قصة قصيرة سيف العرب محمد فتحى السباعى
في أحد الأحياء العتيقة، كان أحمد جمال أبو المعاطي لا يشبه من في عمره. موهوب في كرة القدم، ذكي، محبوب، وابتسامته كانت تكفي لتطفئ خصام يوم كامل. كان حارسًا للمرمى، لكنه في نظر أخيه الأصغر يوسف، كان حارسًا للبيت، وللأحلام، وللأمل.
أحمد حلم أن يصير طبيب أسنان، “علشان أساعد اللي بيتألم”، هكذا قال. وكانت الأم تضحك من قلبها، وتغطيه كل ليلة بالدعاء. أما يوسف، فكان يردد: “أنا هبقى عالم وأعالج السرطان”. لم يعرف أن الحياة ستأخذه من الأحلام إلى المحنة.
في السنة الأولى من الجامعة، توقف أحمد عن اللعب. شعره بدأ يتساقط، وبدا صوته خافتًا كأن شيئًا بداخله يُطفئ. بعد شهور، جاء التشخيص: سرطان الدم.
البيت انكسر.
الأم بكت حتى جفّت دموعها. الأب جلس في الشرفة طويلًا، لا يتكلم، لا يتحرك. أما يوسف، فقد كتب اسمه على أوراق الامتحان بيد مرتعشة، ثم مزّقها، وعاد يركض كل يوم إلى المستشفى، كأنه يحاول أن يسبق النهاية.
لكن النهاية جاءت.
مات أحمد… مبتسمًا.
في جنازته، لم تُرفع سوى الأكف والعيون. وفي الليل، سقط الأب ميتًا من أزمة قلبية. لم يَتحمّل أن يُدفن الابن في الصباح، ويعود ليجد سريره خاليًا في المساء.
يوسف صار وحده، مع أم مكسورة، وصديقٍ اسمه سالم، كان يظنه الأخ الآخر.
ثم حدث الأسوأ: سالم خان.
خطف منه قلب “ليلى”، الفتاة التي أحبها يوسف، وسخر من أحلامه الصغيرة. قال له ذات مساء: “أحمد مات، ومفيش حاجة بتتغير يا يوسف. أنت بتحارب طواحين هوا”.
لكن يوسف لم يرد. نظر للسماء، وقال لأخيه الذي هناك:
“أنا لسه واقف… ولسه بحرس المرمى.”
في صباح حزين، وصله خبر استشهاد صديق أحمد في كمين بالعريش. لم يفكر يوسف كثيرًا. ترك كلية العلوم، وذهب في صمت إلى بوابة الأكاديمية العسكرية. لم يقل شيئًا لأمه. اكتفت بالنظر في عينيه، وفهمت.
مرت سنوات.
صار يوسف ضابطًا. رجلًا. لكنه لم ينسَ وعده: “هعالج السرطان”. فبدأ مشروعًا سرّيًا بالتعاون مع أستاذ جامعي كان يؤمن به. استخدم العلم، والذكاء الاصطناعي، والخبرة العسكرية في تطوير دواء جديد، لا يقتل الخلايا فحسب، بل يُعيد بناء المناعة كأنها جيش صغير في جسد كل إنسان.
وبينما كان يلمّ بقايا الحلم، ظهرت الحقيقة: مافيا الأدوية تريد أن تشتري الاختراع. ملايين الدولارات، حوافز، سفر، مجد.
لكنه قال:
“العلاج دا هيبقى في يد جيش بلادي… مش في خزنة حد.”
حاولوا اغتياله.
فشلت المحاولة.
حاولوا شراء أمه بالدعاية الكاذبة.
بكت الأم، لكنها قالت:
“ابني بيحارب زي أخوه… ما يبعش حلمه.”
ثم جاءت غزة.
الطوفان، والدم، والأطفال تحت الأنقاض. يوسف لم يكن طبيبًا، لكنه قاد بعثات إنسانية لإعادة الإعمار. دخل البيوت التي كانت أطلالًا، زرع فيها شتلات زيتون، وخط على الجدران:
“هنا بدأت الحياة من جديد.”
وفي مؤتمر عالمي، وقف يوسف، أمام آلاف البشر، ممسكًا بعلبة الدواء التي صنعها، وقال:
“أنا يوسف جمال أبو المعاطي… أخو أحمد. ابني بلدي، وعرين أمتي. دا علاج السرطان. ودا لقاح الكراهية. ودي أول خطوة في عصر السلام.”
ثم نزل من المسرح، وذهب إلى المقابر. جلس بين قبر أبيه وأخيه، ووضع الوسام الذهبي عليهما.
قال:
“لسه بحرس المرمى… بس دلوقتي مش لوحدي.”
عندما يتحول الألم إلى أمل، والفقد إلى طريق، يولد من الرماد رجلٌ يحمي وطنه لا بالسلاح فقط، بل بالعِلم، والحُب، والوفاء.