أكثر كاتبًا وتعبّر فيه بحرية أكبر؟
ج: مساري في الكتابة ليس انتقالًا اعتباطيًا بين المواضيع، بل هو مسار رسائل متواصلة. فقد حملت همّ الرسائل التوجيهية، والتحذيرية، والتربوية، والترافعية. لذلك، كان أول ما قدمت للقارئ سنة 2017 كتاب رسائل سياسية، صرخة في وجه الفساد وغياب العدالة الاجتماعية. تبعه كتاب رسائل تربوية وثقافية، لأؤكد أن التربية والمعرفة هما مفتاحا الإصلاح الحقيقي. ثم جاء كتاب الوحدة الترابية قضية المغاربة الأولى، وهو عمل ترافع وطني وضع بين أيدي المغاربة ما يلزم من أدلة وقرائن تاريخية وقانونية، ليكونوا سفراء لقضيتهم الوطنية في كل مكان.
ولأنني لم أحصر نفسي في الفصحى فقط، فقد كتبت بالدارجة وأصدرت ديوان زجل بعنوان لكلام المعجون، حيث لامست القلوب بلغة الناس البسيطة التي تحمل في طياتها حكمة وتجارب الحياة. وبعده أصدرت كتابي الخامس التشجيع الرياضي، الذي شرّفني الأسطورة بادو الزاكي بتقديمه. في هذا الكتاب دعوت إلى أن تتحول المدرجات والشوارع إلى مدارس في التربية وقيم المواطنة، وإلى أن يصبح التشجيع وسيلة للتسويق الجيد لصورة المغرب، بما يزخر به من قيم الكرم وحسن الضيافة والانفتاح.
هذا التنوع في كتبي لا يعني أنني موزع بين مجالات متناقضة، بل يعكس جوهر قناعتي: أن الكاتب الحق هو ابن كل القضايا. السياسة تمنحني فضاء النقد والتحذير، التربية تفتح لي أفق البناء والإصلاح، الرياضة تعطي لغة الانتماء والجماهير، والزجل يهبني الطريق المباشر إلى قلوب الناس. أجد نفسي في كل هذه المجالات، لأنني ببساطة أكتب بحرية حين يكون هدفي واحدًا: خدمة الوطن، ونشر الوعي، والدفاع عن الهوية، وبث قيم التضامن والإنصاف.
6. هل مررتَ بموقف في عملك الصحفي شعرتَ فيه بأن قلمك أحدث فرقًا حقيقيًا في قضية أو حياة شخص ما؟
ج: نعم، بل يمكن القول إن مساري الصحفي كله قائم على الإيمان بأن الكلمة حين تكون صادقة، تتحول إلى قوة تغيير تترك أثرها المباشر في حياة الناس.
أبرز مثال على ذلك، التحقيق الذي أنجزته سنة 2013 بجريدة المساء المغربية حول مقالع الأحجار والتوفنة بإقليم بنسليمان. خصصت له صفحتين كاملتين، كشفت فيهما حجم التلوث الذي يهدد صحة الساكنة، والأمراض الناتجة عن الغبار، وتدهور المحاصيل الزراعية والغابات. كان لذلك التحقيق صدى وطني، وحصلت بفضله على الجائزة الثانية لأفضل تحقيق وطني في مجال حقوق الإنسان. الأهم من التكريم أن التقرير فتح آنذاك باب الإصلاح والتحقيق الرسمي. صحيح أن عجلة الفساد عادت لتدور بعد فترة، لكنني أدركت أن الصحافة تستطيع أن توقف الظلم ولو مؤقتًا، وأن تزرع وعيًا لا يموت بسهولة.
كما أن تجربتي خلال جائحة كوفيد-19 كانت استثنائية. في وقت كان فيه الخوف يعم العالم، كنت أخرج إلى الميدان، وأبث على فيسبوك برنامج “بنسليمان في زمن كورونا”، أنقل الأخبار الدقيقة وأشرح القرارات وأجيب على المواطنين. بالتوازي، كنت أساهم في إيواء المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، وأساعد أسرًا حُرمت من الدعم. حينها وصلتني رسائل شكر من عشرات الأسر، تؤكد أن صوتي وقلمي ساعداها في الحصول على حقوقها أو دعمها.
ولا أنسى كذلك تجربة قافلة زلزال الحوز التي نظمتها رفقة شباب وشابات من بنسليمان. استطعنا جمع حوالي 80 طنًا من المواد الغذائية والألبسة والأغطية، وأحضرنا معنا حتى حلاقًا، وفنانًا للبهجة، وصانع حلوى غزل البنات للأطفال. قضينا يومين كاملين في أمزميز وسط الضحايا، وكانت تلك التجربة درسًا آخر في أن الصحفي ليس شاهدًا على المأساة فقط، بل يمكن أن يكون شريكًا في تضميد الجراح.
لذلك أقول بكل تواضع: نعم، هناك مئات الأشخاص تغيّرت حياتهم نحو الأفضل بفضل مقالاتي وتحقيقاتي. وهذا بالنسبة لي هو أسمى تكريم يمكن أن يحظى به أي صحفي.
7. كباحث سياسي ومشارك في العديد من الندوات الفكرية والسياسية، كيف ترى مستوى الوعي السياسي لدى المشاركين والجمهور المغربي في هذه الندوات؟
ج: من خلال تجربتي في عشرات الندوات الوطنية، الفكرية والسياسية، داخل الجامعات والمعاهد والثانويات ودور الثقافة، أستطيع القول إن الوعي السياسي لدى الجمهور المغربي في تحسن بطيء، لكنه يعاني من اختلالات بنيوية.
فالطفل والشاب المغربي لا يتلقى، في مساره الدراسي، دروسًا حقيقية في التاريخ الوطني، أو التربية على المواطنة الترافعية. تغيب عن المناهج نماذج القدوات التاريخية التي صنعت هوية هذا البلد، ويُكتفى باحتفالات شكلية بالمناسبات الوطنية، غالبًا ما تكون تقليدية وتلقينية، لا تُترجم إلى وعي حيّ أو ممارسة يومية. وهذا ما يجعل الأجيال الجديدة بعيدة عن معرفة تاريخ بلدها وجغرافيته، وجهود السلف وما يجب على الخلف الاستفادة منه.
أما على مستوى المشاركة في الندوات الفكرية والسياسية، فألاحظ أن الحضور قليل والتجاوب محدود. وهذا ليس مغربيًا فقط، بل عربي بشكل عام، والسبب الرئيس هو الثقة المتصدعة بين الشباب والمثقفين والسياسيين. فالشباب يشعر أن الخطاب السياسي بعيد عن همومه اليومية، والمثقف بدوره يجد صعوبة في إيصال فكره في ظل فراغ ثقافي وفكري تعيشه المدارس والجامعات، حيث تسيطر برامج مقررة يغلب عليها الملل والإحباط، بدل الإبداع والتحفيز.
لذلك، أحرص دائمًا في كل ندوة على أن أكون صلة وصل بين هذا الفراغ وبين حاجة الشباب إلى المعنى. أبسط المفاهيم السياسية وأربطها بالسياق المغربي، وأستحضر التاريخ الوطني كرافعة للتربية على المواطنة، لأؤكد أن السياسة ليست ترفًا ولا شعارات عابرة، بل ممارسة يومية مرتبطة بالعيش الكريم والكرامة الإنسانية.
8. ما الذي ألهمك لتكريس جزء كبير من مسيرتك المهنية للدفاع عن الهوية المغربية ووحدة التراب الوطني؟ وما أهم العقبات التي واجهتها أثناء هذا الترافع؟
ج: نشأتي في دوار لعمور بجماعة الفضالات غرست في داخلي أن الأرض ليست فقط مجالًا للعيش، بل هي هوية وذاكرة وكرامة. لذلك، لم يكن الدفاع عن الوطن بالنسبة لي شعارًا عابرًا، بل التزامًا دائمًا ومسؤولية وجودية.
ومع دخولي عالم الصحافة، أدركت أن المعركة حول الهوية المغربية ووحدتنا الترابية – خاصة ملف الصحراء المغربية – لا تُخاض بالعاطفة وحدها، بل تحتاج إلى أدوات علمية ومعرفية: وثائق، أدلة، قرائن، وشهادات تاريخية. هنا صدمت بواقع أن كثيرًا من المغاربة، رغم غيرتهم، يفتقرون إلى هذا الرصيد المعرفي. بعضهم يكتفي بالشعارات أو المجاملة عند مخاطبة الأجانب، في حين أن المحاور المحايد لا يقتنع إلا بالحجة الموثقة.
يزيدني حزنًا أنني ألتقي أحيانًا بطلبة جامعيين لا يعرفون شيئًا عن محطات بارزة في تاريخ المغرب، أو عن رؤى ملكية استراتيجية غيّرت مسار الوطن وصفّق لها الغريب قبل القريب. هذا الفراغ المعرفي خطير، ويعكس غياب تربية ترافعية وتاريخية داخل مدارسنا وجامعاتنا. لذلك أطلقت مبادرات مثل نوادي سفراء الوحدة الترابية، لأمنح الأجيال الصاعدة ما يلزمهم من معارف وأدوات للترافع الرصين.
أما العقبات فكانت كثيرة: مضايقات، محاولات تشويه، وضغوط طالت حتى أسرتي. لكنني اعتبرت كل ذلك ثمنًا طبيعيًا لمسار الدفاع عن قضية عادلة. فقد تعلمت أن الدفاع عن الوطن لا يكتمل بالعاطفة وحدها، بل يحتاج إلى خطاب مؤسس على الحقائق، يزرع الاعتزاز في النفوس ويُقنع الآخر في الوقت نفسه.
9. انطلاقًا من خبرتك التربوية الممتدة وكونك صوتًا بارزًا في الترافع عن تاريخ المغرب، ما الخطوات التي تقترحها لإحياء الوعي التاريخي لدى الشباب المغربي؟
ج: الوعي التاريخي ليس ترفًا معرفيًا، بل هو شرط أساسي لبناء جيل وطني مسؤول. لهذا أرى أن إحياؤه يقتضي العمل على عدة مستويات متكاملة:
التربية والتعليم: لا بد من إدراج مواد تاريخية وترافعية داخل كل الشعب والمسالك التعليمية، مع اعتماد طرق حديثة تجعل المتعلم يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
الأندية التربوية: إحداث أندية سفراء الوحدة الترابية داخل المدارس والجامعات والمعاهد، على غرار ما تحقق في بعض الأكاديميات، لتأهيل الشباب على مهارات الترافع والبحث والتواصل.
الثقافة والشباب: تسخير مؤسسات الثقافة ودور الشباب لتنظيم مسرحيات، معارض، وأنشطة فنية تزرع حب الوطن وتبسط القضايا الوطنية بشكل جذاب.
المنصات الترافعية: إحداث فضاءات ترافعية داخل الجامعات والهيئات الحقوقية والسياسية والنقابية، حتى يصبح الدفاع عن الهوية والوحدة الترابية ممارسة يومية لا ظرفية.
الدبلوماسية الموازية: بما أن الأحزاب السياسية والنقابات والكليات والمعاهد العليا تربطها شراكات واتفاقيات وتوأمات دولية، وتبعث وفودًا للمشاركة في المؤتمرات والملتقيات العالمية، فمن الضروري أن تتوفر هذه المؤسسات على خلايا أو مراكز خاصة للترافع، تضم سفراء للوحدة الترابية متمكنين من التاريخ والجغرافيا والخطابة والتواصل، ومتقنين للغات أجنبية، حتى يكون حضورهم مشرفًا وقادرًا على تسويق صورة المغرب وقضاياه العادلة بأفضل شكل.
الإطار الوطني للشباب: إلى جانب ذلك، أرى ضرورة إحداث برلمان وحكومة للشباب التكنوقراط، إضافة إلى مجلس أعلى للشباب مستقل عن الحسابات الحزبية، لإعطاء الفرصة لجيل جديد يتدرب على القيادة والتفكير الاستراتيجي.
بهذه الخطوات، يمكن أن نعيد للتاريخ مكانته الطبيعية كقوة حية داخل المجتمع، ونضمن أن شباب المغرب لن يكونوا مجرد متفرجين، بل فاعلين وسفراء أوفياء لقضايا وطنهم داخل المغرب وخارجه.
10.أنت مؤسس “الدبلوماسية التلاميذية والطلابية”.. ما القصة وراء هذه الفكرة؟ وكيف كانت خطوات تنفيذها؟
ج: فكرة “الدبلوماسية التلاميذية والطلابية” انطلقت من إيماني بأن المدرسة والجامعة ليستا مجرد فضاء للتلقين، بل ورشة لبناء المواطن المسؤول والمبدع. كنت أرى أن الأندية الثقافية والرياضية الموجودة داخل المؤسسات التعليمية يمكن أن تتحول إلى أذرع قوية للتربية على المواطنة، إذا ما تم توجيهها نحو قضايا الوطن الكبرى.
لم تكن وليدة الصدفة، بل هي ثمرة مسار طويل من الملاحظة والاحتكاك. بحكم تجربتي كأستاذ وصحفي وفاعل مدني، كنت أرى أن الخطاب الوطني داخل المدرسة غالبًا ما يبقى حبيس الدروس النظرية أو الشعارات الاحتفالية. كنت أحزن حين ألتقي بتلاميذ وطلبة لا يعرفون سوى القليل عن محطات حاسمة في تاريخ بلدهم، ولا يمتلكون الأدوات الكفيلة بجعلهم سفراء لقضايا وطنهم، خاصة في ملف الصحراء المغربية.
من هنا ولدت الفكرة: تحويل المدرسة والجامعة إلى مختبر للدبلوماسية الموازية. ليس فقط عبر الدروس، بل عبر أندية ونوادي تفاعلية تتيح للتلاميذ والطلبة ممارسة الترافع بأنفسهم، والتدرب على الخطابة، والبحث، والتواصل باللغات الأجنبية.
حولت هذه الفكرة إلى مشروع مؤطر، عبر شراكة بين المركز الدولي البديل للصحافة والإعلام الذي أترأسه، والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بجهة الدار البيضاء – سطات، وهي أكبر جهة تعليمية بالمغرب، تضم 16 مديرية إقليمية.
في المرحلة الأولى، أحدثنا ما يقارب 160 ناديًا لسفراء الوحدة الترابية داخل الثانويات. لم تكن مجرد فضاءات للتأطير، بل ورشات عملية للبحث والنقاش والمحاكاة. بعد ذلك، نظمنا مباريات جهوية وإقليمية لاختيار سفراء وسفيرات على مستوى كل عمالة وإقليم، وصولًا إلى اختيار سفير وسفيرة جهويين يمثلان الجهة كلها.
المعايير كانت صارمة وواضحة:
– إلمام عميق بتاريخ وجغرافية المغرب.
– قدرة على الإقناع والخطابة.
– إتقان لغات أجنبية للترافع أمام الآخر.
– وعي مواطن وروح التزام حقيقي بالقضية.
ما يميز هذا المشروع أنه مستدام، ليس مناسبة عابرة. هدفه أن يخلق أجيالًا متمكنة من أدوات الترافع، جيلًا يعرف كيف يوظف العلم والمعرفة والتواصل للدفاع عن وطنه. كنت أريد أن أمنح هؤلاء الشباب ما لم يكن متاحًا لجيلنا: منصة عملية تجعلهم سفراء حقيقيين للوحدة الترابية والهوية المغربية، سواء داخل المغرب أو خارجه.
عملنا على تحويل اهتمام هذه الأندية من أنشطة تقليدية محدودة إلى فضاءات تعالج موضوعات المواطنة، المقاومة المغربية، المحطات التاريخية البارزة، ورؤية المغرب لحاضره ومستقبله. أردنا أن نمنح التلاميذ والطلبة تعليمًا بديلاً، بعيدًا عن السبورة والقلم، يقوم على النقاش الحر، والإبداع الفني، والممارسة الميدانية.
من هنا جاءت مبادرة تأسيس أندية سفراء الوحدة الترابية، التي أطلقتها بشراكة بين المركز الدولي البديل للصحافة والإعلام والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بجهة الدار البيضاء سطات. هذه الأندية لم تكتف بالنقاش، بل شجعت على إنتاج أعمال فنية، ثقافية، ورياضية تُبرز الوجه المشرق للبلاد، وتمنح الشباب فرصة التعبير عن وطنيتهم بوسائل مختلفة: مسرح، شعر، موسيقى، رياضة، أو حتى محاكاة جلسات الأمم المتحدة.
بهذا التصور، أصبح التلميذ أو الطالب ليس مجرد متلقٍ، بل فاعلًا منتجًا، وسفيرًا لقضية وطنه داخل مدرسته، مجتمعه، وحتى خارج الحدود..
11.عندما نسمع عن استهداف الصحفيين أثناء أداء واجبهم المهني، خصوصًا في مناطق النزاعات، نشعر بخطورة الوضع على حرية الصحافة. كيف ترى تأثير هذه الانتهاكات على قدرة الصحفي على أداء عمله بموضوعية؟
ج: للأسف، الأمر تجاوز حدود التضييق أو التهديد أو حتى الاعتداء الجسدي واللفظي. اليوم أصبح الصحفي في العالم، خاصة في مناطق النزاعات أو الأنظمة الفاسدة، عرضة للتصفية الجسدية المباشرة. هذه الحقيقة المريرة تكشف أن الفساد المستشري عالميًا له أذرع قوية، لا تتردد في استعمال العنف والقتل لإسكات كل قلم حر أو عين معارضة.
وهذا لا يمس فقط حرية التعبير، بل يضرب في العمق حق البشرية في الوصول إلى الحقيقة. فالصحفي حين يُغتال، لا يُقتل شخص فقط، بل يُقتل شاهد على مرحلة، ورسول للحقائق التي يُراد طمسها.
من هنا أؤكد أن النقاش لم يعد يكفي أن يبقى محصورًا في بيانات التنديد أو تقارير تصنيف الدول على مستوى حرية الصحافة. المطلوب اليوم هو نقاش على مستوى مجلس الأمن والأمم المتحدة، وعلى مستوى كل الهيئات والمنظمات الدولية، لوضع آليات ملزمة لحماية الصحفيين، خصوصًا في المناطق الساخنة.
أنا أدعو إلى إحداث مجلس دولي لحماية الصحفيين، يكون مستقلًا عن التجاذبات السياسية، ويملك صلاحيات عملية لمواكبة الصحفيين ميدانيًا، والتدخل عند أي تهديد، وضمان محاسبة المتورطين في استهداف الإعلاميين. بدون ذلك، سيبقى العالم ينتج قرارات شكلية، فيما القلم الحر يُكسر كل يوم، والحقيقة تُدفن مع أصحابها.
وإليكم مقترح إنشاء مجلس دولي لحماية الصحفيين:
1.الرؤية والغاية:
ضمان الحماية الفعلية للصحفيين والإعلاميين في جميع أنحاء العالم، خصوصًا في مناطق النزاعات والأنظمة الاستبدادية.
اعتبار الصحافة حقًا إنسانيًا عالميًا لا يقل أهمية عن الحق في الحياة، لأن غياب الصحفي يعني تغييب الحقيقة.
2. المهام الرئيسية للمجلس:
– المواكبة الميدانية: إنشاء فرق دولية للطوارئ ترافق الصحفيين أو تتدخل عند وجود تهديد مباشر.
– الرصد والتوثيق: إعداد تقارير موثقة وملزمة تُرفع إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة بشأن أي انتهاكات ضد الصحفيين.
– المتابعة القضائية: التنسيق مع المحكمة الجنائية الدولية والهيئات القضائية الدولية لضمان محاسبة المتورطين في استهداف الإعلاميين.
– الدعم المباشر: توفير مساعدات عاجلة للصحفيين المهددين (ملاجئ آمنة، حماية قانونية، دعم نفسي واجتماعي.
– التكوين والحماية التقنية: تدريب الصحفيين على أساليب السلامة المهنية، الحماية الرقمية، وتوفير معدات وقاية خاصة بالمناطق الخطيرة.
3.الهيكلة:
هيئة عليا مستقلة تتبع الأمم المتحدة، بعضوية ممثلين عن:
نقابات واتحادات الصحافة العالمية.
منظمات حقوقية دولية.
خبراء أمنيين وقانونيين مستقلين.
مكاتب إقليمية في كل قارة لتسهيل التدخل السريع.
خط ساخن عالمي لتلقي البلاغات والاستغاثات من الصحفيين في أي مكان.
4.آليات العمل:
الإنذار المبكر: آلية تعتمد على شبكات محلية ودولية لرصد التهديدات الموجهة للصحفيين قبل وقوع الاعتداءات.
التدخل العاجل: إرسال فرق قانونية أو ميدانية أو إعلامية فورًا لحماية الصحفي المستهدف.
المرافعة الدبلوماسية: الضغط على الدول من خلال قرارات أممية وربط المساعدات والعلاقات الدبلوماسية باحترام حرية الصحافة.
التحالف الدولي: إشراك المجتمع المدني، الجامعات، النقابات، والمؤسسات الإعلامية الكبرى في دعم المجلس ماليًا ومعنويًا.
5.العقوبات المقترحة ضد المعتدين على الصحفيين:
إدراج الأفراد أو الجماعات أو الأنظمة المتورطة في قوائم سوداء دولية.
فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على الدول التي لا توفر الحماية للصحفيين أو تشجع على استهدافهم.
تفعيل مذكرات توقيف دولية في حق من يثبت تورطه في جرائم ضد الصحفيين.
6.أمثلة مقارنة ملهمة:
على غرار اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تُعنى بحماية المدنيين في النزاعات.
وعلى غرار مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، لكن بتركيز مخصص على حرية الصحافة وحماية الصحفيين.
7. الأثر المتوقع:
الحد من جرائم قتل وتصفية الصحفيين في مناطق النزاعات.
تعزيز ثقة الصحفيين في آليات الحماية الدولية.
ردع الأنظمة الاستبدادية والجهات الفاسدة التي تستعمل العنف لإسكات الحقيقة.
إرساء ثقافة عالمية تعتبر استهداف الصحفيين جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
12.من وجهة نظرك ما أهم الإجراءات التي يجب اتخاذها لحماية الحقوق المهنية والإنسانية لأي صحفي أو إعلامي خصوصا في العالم العربي ؟
ج : حماية الحقوق المهنية والإنسانية للصحفيين في العالم العربي تتطلب حزمة متكاملة من الإجراءات، لا مجرد إصلاح جزئي.
أولًا، لا بد من تطوير التشريعات لتكون منسجمة مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتضمن حرية الرأي والتعبير وحماية الصحفي من أي متابعة أو اعتقال بسبب عمله المهني.
ثانيًا، يجب إرساء آليات مؤسساتية فعّالة، مثل مجالس وطنية مستقلة للصحافة، لا تخضع للسلطة التنفيذية، تكون مهمتها الدفاع عن حقوق الصحفيين، وتلقي شكاياتهم، وضمان عدم إفلات المعتدين عليهم من العقاب.
ثالثًا، من الضروري إقرار حماية ميدانية للصحفيين أثناء أداء مهامهم، خصوصًا في مناطق النزاعات والاحتجاجات، وذلك عبر بطاقات مهنية معترف بها دوليًا، وتكوين أمني وقانوني يقيهم من المخاطر، إضافة إلى توفير التأمين الصحي والاجتماعي لهم ولأسرهم.
رابعًا، ينبغي دعم النقابات والجمعيات المهنية المستقلة، لأنها تشكل الدرع الأول للدفاع عن الصحفيين، مع تمكينها من موارد قانونية ومالية تجعلها فاعلة حقًا، بدل أن تكون مجرد هياكل شكلية.
خامسًا، نشر ثقافة احترام حرية الصحافة على مستوى المجتمع، حتى لا ينظر إلى الصحفي كخصم أو عدو، بل كشريك في التنمية والرقابة الديمقراطية. ويتطلب ذلك إدماج مفاهيم حرية التعبير والإعلام في المناهج التعليمية، وتعزيز التوعية عبر وسائل الإعلام نفسها.
وأخيرًا، أرى أن حماية الصحفي في العالم العربي لن تكتمل دون تفعيل التضامن الإقليمي والدولي، من خلال شراكات مع منظمات عالمية، وإنشاء صناديق إغاثة عاجلة لمساندة الصحفيين المهددين أو المعتقلين أو الذين تعرضوا لانتهاكات.
فالصحافة الحرة هي روح أي مجتمع ديمقراطي، وإذا أُسكت الصحفي، أُسكت معه صوت المواطن.
13.على المستوى الشخصي أنت زوج وأب لثلاثة أبناء،ما أكثر لحظة شعرتَ فيها بالفخر تجاه أبنائك؟
ج : كل مرة أراهم يطبقون القيم التي آمنت بها وعشت من أجلها، أشعر بفخر لا يوصف. نجاحهم الإنساني عندي أهم من أي إنجاز مادي.
للأسف، كثيرًا ما كان عملي الإعلامي والإنساني يسرقني من أسرتي. قضيت أكثر من ثلاثين سنة أضع قضايا الناس في مقدمة أولوياتي، حتى كبر أبنائي وهم يشعرون بغيابي. اليوم، ومع تقدمي في العمر وتراجع صحتي، أدركت أن علي إعادة التوازن، وأن أمنح أسرتي ما تستحقه من وقت واهتمام، دون أن أتخلى عن رسالتي، لكن بإيقاع يناسب وضعي الصحي.
14.بعد تاريخ حافل بالانجازات،كيف تحب أن يكون حضورك في ذاكرة وطنك وقرّائك؟ وكيف تحب أن يكون حضورك في قلب بيتك وأبناك؟
ج: في ذاكرة وطني، أريد أن أذكر كقلم حر لم يساوم على الحقيقة، وفي ذاكرة أبنائي كأب منحهم الحب والقيم قبل أي شيء.
أتمنى أن أُذكر كصحفي وكاتب لم يساوم على الحقيقة، وكإنسان لم يتخل عن واجبه في خدمة الناس، حتى عندما كان ذلك على حساب راحتي أو صحتي. أو وقتي مع أسرتي
لقد قضيت أكثر من ثلاثين سنة وأنا أضع حوائج الناس قبل حوائج أسرتي الصغيرة، وهو ما جعلني أقرر مؤخرًا إعادة ترتيب أولوياتي، لأكون حاضرًا أكثر مع أبنائي الذين كبروا وأنا في الميدان. لكنني غير نادم على ما قدمت، لأنني فعلته بنزاهة وشفافية، ولأنني أعلم أن أثره سيبقى في ذاكرة من عاشوه معي
ج : حصولي على الدكتوراه الفخرية في ملتقى الثقافة العربية لم أعتبره مجرد تتويج شخصي، بل هو تكريم لكل القيم التي دافعت عنها طيلة مسيرتي. هو تقدير لمسار مليء بالتحديات، ومسؤولية إضافية لمواصلة العطاء بلا توقف.
هذا الاعتراف يعكس أن الجهد الصادق لا يضيع، حتى وإن كان الطريق مليئًا بالصعوبات والتضحيات. بالنسبة لي، هو رسالة مزدوجة: رسالة طمأنة بأن ما كتبته وناصرته من قضايا عادلة وجد صدى لدى مؤسسات وفعاليات عربية، ورسالة تحفيز لأستمر أكثر التزامًا بما اخترته منذ البداية: خدمة الوطن والإنسان بالكلمة الحرة والموقف المسؤول.
إنه تكريم يعلّمني التواضع أكثر، ويجعلني مدركًا أن كل خطوة لاحقة يجب أن تكون في مستوى الثقة التي وُضعت في شخصي. فالتكريم الحقيقي لا يكون في الدرع أو الشهادة، بل في الأثر الذي يتركه الإنسان في قلوب الناس وفي مسيرة بلده.
هذه هي الدكتوراه الفخرية الثالثة التي أحصل عليها، وأعتبرها في جوهرها شهادة اعتراف من مؤسسات وجامعات وهيئات ثقافية تثمّن ما أقوم به من عمل صحفي وثقافي وتربوي. هي دكتوراه فخرية، نعم، لكنها قبل كل شيء “دكتوراه في نظر من يمنحها”، وهذا يجعلها ذات قيمة معنوية كبيرة بالنسبة لي.
أشكر القائمين على هذه المبادرات لأنها لا تكرّمني أنا فقط، بل تغذي الروح والفكر، وتعيد التأكيد على أن الكلمة الصادقة والعمل الجاد يجدان دائمًا من يحتفي بهما. ومع ذلك، أبقى مقتنعًا أن التكريم الحقيقي هو أثر الكلمة في الناس، وصداها في خدمة القضايا الوطنية والإنسانية.
16.وأخيرا، ما رأيك في الملتقيات الفنية والأدبية، وخصوصًا ما يقدمه ملتقى “الشعراء العرب” برئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد ؟
ج : الملتقيات الفنية والأدبية هي رئة الثقافة العربية اليوم، لأنها تمنح المبدعين فرصة اللقاء، والتبادل، وصناعة ذاكرة جماعية للإبداع. وملتقى “الشعراء العرب”، برئاسة الأديب والشاعر ناصر رمضان عبد الحميد، أراه نموذجًا متميزًا لأنه تجاوز فكرة الأمسية أو اللقاء العابر، ليؤسس مشروعًا ثقافيًا متكاملًا، يجمع الشعراء والنقاد والفنانين من مختلف الأقطار العربية.
من خلال متابعتي لأنشطته ومجلة “أزهار الحرف” التي يشرف عليها، لاحظت أن الملتقى لم يحصر نفسه في الشعر فقط، بل فتح المجال أمام القصة القصيرة، النقد الأدبي، الفن التشكيلي، وحتى مبادرات التوثيق والإصدار الجماعي. هذه الرؤية جعلت منه فضاءً جامعًا يواكب العصر، ويعطي للمواهب الشابة والمرأة العربية حضورًا بارزًا.
برأيي، نجاح ملتقى “الشعراء العرب” يؤكد أن الثقافة العربية قادرة على أن تتجدد وتبني جسورًا حقيقية بين المبدعين، إذا وجدت قيادة واعية ورؤية واضحة مثل ما يقدمه الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد