*قراءة في دراسة د. نورية العبيدي “سمات المدرّس المثالي من وجهة نظر التلاميذ وفق دراسات عالميّة”/بقلم ليندا حجازي*
*تصدير:*
قال وليام آرثر وارد
“المعلّم الجيّد يُلهم، أما العظيم فيُغيّر الحياة.”
بهذا القول أستشهد،
لأنه يلخّص ببساطة جوهرَ ما نحن في صدده اليوم.
فما بين الإلهامِ والتغيير،
يقفُ المعلمُ بوصفه من يخلقَ الأثر.
اسمحوا لي أن أتجاوز الورقة، وأبدأ بصورة:
طفلٌ في السابعة…
يرتعد من برد الصباح المدرسيّ، يحملُ حقيبتَه كأنّها خشبةُ نجاةٍ، يدخل الصفَّ،
فيرى معلّمَه يبتسمُ له، كأنَّ الدفءَ كلَّه اختُصر في تلك اللحظة.
ذلك الطفلُ ما زال يعيش فينا،
وذلك المعلمُ، وإن نُسي اسمُه، لم يُنسَ حضورُه.
وإن كانت هذه الندوة قد دعتني إلى التعقيب، فقد جئتُ شاهدةً على أثرٍ لا يزال يسكنُنا، وإن غابَ صاحبُه.
لقد اختارت البروفيسورة نورية، أن تسأل الطالب من هو الأستاذُ المثالي، أن تنزل من الأبراج التربويّة العالية، لتُصغي إلى صوت بسيط، صادق، غير مثقل بالمصطلحات: صوت الطالب.
وهذا وحدُه فتحٌ في الكتابة التربويّة،
لأنّنا لا نُنتجُ التربيةَ من فوق، نحن نكتشفُها كلّما أنصتنا لمن يتعلّم.
وقد تميّزت هذه الدراسة بعدد من نقاط القوّة اللافتة:
• المرجعيّة الإنسانيّة:
جعلت من الطالب مصدرًا للمعرفة، لا موضوعًا للتحليل.
هو مَن يصف، ويقيّم، ويُضيء.
_ بدلَ أن تُملي عليه شكلَ المعلّم الجيّد، تركته يخبرُ عمّن بقيَ في ذاكرته.
• تنوّع السمات وتوازنُها:
السمات الاثنتا عشرة التي عرضتها الدراسة جمعت بين:
– الصفات الأخلاقيّة: كالعدالة والغُفران،
– الصفات العاطفيّة: كالحنان والانتماء،
– والصفات المهنية الصارمة: كالاستعداد والتوقعات المرتفعة،
فكأننا أمام أنموذجٍ للمعلم الكامل: إنسانًا، ومربيًا، ومهنيًا.
• البعد المقارن العالميّ:
ومن اللافت أن الدراسةَ استندَتْ إلى دراسات دوليّة متعدّدة السياقات،
من تجارب جامعيّة إلى أصواتٍ ميدانيّة، ممّا أضفى عليها بعدًا مقارنًا يستحقُ التقدير .
• اللغة الرشيقة:
أسلوب الدراسة علميٌّ، من دون أن يُضحّي بدفء التجرِبة.
كل سمة مدعومة بمثال حيّ، مما جعل النصَّ قريبًا من الحياةِ الصفّية، لا مجرّد تقرير.
و الذي منح هذه الدراسة فرادتها،
• أنها مزجت بين التوصيف والتوصية من دون أن تملي شيئًا، وفتحتِ الطريقَ للتأمّل.
• أنها أدرجت سماتٍ لا تُدرَّس في برامج الإعداد، لكنّها تُكتسَب بالتماس الإنسانيّ:
كالحنان، واللمسة الشخصيّة، وحضور القلب… وهي سمات يصعب قياسها، لكنّها تؤسّس لأعمقِ الأثر.
• أنّها استندت إلى أصواتٍ طلّاب من ثقافاتٍ وسياقاتٍ متعدّدة، من دون أن تفرضَ أنماطًا ثقافية موحّدة،
فكانت رؤيتُها للمعلّمِ المثاليّ متعدّدةَ الوجهات، لكنّها موحَّدة في إنسانيتها.
• أنها تخطّت موقع السلطة الأكاديميّة، وكُتبت من موقع الشاهد والمُصغي،
فكانت أقربَ إلى البوح الصادق منها إلى التنظير، وهذا ما جعلها تلامس وجدان القارئ.
ومن أجمل ما في هذه الورقة: أنها جعلت من الذاكرةِ العاطفيّة للطالب معيارًا للتقييم، وهذا اختراقٌ حقيقيّ في المفهوم التربويّ. وإضافةً تُحسب للباحثة.
معلمٌ لا يُنسى، هو بالضرورة معلمٌ ناجح، حتى إن لم يكن “مثاليًّا” بالمعايير الإدارية.
لكن، وكما أنّ كلَّ ضوءٍ يكشفُ ظلَّهُ،
فقد وجدتُ في جمالِ هذه الدراسة ما يستدعي أن نُكملها — لا أن نراجعها،
أن نُجاورها برؤية جديدة، لا أن نكونَ بديلاً منها. قد يخلو بعض المعلّمين من خفّة الظلّ، أو لا يُجيدون المزاحَ، أو لا يحملون ابتكارًا ظاهرًا في طرائقهم، لكنّهم يملكون ما هو أندرَ: صدقًا لا يتكلّف، حضورًا هادئًا، وثقافةً تُضيء من دون أن تستعرض. هؤلاء لا يصنعون الضحكة، لكنّهم يصنعون الطمأنينة. ولا يُدهشون بأساليبهم، إنّما يُحدثون الأثرَ بصمتٍ، وإصغاءٍ لا يحتاج إلى مقدّمات. فالمثاليّة لا تعني اكتمالَ الصفات، إنّما اكتمالُ النيّة، وأن يكون المعلّمُ — كيفما كان — صادقًا في حبّه للتعليم، ومسؤولًا في حضوره، وعادلاً في عطائِه.
تلك هي المثاليّة التي تُلامس القلب، وإن خلت من البهرجة.
ولقد تساءلتُ في سرّي_ حبًّا لا نقدًا:
هل هذا النموذجُ ممكنٌ في واقع المعلّم العربيّ؟
المعلّم الذي يُدرّس في صف مكتظّ، من دون تدريب كافٍ، وبتقييم إداريّ قاسٍ؟
هل يمكنه أن يُلهمَ ، ويُسامحَ، ويضحكَ ويمنحَ الانتماء؟
هل تمنحه السياسات التربويّة فرصة ليُضيء، أم تطلب منه أن يكون شمسًا وهو يعيشُ في العتمة؟
ولعلّ الدراسة، لو أرفقت هذا العرض العاطفيّ الحميم بإطارٍ نظريّ بسيط — كالإشارة إلى المدرسة البنائيّة التي ترى في العلاقة التربويّة شراكةً حيّة، أو إلى المدرسة الإنسانيّة التي تمنحُ المعلّم دورَه كرفيقٍ في الاكتشاف لا كناقل للمعرفة.لزاد ذلك من عمقها واتّساعها.
كما كان من المفيد، في السياقِ نفسه، توضيح المواقع الجغرافيّة أو الثقافيّة التي صدرت عنها الدراسات العالميّة المُعتمدة،
مما يُساعد القارئ على تقييم مدى قابليّة هذه السمات للتطبيق في بيئات تعليميّة متعدّدة، لا سيّما في السياق العربيّ.
وانطلاقًا من هذا النصّ، أطرح بكلّ حبٍّ أمنيةً أكثرُ منها تساؤلًا :
كيف نبني هذا المعلّم المثاليّ؟
لا أعني صفاتَه، إنّما البيئة التي تسمح له أن يكون،
والسياسات التي تُسانَدُه لا أن تُثقلَه،
والتكوينُ الذي يخلق منه قائدًا تربويًّا لا موظّف حصص.
إنّني لا أُعلّق على دراسة، إنّما أبحثُ عن ظلٍّ مرّ في حياتي ولم يترك اسمَه… لكنّه تركني مختلفة.
ذاك الذي لم يكن يُدرّس…
كان يفتح نوافذ صغيرةً في صدري ويعلّمَني كيف لا أغلقُها.
لم يقل لي “أحسنتَ”،
لكنّه قال: “أخطأتَ بذكاءٍ… دعنا نعيدُها بنورٍ أقلّ ارتباكًا.”
كان يعرفُ أنّ الطمأنينةَ أهمُّ من العلامة،
وأنّ الحضورَ أهمُّ من الشرح،
وأنّ الاسمَ حين يُنادى بمحبّة… يتحوّل إلى بيت.
وها أنا ذا الآن، أسمع خطى معلّمٍ دخل الصفَّ، فصمت الجرس خجِلًا.
لهؤلاءِ المعلّمين، لا تُنصب التماثيل،
إنّما يُنصَت لهم حين يغيبون،
كأنّنا لا نريد أن يفيقَ الصفُّ من حضورهم.
الخاتمة:
حين ننتهي من وصف المعلم المثاليّ، لا نكون قد اكتشفناه…
نكون قد اشتقنا إليه.
في آخر المطاف، نحن لا نفتّش عن تعريفات، إنّما عن يدٍ كانت تُربّت على أكتافنا حين أخطأنا، وعن صوتٍ قال: “لا بأس… حاول من جديد”
وإذا كان الطالبُ قد قال كلمته،
فإنّني أختم كلمتي بتحيّة إجلالٍ للمعلّمِ ،
لكائنٍ يُشبه الزمن.
حين يُعلّمُ: يمنحُ ليغيبَ، ويغيبُ ليبقى.
المعلّمُ الحقيقيُّ ، يمرّ كما تمرّ الكواكب القديمة:
لا نراها دائمًا، لكننا نُبصر بفضلها.
هو الضوءُ الذي لا يطلبُ أن يُرى… إنّما أن يُضيء. هو المعلّم الصادق.