حراثةُ الصمت
أحرثُ الصمت منذ أعوام، كمن يفلح أرضًا نسيها المطر.
أُقَلِّبُ التربة بأصابعٍ أنهكها الرجاء، أزرع فيها بذورًا من الحروف، أسقيها بندى الحلم، وأنتظر…
لكنّ الأرض صامتة، كأنها تكتفي بأن تحتفظ بصوتي دون أن تُنطِقه.
كلّ كلمةٍ أكتبها، بُذرة أُلقيها في باطنٍ غامض.
أُمنِّي نفسي بربيعٍ قريب، بزهرةٍ تُدهش القارئ وتُنبت في روحه معنى، لكن المواسم تمضي، والسنوات تمطر غبارًا لا خُضرة.
فأجلس عند حافة الصبر، أتأمل أرضي التي لا تُثمر إلا جذورًا يابسة وفواصلَ من حجر.
تعبتُ من حرث أرضٍ لا تُنبت، لكنّني لا أستطيع التوقف.
فالشاعر لا يختار أرضه، بل تختاره الكلمة لتكون حقله، حتى لو كانت مجدبة.
الكلمة التي حملتها في صدري لا تتركني، لكنها أحيانًا تتوارى في صمتها، تُغلق أبوابها، كأنها تريد أن تُمتحن قدرتي على الإيمان بها.
أخاف أحيانًا أن تتخلى عني، أن تبقى أسيرة في داخلي، سجينة القلب لا تجد طريقها إلى الضوء.
أسأل نفسي: هل سئمتني الكلمة؟ أم أنها تنتظر موسمًا آخر، سماءً أرحب، وقلوبًا تعرف كيف تصغي؟
لقد طبختُ أجمل قصائدي في قدرٍ صنعته من صبري،
على نارٍ من الحلم والوجع، نضجت نصوصي كما تنضج الأسرار،
قدّمتها بصدقٍ جائعٍ للذوق، لكنهم مرّوا حول الموقد دون أن يتذوّقوا.
ربما لم يكن الجوع إليهم، بل إلى الفهم.
ومع ذلك، أواصل الحرث.
فالأرض التي لا تُثمر اليوم، قد تُورق غدًا في مكانٍ آخر.
قد لا يكون الحصاد لي، لكنّ البذرة تعرف طريقها إلى الضوء.
فالكتابة ليست تجارةً في الزمن، بل إيمانٌ بأن للحرف روحًا لا تموت.
أنا لا أكتب لأحصد، بل لأتذكّر أني ما زلت حيًّا،
أنّ في داخلي شيئًا يقاوم اليأس ويُعلِّم التراب الصبر.
ربما يكون صمتي اليوم نبتةَ الغد،
وربما حين يُنسى اسمي، تزهر كلماتي من تحت الغبار.
خاتمة: جذر الحياة
وربما… لا تكون الكلمة زهرًا يُقطف،
بل جذرًا يظلّ حيًّا تحت التراب، يمدّ الحياة لمن يأتي بعدنا.
فالشاعر الحقيقي لا يحصد ما يزرع،
بل يترك أثر أصابعه في الطين، ليتذكّر الربيع طريقه.
وإن لم تُثمر الأرض اليوم، فحسبه أنه آمن بالبذرة،
وسقاها من دمه، وابتسم وهو يحرث الصمت.
بقلم الشاعر رضا بوقفة شاعر الظل
وادي الكبريت
سوق أهراس
الجزائر
الشعر اللغز الفلسفي والقصة اللغزية الفلسفية