شيلر بين الحسّ والفطرة: جدلية الشعر والعقل في تأسيس الجمال الإنساني:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
يقف يوهان كريستوف فريدريش فون شيلر (1759–1805) في قلب المشهد الفلسفي والأدبي الألماني، كشاعرٍ ومفكّرٍ جمع بين وهج الحسّ وصرامة العقل، وبين رهافة الخيال وانضباط الفكرة. هو الشاعر الذي آمن بأن الشعر لا يُكتب بالحبر وحده، بل بالدم والروح، وأن الفن ليس ترفاً وجمالاً محضاً، بل وسيلة لتحرير الإنسان من قيوده الداخلية، وجسرٌ بين الطبيعة والعقل.
لقد كان شيلر مع غوته رائدَي الكلاسيكية الألمانية، وهي مرحلة سعت إلى تحقيق التوازن بين النزعة العقلانية لعصر التنوير والعاطفة الجياشة التي حملها التيار الرومانسي اللاحق. غير أن ما يميّز شيلر هو عمقه الفلسفي، الذي تبلور في تأملاته حول الفن والشعر، وخاصة في كتابه «عن الشعر الحسّاس والشعر الفطري»، حيث صاغ جدليةً فريدة بين نوعين من الشاعرية: شاعرٍ يُنصت إلى الطبيعة في عفويتها الأولى، وآخرٍ يصوغ الجمال بوعيٍ فلسفيٍ متعالٍ.
–أولاً: بين الحسّ والفطرة – مفهوم الثنائية الشعرية عند شيلر
يطرح شيلر في هذا النص الفلسفي تمييزاً دقيقاً بين الشاعر الفطري والشاعر الحساس .
الشاعر الفطري هو الذي ينتمي إلى الطبيعة دون وساطةٍ أو وعيٍ فلسفي، يعيش فيها كما يعيش الطفل في عالمه الأول، يرى الجمال بوصفه حقيقةً قائمة لا تحتاج إلى تفسير. هذا الشاعر، في نظر شيلر، هو ابن البراءة الأولى، كهوميروس أو شكسبير، منسجم مع الوجود في بساطته، لا يفصل بين الفعل والإحساس.
أمّا الشاعر الحساس فهو ابنُ الحداثة، ابنُ القلق والوعي، يعيش انفصالاً مؤلماً بين ذاته والعالم، يحاول استعادة الطبيعة المفقودة لا بعيشها بل بتأملها. هو شاعر الوعي والاغتراب، الذي يحوّل الجمال إلى فكرة، والعاطفة إلى معرفة.
في هذه الثنائية يرى شيلر أن الشعر في جوهره رحلة بين البراءة والفكر، بين الطبيعة والوعي، وأن مهمة الفن تكمن في التوفيق بين الإنسان الطبيعي والإنسان العقلي — وهي الرؤية ذاتها التي تبنّاها إيمانويل كانط في مشروعه الجمالي حين جعل الجمال وسيطًا بين الحسّ والعقل.
-ثانياً: شيلر والفن كطريق للتحرر الإنساني
من وجهة نظر شيلر، لا يُقاس الفن بجماله الخارجي، بل بقدرته على تحرير الإنسان من الضرورة. ففي كتابه “رسائل في التربية الجمالية للإنسان”، يؤكد أن الإنسان لا يصبح حرًّا إلا حين يُصالح بين جانبه الغريزي (الطبيعي) وجانبه العقلي (الأخلاقي)، وأن الفن هو الحيّز الوحيد الذي يمكن فيه تحقيق هذه المصالحة.
لقد رأى شيلر أن الجمال يعلّم الإنسان كيف يكون حُرًّا دون عنف، وكيف يعيش الأخلاق دون قسر. فهو يدعو إلى تربية جمالية تسبق التربية السياسية، لأن الجمال وحده يفتح القلب قبل أن يُقنع العقل. في هذا السياق، يصبح الشعر — سواء أكان فطريًّا أم حسّاسًا — فعلاً أخلاقيًّا بقدر ما هو فنيّ، لأنه يعيد الإنسان إلى إنسانيته المفقودة.
-ثالثاً: شيلر وغوته – الجدل الخلاق بين الشعر والعقل
العلاقة بين شيلر وغوته لم تكن صداقة فكرية فحسب، بل كانت لقاء بين فلسفة الجمال وتجربة الحياة. غوته كان يرى في الطبيعة انسجاماً جوهريًّا، أما شيلر فكان يدرك التمزق الذي يعانيه الإنسان المعاصر. ومع ذلك، وجد كلاهما في الشعر وسيلة لترميم هذا الانفصال.
كتب غوته إلى شيلر قائلاً: «لقد كنتَ تُفكّر حيث كنتُ أرى»، وهي عبارة تختصر العلاقة بين الحسّ والفكر في تجربتهما المشتركة. من خلال هذا الحوار، نشأت الكلاسيكية الألمانية كتيارٍ يسعى إلى إرساء التوازن بين الوجدان والعقل، بين الفن والفكر، بين الحرية والنظام.
-رابعاً: الشعر كمرآة للوجود والإنسان
في نظر شيلر، الشعر ليس محاكاة للعالم، بل تجسيد لجوهره. فالشاعر الفطري يُعبّر عن انسجام الكون، بينما الشاعر الحساس يُعبّر عن شتاته. وكلاهما، في النهاية، يسعيان إلى إعادة بناء الكينونة الإنسانية.
لقد أدرك شيلر أن الإنسان الحديث يعيش في انقسامٍ دائم بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الطبيعة والحضارة، بين العاطفة والعقل. لذلك فإن الشعر، كما يرى، هو الوسيلة التي يُعيد بها الإنسان اكتشاف ذاته الضائعة.
هنا تتقاطع فلسفة شيلر مع رؤية مارتن هايدغر في القرن العشرين، حين اعتبر الشعر بيت الوجود، أي المكان الذي تسكن فيه اللغة لتكشف عن حقيقة الكينونة. كلاهما، وإن اختلف الزمن، يؤمن أن الشعر ليس مجرد فنّ، بل وجودٌ متكلّم.
–خامساُ: من الشعر إلى التاريخ – البعد الإنساني في مسرحيات شيلر
لم يكتف شيلر بالتنظير، بل جسّد أفكاره في مسرحياته التاريخية مثل “فالنشتاين”، “ماريا ستيوارت”, “عذراء أورليان”, و*”فيلهلم تل”*. في هذه الأعمال نلمس عمق فكره الإنساني، إذ لم يكن التاريخ لديه سردًا للأحداث، بل تجسيدًا لصراع الحرية مع الضرورة.
إن شخصياته — من اللصوص إلى الثوار — تبحث دائمًا عن خلاصٍ روحي وجمالي في عالمٍ يمزّقه القهر. وكأن شيلر أراد القول إن الفن، حتى وهو يصف الألم، يُعيد للإنسان قدرته على الحلم.
-الخاتمة:
في فلسفة شيلر، يتجلّى الشعر كحركة مزدوجة: من الطبيعة نحو الوعي، ومن الوعي نحو الحرية. فالشاعر الفطري يذكّرنا بجمال الأصل، والشاعر الحساس يُعيد إلينا وعي الفقد، وكلاهما يكمّل الآخر في بناء الجمال الإنساني.
لقد آمن شيلر بأن الإنسان لا يكون حرًّا إلا حين يُدرك الجمال بوصفه فعلاً أخلاقيًّا، وأن الشعر، في جوهره، هو رحلة تحرّر من قيود المادة والضرورة نحو رحابة الروح. وهكذا، يصبح الفن عنده ليس زينة للحياة، بل شرطًا لوجودٍ أكثر اكتمالاً وعدلاً وجمالاً.


















