الشِّعر بين إيقاع التفعيلة وحرية المعنى: في الدفاع الجمالي عن الشعر الحرّ:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
منذ أقدم العصور، ظلّ الشعر سؤالاً مفتوحاً يتأرجح بين صرامة الوزن وبراح المعنى، بين القيد العروضي الذي يفرض إيقاعه على اللغة، وبين الحرية التي تمنح النص أفقه الكوني. فإذا كان الخليل بن أحمد الفراهيدي قد أسّس لبنيةٍ عروضية صارمة حوّلت الشعر إلى علمٍ محكومٍ ببحورٍ محدّدة، فإنّ القرن العشرين شهد تمرداً جمالياً صاخباً على هذه القوالب، ليُولد ما عُرف بـ الشعر الحرّ أو شعر التفعيلة، بوصفه محاولةً لافتكاك الشعر من جمود القافية والانفتاح على أفق الدلالة.
إنّ نازك الملائكة حين كتبت قصيدتها الشهيرة الكوليرا عام (1947)، لم تكن مجرّد شاعرة تجرب شكلاً جديداً، بل كانت تُدشّن لثورة جمالية تضع اللغة في قلب المأساة، حيثُ سمع القارئ وقع خطوات الموت على إيقاعٍ يتنفس مع النص لا مع البحور العروضية، تقول:
سكن الليلُ
أصغِ إلى وقع صدى الأناتْ
في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأمواتْ.
هكذا أصبح الوزن أداةً للمعنى، لا سجناً له. ومن هنا جاء دفاع بدر شاكر السيّاب عن حرية القصيدة، مؤكداً أن الشعر الحرّ ليس هروباً من العَروض، بل بحثاً عن موسيقى داخلية أعمق من التفعيلات. ففي أنشودة المطر يتجلّى هذا المزج بين الإيقاع والمعنى، بين التكرار الصوتي والبعد الرمزي، يقول :
مطر… مطر… مطر…
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادْ
لتشبع الغربان والجرادْ.
إنّ الشعر الحرّ، في هذا الأفق، لم يكن انفلاتاً من التقاليد بقدر ما كان استعادة للحرية الشعرية الأولى، تلك التي سبقت تأسيس العروض، حين كان الشعر العربي في جوهره صوتاً غنائياً نابضاً أكثر من كونه علماً مضبوطاً. لذلك رأى أدونيس أنّ الثورة الحقيقية للشعر لا تكمن في كسر الوزن وحده، بل في إعادة بناء العلاقة بين اللغة والوجود، قائلاً: “القصيدة ليست شكلاً لغوياً، بل هي شكلٌ من أشكال الوجود.”
ولعلّ من أبرز ما أتاحه الشعر الحرّ أنّه جعل القصيدة العربية أكثر قدرة على استيعاب التحولات التاريخية والسياسية التي عصفت بالإنسان العربي. فقد عبّرت فدوى طوقان في نصوصها عن مأساة الأرض والهوية، واستخدمت الحرية الشكلية كي تُوسّع فضاء القول الشعري ليعانق التجربة الفلسطينية بكل تناقضاتها، تقول :
إني امرأة لا أبيع الهوى
ولا أشتري غير أرضي…
ولي في ثرى وطني قبلةٌ
وعليه صلاتي ودربي.
هكذا تحوّل الشعر الحرّ إلى مساحة للتمرّد والاعتراف، وإلى أداة جمالية تستوعب القلق الوجودي والتحولات الاجتماعية، من دون أن تتخلّى عن الإيقاع كلياً، بل لتعيد صياغته على نحوٍ يتناغم مع معنى التجربة.
ولذلك، فإنّ الدفاع عن الشعر الحرّ ليس موقفاً ضدّ عمود الشعر، بل هو دفاع عن حق القصيدة في التجدّد، وعن قدرة اللغة على أن تتجاوز ذاتها كي تظلّ حية. لقد فهم السيّاب والملائكة وأدونيس ومحمود درويش وسواهم أنّ الشعر، في جوهره، ليس إما موسيقى أو معنى، بل هو موسيقى المعنى ذاته، أو كما قال درويش: “الشعر محاولة لترميم العالم بالكلمات.”
_خاتمة:
إنَّ الشعر ـ سواءٌ أكان مقيداً ببحور الخليل أم متحرراً في فضاء التفعيلة ـ يظلُّ في جوهره بحثاً عن الحقيقة الجمالية والوجودية للغة. فالشعر الحرّ لم يأتِ ليهدم عمود الشعر أو يلغيه، بل جاء ليكشف عن طاقةٍ جديدةٍ للقصيدة، طاقةٍ تجعل الوزن تابعاً للمعنى لا سجناً له، وتجعل الإيقاع الداخلي أعمق من مجرد تفعيلة متكررة. لقد أثبتت تجارب السيّاب والملائكة ودرويش وأدونيس وغيرهم أنّ الشعر الحرّ هو استمرار للروح الشعرية لا انقطاع عنها، وأنه إضافةٌ إلى تراث الشعر العربي لا خصمٌ له.
وبذلك يغدو الشعر الحرّ دفاعاً عن حرية الإنسان بقدر ما هو دفاع عن حرية اللغة؛ فهو مرآةٌ لحركة التاريخ والوجدان، وتجسيدٌ لإرادة الشاعر في مواجهة القوالب الجاهزة، وفي تحرير الكلمة لتكون شاهدةً على زمنٍ متحوِّلٍ لا يعرف الثبات. فالقصيدة الحرة هي شهادة الشعر على أن الإبداع لا يقاس بالوزن وحده، بل بما يتركه النص من أثرٍ في الوعي والوجدان.