فسيفساء الحروف: حكاية الحكمة والأمثال في تجربة ملفينا توفيق أبو مراد
***
مقدّمة: الأمثال والحكمة ودورهما في التعليم
تُعَدّ الأمثال والحِكَم من أعرق وسائل التربية والتعليم التي عرفها الإنسان، فهي خلاصة التجارب المتراكمة عبر العصور، ومرآة لثقافة الشعوب وقيمها. وفي الوقت الذي تتسارع فيه الحياة الحديثة وتتشابك أنماطها، تظلّ الأمثال جسرًا يربط الأجيال الحاضرة بموروثها الفكري والأخلاقي، ويغرس القيم في النفوس بأسلوب موجز ونافذ. لقد اعتمد المربّون والفلاسفة منذ القدم على الأمثال والحكم لتقويم السلوك وتعزيز الفضائل، إذ تختصر الكلمات القليلة دروسًا طويلة في الصبر، والمحبة، ومكارم الأخلاق، وتوجّه الإنسان إلى مكارم العيش وسمو الروح.
العنوان ودلالاته
فسيفساء الحروف لغويًا: الفَسيفِساء في اللغة هي قطع صغيرة من الحجارة أو الزجاج الملوَّن تُرصّف لتكوين لوحة فنية متكاملة. وعند إضافة “الحروف” إلى الكلمة، يتّسع المعنى ليشير إلى لوحة متناسقة من الكلمات والجُمل، أي إلى بناء أدبي يجمع بين التنوع والوحدة؛ فالحروف هنا هي الخامة التي تُشكّل بها المؤلفة لوحاتها الحكميّة.
الأمثال لغويًا: المثل في لسان العرب هو القول السائر الذي يُشبَّه به حال الثاني بالأول، أو الجملة التي يُقصد بها العبرة والحكمة، ويُضرَب لتوضيح معنى أو لتقريب فكرة.
بنية الكتاب ومضامينه
تُفصح الكاتبة اللبنانية ملفينا توفيق أبو مراد في كتابها فسيفساء الحروف عن سبب تأليفه، وهو ما لاحظته من عزوف الجيل الجديد – الأبناء والأحفاد – عن تداول الأمثال وحفظها، على الرغم من أنّها صارت جزءًا من حديثها اليومي، فآثرت أن توثق هذا الإرث في عمل يجمع الحكمة والمتعة. وقد استهلّت الكتاب بتعريف دقيق لمعنى الحروف، وأكدت أن الأمثال ثمرة تجارب وخبرات منذ بدء التكوين على ألسنة الحكماء والأنبياء والرسل.
قسّمت المؤلفة كتابها إلى قسمين رئيسين:
1. قسم الحكمة
عنوانه: رأس الحكمة مخافة الله.
يضم 507 حكمة تتناول مختلف مناحي الحياة.
استشهدت فيه بالكتاب المقدس، والقرآن الكريم، والسنّة النبوية، والأمثال الفرنسية، وأقوال الإمام علي، وبعض الفلاسفة، إضافةً إلى اقتباسات من كتّاب معاصرين مثل عمر فروخ، جبران التويني، والمطران عودة، إلى جانب أقوال سياسيين ورؤساء منهم روزفلت
2. قسم الأمثال المبوبة
يضم 64 بابًا تبدأ بباب الإيمان وتنتهي بباب المرأة.
تتنوع موضوعاته لتشمل أبوابًا مثل الطبخ، الزواج، الشيطان، البحر، الصبر، الصوم، الكلام، النفس، السر، الضحك، المال، الأم، وغيرها، في استعراض ثريّ لأوجه الحياة الإنسانية.
قراءة في التجربة
في فسيفساء الحروف تتقمّص ملفينا توفيق أبو مراد دور الحكيم، وتستحضر فكر الفيلسوف وعصا الترحال التي تحمل معنى الزهد، لتخاطب الأجيال الجديدة بنداء ملؤه المحبة والإيمان: اقرأوا، استمعوا، تحلَّوا بالصبر والحكمة، وكونوا أهلاً للإنسانية.
تنساب بين صفحات الكتاب دعواتها العميقة إلى الخير والتقوى، فتقول:
خير الناس أنفعهم للناس.
البطالة أمّ الفساد.
انهيار الأخلاق خاتمة كل أمة.
إنها رسائل توجيهية تحضّ على التمسك بالقيم الروحية والاجتماعية، والعودة بالإنسان إلى إنسانيته في زمن تغلب عليه الماديات.
في النهاية :
تتألق ملفينا توفيق أبو مراد في هذا العمل بوصفها روائية وكاتبة وشاعرة، تجمع بين رهافة الحس الأدبي وعمق الحكمة، وتُقدّم للقارئ لوحة فسيفسائية من الحروف المضيئة. كتابها ليس مجرد تجميع لأمثال وأقوال، بل هو رحلة فكرية وروحية تعيد إلى الأذهان دور الكلمة في تهذيب النفس وبناء الإنسان.