“فلسفة المخرج محمد مفتكر في صناعة الأفلام”
فلسفة محمد مفتكر في صناعة الأفلام تتجاوز مجرد سرد القصص، وهي ترتكز على مبادئ فنية ووجودية محددة.
السينما كوسيلة للإحساس وليس للفهم
هذه هي ربما النقطة الأكثر مركزية في فلسفته:
الأولوية للشعور: يرى مفتكر أن هدف السينما ليس أن تفهم بالمنطق، بل أن تحس بالوجدان. هو يصنع أفلاما لتخلق مادة للإحساس والمشاعر عند المتفرج.
تجاوز الحكاية: يعتبر أن القصة أو الحكاية ليست سوى ذريعة للوصول إلى مستوى أعلى من التعبير، وهو التعبير بالصورة والصوت والإيقاع.
التحرر من النمطية والخطية
تفكيك السرد الكلاسيكي: يؤمن بضرورة تفجير القوالب السردية الجاهزة التي تعتمد على البداية والوسط والنهاية الواضحة. يفضل السرد الذي يتداخل فيه الواقع بالحلم، والماضي بالحاضر، لإعطاء بعد سيكولوجي أعمق.
السينما ضد الثرثرة: ينتقد الأفلام التي تعتمد على الحوار المفرط لتفسير الأحداث. بالنسبة له، الصورة وحدها يجب أن تحمل المعنى.
العودة إلى الجذور والأصل الإنساني
الطفولة والذاكرة: يغوص مفتكر بشكل متكرر في مواضيع الطفولة، الذاكرة، والعلاقة الأبوية (كما في ثلاثيته). هو يستخدم ذكرياته وتجاربه الشخصية كـ “مختبر” لاستخراج القضايا الكونية الكبرى.
الجسد كأرشيف: ينظر إلى الجسد ليس كـ “إطار” بل كـ أرشيف للتجارب والصدمات. حركة الجسد وتعابيره في أفلامه تحمل ثقلا دراميا هائلا.
التناقضات الإنسانية والرمزية
الجمع بين المتضادات: تعتمد أفلامه على تيمة التناقض؛ مثل التناقض بين الحب والكره، النور والظلام، الفرح والحزن، والعمى (الحقيقي والمجازي). هذا التناقض يخدم الفكرة الفلسفية التي تقول إن الحياة غير مكتملة دون هذه الثنائيات.
توظيف الرموز: يستخدم مفتكر الرموز البصرية بشكل مكثف (مثل التفاح، الجوق الموسيقي,الحصان، أو الأقنعة في فيلمه الجديد) لتحميل المشهد معاني تتجاوز ظاهره.
السينما كـ “فعل ثقافي”
مسؤولية المخرج: يرفض مفتكر النظرة التجارية الصرفة للسينما. هو يرى أن صناعة الأفلام هي فعل ثقافي يساهم في رقي الذوق والوعي، وأن على المخرج أن يقدم رؤية جريئة ومختلفة عن السائد، حتى لو لم تحقق نجاحا جماهيريا واسعا فورا.
فلسفة مفتكر هي فلسفة الجمالية الرمزية والعمق الوجودي. يريد أن يأخذ المتفرج في رحلة شعورية وفكرية، وليس فقط ترفيهية، باستخدام الصورة كأداة أساسية لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه عبر عدسة الذاكرة والإحساس.
لكي نفهم هذه الفلسفة يجب التطرق إلى تحليل جل أعماله السينمائية:
فيلم “جوق العميين” (صدر 2015)
فيلم “جوق العميين” هو تجسيد حي للفلسفة الإخراجية لمحمد مفتكر، حيث استخدم فيه قصة مستوحاة من طفولته (وفقدان والده) كمنصة لإطلاق أفكار فلسفية وسياسية واجتماعية عميقة.
فلسفة العمى البصري والعمى المجازي:
العمى الحقيقي والمتصنع (البعد الاجتماعي): تدور القصة حول فرقة موسيقية شعبية (جوق) يضطر أعضاؤها الذكور إلى التظاهر بالعمى في الحفلات والأعراس العائلية المحافظة، كاشفاً عن رقابة اجتماعية خانقة على “النظر”.
العمى السياسي والاجتماعي (البعد السيكولوجي): ينظر إلى “العمى” هنا كرمز لـ العمى السياسي والاجتماعي في فترة السبعينيات بالمغرب (عمى العشق، عمى اليسار).
توظيف الذاكرة والطفولة: تروى القصة من منظور الطفل الذي يمنح الفيلم براءة وبعداً شعرياً، وهي تصفية حساب مع الأب وفعل تحرر من ثقل فقدانه.
البعد الجمالي والفني: الموسيقى الشعبية هي لغة الفيلم الأساسية، والفيلم يعتمد على تشبيك مصائر الشخصيات بتفاصيل صغيرة تدفع الأحداث نحو الحسم، تطبيقاً لمبدأ الإحساس قبل الفهم.
فيلم “البراق”
ينقل الفيلم المشاهد من مجرد متابعة قصة إلى تجربة وجودية تطرح أسئلة جوهرية حول الهوية، الجندر، وعبء الذاكرة.
فلسفة الهوية والجسد المضطهد: الفكرة المركزية هي العيش بهوية مزيفة (الأب يخفي جنس ابنته ويجعلها ذكرا). هذا يطرح سؤالا فلسفيا حول الوجود الأصيل مقابل الوجود القسري، مشابها لمفهوم “سوء النية” عند سارتر.
اللاشعور كعدسة والرمزية اليونغية: اختيار المخرج لوضع الكاميرا في “لاشعور الشخصية الرئيسية” هو اعتراف ضمني بفلسفة التحليل النفسي. الفيلم لا يروي الأحداث كما وقعت، بل كما ترسخت في ذاكرة ووعي ريحانة المشوه بفعل الصدمة.
رمزية الحصان في فلسفة محمد مفتكر: (فيلم البراق نموذجا)
تعد رمزية الحصان في فيلم “البراق” (الذي يحمل عنوانا مزدوجا يشير إلى أسطورة يونانية ومعتقد إسلامي) من أبرز تجليات فلسفة الرمزية الوجودية لمفتكر، وهي رمزية تتجاوز مجرد كونه حيوانا عاديا لتصبح “نموذجا أصليا” له دلالات نفسية عميقة.
الحصان كرمز للسلطة والأبوة القامعة
النموذج الأصلي القامع: يمثل الحصان في “البراق” أولا سلطة الأب والقوة الذكورية التقليدية التي تفرض على ريحانة هويتها المزيفة كذكر. يصبح الحصان رمزا للسلطة الأبوية التي لم تكتف بالسيطرة على جسد ريحانة، بل دمرتها نفسيا ووجوديا.
التحكم والقمع الجسدي: ينظر إليه على أنه الأداة البصرية التي تجسد القمع والسيطرة، حيث يربط به معنى العبء والثقل الملازم لوجود ريحانة المقنع.
الحصان كعنصر في اللاوعي والذاكرة الصادمة
الملاحقة النفسية: الحصان ليس مجرد كائن خارجي؛ بل يصبح كابوسا أو صورة ذهنية مطاردة تترسخ في اللاشعور لدى الشخصية الرئيسية، مجسدا الصدمة النفسية العميقة التي تعاني منها.
أرشيف الجسد: ينظر مفتكر إلى الجسد كأرشيف؛ وحركة الحصان وظهوره المفاجئ في الفيلم يعكسان انفجار هذا الأرشيف الذي يحوي تجربة ريحانة المؤلمة وذكريات القمع.
الحصان كرمز للتحرر والأمل (البراق)
الازدواجية الرمزية: يكمن عمق الرمزية في طبيعته المزدوجة، فكما يمثل الحصان القمع (عبر ارتباطه بالقوة الأبوية)، فإنه يمثل أيضا الإمكانية للتحرر والهروب.
التحليق فوق الواقع: العنوان (البراق/بيكاس) يشير إلى الحصان المجنح الذي يملك القدرة على التحليق والطيران. هذا التحليق يمثل الأمل في قدرة ريحانة على التحرر من قيود الجندر والهوية المزيفة، والتحليق فوق قمع الواقع الذي تعيشه.
دعوة “حلي عينيك”: يرتبط الرمز هنا
حين يغادر من لا يغادر /سعيد إبراهيم زعلوك
حين يُغادِرُ من لا يُغادِر كأنكَ لم تكنْ شخصًا... بل الوطنُ كأنكَ الوقتُ في عيني، إذا سَكَنُوا، سَكَنْ غادرتَ... لكنَّ...
اقرأ المزيد



















