حين يصبح الوعي مرآةً جارحة: عن الوجود الذي يفضح الغباء:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
في مجتمعاتٍ تسكنها الأقنعة، لا يكون اختلافك جرمًا إلا حين يذكّرهم وجودك بما يفتقرون إليه. فثمة لحظة يكتشف فيها الإنسان الواعي أنّ مجرّد حضوره يصبح مرآةً مزعجة لأولئك الذين يتغذّون على الزيف ويتنفسون الخداع. إنّه الوعي حين يتحوّل من نعمةٍ إلى عبء، ومن بصيرةٍ إلى تهمة. فكلّ عقلٍ مستيقظٍ في محيطٍ نائمٍ هو فضيحةٌ لا تغتفر، وكلّ صدقٍ في زمن الادّعاء يُعتبر تهديدًا للنظام القائم على الغباء الممنهج.
يقول فريدريك نيتشه في “هكذا تكلّم زرادشت”: «الضعفاء لا يكرهون القوّة لأنها ظالمة، بل لأنها تُذكّرهم بضعفهم». وكذلك الغافلون لا يكرهون الذكاء لأنه متعالٍ، بل لأنّه يعري سذاجتهم. فحضورك بينهم، بصفاء بصيرتك وعمق نظرك، هو تذكيرٌ دائم لهم بأنهم يعيشون في دائرةٍ من الجهل المطمئن، وأنّهم كلّما حاولوا النيل منك إنما يعبّرون عن حقدٍ على ذواتهم قبل أن يكون عداءً لك.
إنّ إريك فروم يرى أنّ الإنسان المعاصر —وقد اغترب عن ذاته— يميل إلى رفض كل من يذكّره بحريته المسلوبة. فالشخص الواعي يوقظ في الآخرين إحساسًا بالمسؤولية، والمسؤولية مرهقة لمن اعتاد التبعية الفكرية والعاطفية. ولذلك، فإنّ الوجود المختلف يُقابَل بالعداء، لا لأنه خطرٌ فعلي، بل لأنه يعيد للسطح أسئلة دفنها الخوف طويلًا.
أما كارل يونغ فيشير إلى ما يسمّيه “إسقاط الظل”، أي ميل الإنسان إلى كره من يجسّد صفاتٍ يرفض الاعتراف بوجودها في نفسه. فالذين يعادونك لأنك تفكر، في الحقيقة يكرهون فيك الفكر الذي حُرموا منه، والذين يسخرون من وعيك يهاجمون الجزء المقموع من أرواحهم الذي يتوق إلى النور. إنهم لا يرونك كما أنت، بل كما يخشون أن يكونوا.
وفي ضوء بيير بورديو، يمكن القول إنّ المجتمع يخلق “رأس مالٍ رمزيّ” يقدّس الامتثال ويعاقب الاختلاف. فالوعي الفردي يهدد تماسك النظام القائم على الجهل الجماعي، لأنّ التفكير النقدي يزعزع الشرعية التي تقوم عليها السلطات الثقافية والدينية والاجتماعية. ومن ثم، يصبح المغاير في الفكر منبوذًا، لا لأنّه مخطئ، بل لأنه يفضح بنية الهيمنة ذاتها.
وجودك، إذن، ليس عاديًّا؛ هو حدثٌ يختبر ذكاء الآخرين، يضعهم أمام تناقضاتهم، ويقيس مدى اتساع وعيهم. ولهذا يفرّ منك السطحيون كما يفرّ الليل من الضوء. إنّهم يخافونك لا لأنّك متكبّر، بل لأنّك صادق. فالصدق في زمن الخداع وقاحة، والنور في زمن العتمة جريمة.
قال جان بول سارتر: «الآخر هو الجحيم»، لا لأنّ الآخر شرّير، بل لأنّه مرآة تُرينا ما لا نحتمل رؤيته في أنفسنا. وهكذا يصبح وجود الإنسان الواعي جحيمًا للمزيفين، لأنه يعكس لهم بؤسهم العقلي والروحي. فكلّ من يراك بعمقٍ يشعر أنّه عارٍ من الداخل، وأنّ ابتسامتك الهادئة هي في جوهرها نقدٌ صامت لضحالة وجوده.
وفي نهاية المطاف، من يملك وعيًا متقدًا لا يحتاج إلى صراعٍ ليكشف غباء الآخرين؛ فحضوره وحده كافٍ. الوعي، في جوهره، لا يصرخ ولا يجادل، بل يسطع. ومن لا يحتمل سطوعه، فذلك شأنه لا شأنك. فوجودك ليس استفزازًا، بل اختبارٌ لمستوى وعيهم.
فأنت لست من يذكّرهم بغبائهم، بل غباؤهم هو الذي يستفيق حين تمرّ أمامهم.



















