سيكولوجية الإبداع: من انفعال الذات إلى تفجّر الفكرة — قراءة في أطروحات جميل عبد الغني ومصري حنورة وشاكر عبد الحميد ويحيى الرخاوي:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
يُعدّ الإبداع ظاهرة مركّبة تتجاوز حدود الموهبة لتغدو ميدانًا خصبًا لتفاعل النفس والعقل والوجدان. ومن هنا نشأ علم نفس الإبداع (سيكولوجية الإبداع) بوصفه محاولة علمية وفلسفية لفهم كيف يولد الجديد في النفس الإنسانية، وكيف تتحول الطاقة الانفعالية والخيالية إلى صورة أو فكرة أو عمل فني. لقد تناول العديد من الباحثين العرب هذا الحقل المهم من زوايا متعدّدة، ومن أبرزهم جميل عبد الغني، وتلميذه الدكتور مصري حنورة، والدكتور شاكر عبد الحميد، والدكتور يحيى الرخاوي، الذين أسّسوا معاً رؤية عربية أصيلة تزاوج بين التحليل النفسي، وعلم الجمال، والفكر الوجودي.
أولاً: جميل عبد الغني — الرائد الذي أعاد للإبداع روحه النفسية.
يُعدّ جميل عبد الغني من أوائل من وضعوا لبنات علم نفس الإبداع في الوطن العربي. فقد نظر إلى الإبداع بوصفه تجلياً لفاعلية اللاشعور في توجيه الطاقة الخيالية نحو التوليد والتجاوز. يرى عبد الغني أنّ الإبداع لا يمكن أن يُدرَك إلا في ضوء العلاقة بين التوتر الداخلي والقدرة على التحويل الرمزي، أي أن الإبداع ليس راحة بل ألم يُعاد تشكيله جمالياً.
يقول في إحدى محاضراته: «المبدع هو من يملك شجاعة الدخول في فوضى اللاوعي دون أن يفقد اتزانه في الواقع».
وقد أثّر هذا التصوّر في تلميذه الدكتور مصري حنورة، الذي طوّر رؤيته نحو تأسيس ما سمّاه بـ”النظام السيكولوجي المفتوح للإبداع”، حيث يكون الإنسان في حالة تفاعل دائم بين ذاته المبدعة ومجتمعه المتغير.
ثانياً: مصري حنورة — نحو فهم دينامي للإبداع.
يرى الدكتور مصري حنورة أن الإبداع حركة مستمرة بين الانفعال والتفكير، وأن المبدع يعيش حالة من “القلق البنّاء” الذي يحرّكه نحو البحث عن حلول جديدة. وهو يؤكد أن الإبداع ليس سلوكاً نخبوياً بل قدرة كامنة في كل إنسان، تحتاج إلى بيئة تسمح بالتعبير والاختلاف.
وقد تأثر حنورة في منهجه بالتحليل النفسي الفرويدي واليونغي، خصوصاً في ربطه بين الرموز اللاشعورية والإنتاج الفني. ويدعو في بحوثه إلى فهم المبدع من داخل تجربته، لا من خلال المقاييس الموضوعية وحدها، قائلاً: «كل مبدع يحمل عالماً داخلياً يصنع لغته الخاصة، ومهمتنا أن نصغي لا أن نحكم».
ثالثاً: شاكر عبد الحميد — الجمال كوظيفة نفسية.
أما الدكتور شاكر عبد الحميد (1952–2021)، فقد قدّم إسهاماً تأسيسياً في حقل سيكولوجية الإبداع من خلال مؤلفاته الرائدة مثل «الخيال» و*«علم نفس الإبداع»* و*«الفن والجنون»*.
يرى شاكر أنّ الإبداع يتأسس على الخيال الخلّاق، ذلك الذي لا يكتفي بالهروب من الواقع، بل يعيد تشكيله على نحو أكثر عمقاً وثراءً.
يقول في كتابه «الخيال»:
«إن الخيال ليس مجرد ترفٍ جمالي، بل هو طاقة معرفية تسعى إلى تنظيم الفوضى في داخل الإنسان والعالم».
كما أكّد أن العمليات الإبداعية تمرّ بمراحل متعاقبة: الإعداد، الكمون، الإشراق، والتحقّق، وهي مراحل تتشابك فيها وظائف الوعي واللاوعي، الانفعال والعقل، ليولد منها “المنتج الجمالي” بوصفه خلاصاً نفسياً وفكرياً في آنٍ واحد.
-رابعاً: يحيى الرخاوي — الإبداع كحالة وجودية.
أما الدكتور يحيى الرخاوي، الطبيب والمفكر النفسي المصري، فقد منح سيكولوجية الإبداع بعداً وجودياً وإنسانياً عميقاً. فهو يرى أن الإبداع ليس مجرّد إنتاج جديد، بل فعل مقاومة ضد الموت والعبث، وأن المبدع هو الكائن الذي يخلق توازنه في مواجهة الفناء بالخلق المستمر.
في كتابه «الإنسان بين الجوهر والمظهر»، يكتب الرخاوي:
«الإبداع هو محاولة الإنسان استعادة معنى وجوده، حين تضيق به المعاني الجاهزة.»
ويرى أن العلاقة بين الجنون والإبداع ليست علاقة مرضية، بل هي حدود متداخلة بين أقصى درجات الوعي وأقصى درجات الحرية، وهو ما يجعله يلتقي مع أطروحات نيتشه ويونغ وكيركغارد في جعل الإبداع فعلاً أنطولوجياً لا نفسياً فحسب.
خامساً: بين العلم والفلسفة — نحو رؤية تكاملية.
إنّ قراءة إسهامات هؤلاء المفكرين الأربعة تكشف أنّ الإبداع ليس نتاج عبقرية فردية معزولة، بل فعل تفاعل بين البنية النفسية والعالم الخارجي.
فالإبداع عندهم حالة من التوتر الخلّاق بين الانغلاق والانفتاح، بين الداخل والخارج، بين الواقع والحلم.
ويرى شاكر عبد الحميد أن «البيئة التي تكبت الخيال تقتل المبدع قبل أن يولد»، فيما يضيف الرخاوي أن «الإنسان لا يبدع إلا حين يرفض السائد ويغامر بالخروج عن الجماعة».
هذه الرؤية تضع الإبداع في قلب التجربة الإنسانية، بوصفه سبيلاً للتحرر والمعرفة والوجود، لا مجرّد إنتاج فني أو علمي.
إنّ سيكولوجية الإبداع، في جوهرها، هي سيكولوجية الحرية — حرية الذات في مواجهة القيد، وحرية العقل في مواجهة الجهل، وحرية الجمال في مواجهة القبح.
خاتمة:
لقد أسهم كلّ من جميل عبد الغني، ومصري حنورة، وشاكر عبد الحميد، ويحيى الرخاوي في ترسيخ ملامح مدرسة عربية متميزة في سيكولوجية الإبداع، جمعت بين العلم والتجربة الوجودية، وبين التحليل النفسي والفلسفة الإنسانية.
فالإبداع، في النهاية، ليس موهبة عابرة، بل رحلة الإنسان نحو اكتشاف ذاته في مرآة الخيال، رحلة تبدأ من الاضطراب وتنتهي بالخلق، ومن العزلة إلى النور، ومن الجرح إلى القصيدة.



















