الأدب العربي بين السيمياء والهيرمينوطيقا: الشعر نموذجاً:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
يظلّ الشعر العربي فضاءً خصباً للتأويل والتفكيك، لا بوصفه نصاً جماليّاً فحسب، بل باعتباره حاملاً لرموزٍ ودلالات تتجاوز حدود اللغة المباشرة لتلامس أعماق الثقافة والتاريخ والوجود. وإذا كان النقد الأدبي قد تنقّل عبر محطات متعددة من البلاغة التقليدية إلى البنيوية والتفكيكية، فإنّ مقاربة الشعر العربي اليوم عبر ثنائية السيمياء (علم العلامات والرموز) والهيرمينوطيقا (علم التأويل وفلسفة الفهم) تفتح أفقاً مزدوجاً: الأول يقرأ العلامات في بنيتها النصية والرمزية، والثاني يسعى لفهمها في سياقها التاريخي والثقافي والوجودي.
—السيمياء: العلامة بوصفها شعراً:
السيمياء كما بلورها فردينان دو سوسير وطورها لاحقاً شارل ساندرس بيرس تقوم على النظر إلى النصوص بوصفها شبكات من العلامات، حيث المعنى ليس معطى جاهزاً، بل يُنتج من خلال العلاقة بين الدال والمدلول. وفي هذا الإطار، يصبح الشعر العربي فضاءً متخماً بالعلامات:
_ القصيدة الجاهلية مثلاً تعجّ بالرموز (الطلل، الناقة، الرحلة، السيف، المطر)، وهذه ليست مجرد صور بل علامات سيميائية تختزن معنى الانتماء والوجود في الصحراء.
_ في الشعر الصوفي، كما عند ابن الفارض والحلاج، تتحوّل المفردات (الخمر، الكأس، المحبوب) إلى علامات عابرة للدلالة المباشرة، تؤسّس لميتافيزيقا رمزية تسعى إلى الاتحاد بالمطلق.
إن السيمياء تكشف أنّ الشعر لا يتوقف عند الجمال اللفظي، بل يصوغ “شبكة رموز” تُمكّنه من إنتاج خطاب ثقافي وحضاري متجاوز. وهنا نتذكر قول رولان بارت: “النص ليس رسالة، بل نسيج من العلامات المفتوحة على احتمالات لا نهائية.”
—الهيرمينوطيقا: النص ككيان مفتوح للفهم.
أما الهيرمينوطيقا التي بدأت مع شلايرماخر وتطورت مع ديلتاي وصولاً إلى هايدغر وغادامر، فهي لا ترى النص مجرد علامات، بل تعتبره تجربة وجودية وفعل حوار مع القارئ. فالنص الشعري العربي لا ينكشف معناه من خلال القراءة المباشرة، بل عبر عملية “اندماج الآفاق” بتعبير غادامر، أي التقاء أفق القارئ بأفق النص.
عند قراءة قصائد المتنبي، لا نكتفي بفهم ألفاظه، بل نتأمل في خلفيته الوجودية التي تجسّد طموح القوة والمجد والخلود.
وعند محمود درويش، تتحول العلامة الشعرية (الأرض، الزيتون، الجرح) إلى مفاتيح تأويلية للهوية والذاكرة والاغتراب، بحيث يغدو النص مساحة حوار بين تجربة فردية وجماعية.
الهيرمينوطيقا إذاً تجعل الشعر العربي كياناً حيّاً يتجدد مع كل قراءة، لأنه نصّ لا يكتمل إلا بفعل التأويل. وكما يقول بول ريكور: “النص يعيش حياة مستقلة عن مؤلفه، ويظل ينتج معاني جديدة كلما دخل في أفق قارئ جديد.”
—بين السيمياء والهيرمينوطيقا: جدلية الرمز والتأويل.
الجمع بين المنهجين لا يعني التوفيق السطحي، بل إبراز البعد المزدوج للشعر العربي:
فالسيمياء تكشف البنية الرمزية الداخلية للنص.
أما الهيرمينوطيقا فتضيء على أفق المعنى عبر تجربة القارئ وسياق الثقافة.
مثلاً، حين نقرأ بيت المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ.
السيمياء تقرأ فيه علاقة بين علامة “النجوم” كرمز للعلو والسمو، وبين “الشرف” كقيمة. أما الهيرمينوطيقا فتقرأ هذا البيت في سياق صراع المتنبي مع واقع عصره، ورغبته في تجاوز حدود الممكن التاريخي، مما يمنحه بعداً وجودياً.
–الشعر العربي المعاصر: بين انفتاح العلامة وتعدد التأويل:
في الشعر الحديث، خصوصاً مع بدر شاكر السياب وأدونيس ومحمود درويش، نرى أن القصيدة أصبحت أشبه بفضاء سيميائي متكامل، حيث كل كلمة تحمل طبقات من العلامات، وكل صورة قابلة للتأويل المتعدد.
_ عند السياب، المطر علامة على الخصب والانبعاث، لكنه أيضاً علامة على الحزن والخراب.
_ عند أدونيس، تتحول اللغة كلها إلى فضاء رمزي يعيد صياغة العالم.
_ عند درويش، كما في قوله: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، نجد علامة لغوية بسيطة تتحول عبر الهيرمينوطيقا إلى خطاب كوني عن معنى الوجود وجدلية الوطن والمنفى.
–الخاتمة:
إن مقاربة الشعر العربي بين السيمياء والهيرمينوطيقا تكشف أن النص الشعري ليس مجرد بناء جمالي، بل هو شبكة من الرموز والتجارب التي تحتاج إلى عينٍ تقرأ العلامة، وعقلٍ يؤوّل المعنى. فالسيمياء تُبرز النص كبنية لغوية منفتحة على الرموز، بينما الهيرمينوطيقا تُعيد وصل النص بوجودنا وتاريخنا وثقافتنا. وبهذا يتأكد أن الشعر العربي، قديماً وحديثاً، يظل حاملاً لرهانات تتجاوز الفن لتبلغ أفق الفكر والوجود، مثبتاً أن الكلمة ليست مجرد صوت، بل علامة وتأويل، جرح وجمال، حضور وغياب، وصوت يكتب تاريخ الروح في مواجهة الزمن.