حين تتكلّم المدن… ويصغي المجنون
تبارك الياسين تحاور الكاتب محمد صوالحة
في مذكرات مجنون في مدن مجنونة ، يأخذنا الكاتب الأردني محمد صوالحة في رحلة رحلية نابضة بين مدن عربية كعمّان ودمشق وبغداد والقاهرة، حيث يمتزج السرد بالشعر، والواقع بالخيال، والاغتراب بنبض الشارع. ليست هذه المذكرات مجرد وصف لأمكنة، بل قراءة لجنون العالم من عيون إنسان تائه يسائل المدن وتساءله. بكتابة ساخرة وعميقة، يصنع صوالحة مرآة يكشف فيها كيف نصنع المدن… وكيف تصنعنا.
1- في روايتك، يتنقّل البطل بين عدد من المدن العربية، ما أبرز المدن التي جعلته يزورها؟ وكيف سعيت إلى وصف كل مدينة من حيث جمالها، سواء كان جمالاً ربانياً نابعاً من الطبيعة أم جمالاً صناعياً صنعه الإنسان؟
ج _ ربّما كانت هواية غرست في النفس منذ الطفولة، وغذّاها ما كنت أقرأ عن تلك البلاد، فكان لي أن أشدّ إليها الرحال حيث كانت البداية مع مصر العربية، لم أحبَّ زيارة مراكز المدن، وكنت أعشق زيارة الأطراف حيث الإنسان أكثر بساطة، وحيث التلقائية تضفي نوعا من الجمال على المكان، وكنت دوما أفضل أنْ أترك الطفل بداخلي يتصرف بحريته، لا ضابط عليه، على أن لا يتجاوز حدود ما تربى عليه الطفل الكبير/البطل. وربّما كانت زيارة القاهرة هي الدافع الكبير لتكرار التجربة، ما همتني العناوين الكبيرة وكنت أبحث عن التفاصيل الصغيرة التي قد لا تعني لأحد شيئا، فكررت التجربة. وربّما كانت جنون المدينة هو حالة التطوّر السريع والانفتاح الأسرع وضعف بعض ما كان يميز تلك المدن، أمّا جنون البطل فكان -كما ذكرت سابقا- ترك الطفل يتصرّف بداخله حريته.
2. زيارة البطل للمدينة المنوّرة تتزامن مع أحداث اجتياح صدام حسين للكويت، كيف ربطت بين الحدث السياسي والتجربة الشخصية للبطل؟ وما الذي أضفاه هذا التزامن على البعد التاريخي في الرواية؟
ج2 _ ربّما هي حالة التوتر التي سادت المنطقة وشعوبها في تلك الفترة الزمنية الصعبة، وكلّ شخص يرى الحالة التي فرضت ذاتها بعينه، ونتيجة التعامل التي صادفت البطل من كرم، ومن توتر هي التي فرضت نفسها، المادة التي اختصّت بزيارة المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وعلى حالة الانبهار بتلك المدينة التي تطورت وتتطور بشكل سريع.
3.الحوارات في الرواية، سواء الخارجية بين الشخصيات أو الداخلية التي تدور في ذهن البطل، لعبت دوراً لافتاً في السرد. كيف تعاملت مع هذين النوعين من الحوار أثناء الكتابة؟ وهل يمكن أن تذكر مثالاً من إحدى المدن التي زارها البطل؟
ج3_ قبل الإجابة على هذا السؤال -وربما تكون هي الاجابة فالحوارات الخارجية كانت من وحي الخيال فرضتها لحظة الكتابة، ولأني لم أكن أنوي كتابة مذكرات وكنت أحب كتابة عمل سردي أو روائي كانت الحوارات الخارجية بلغة المثقفين (الديالوج) تأتي تلقائية، أما الحوارات الداخلية (المونولوج) فقد كانت غير ذلك. ولا ننسى أنّ كتابة المذكرات عن تلك المدن جاءت بعد الزيارة بما لا يقلّ عن خمسة عشر عاما.
4. العنوان “مذكّرات مجنون في مدن مجنونة” يحمل دلالات نفسية ورمزية عميقة. هل كان الجنون هنا رمزاً لاضطراب الواقع العربي أم لحالة البطل النفسية؟ وكيف أردت أن يعكس العنوان ذاكرة البطل وانطباعاته عن المدن؟
ج4_ ربمّا كان لحالة الاضطراب في الواقع العربي التي أثّرت على وعي الكاتب في هذه التسمية، وأيضا كما ذكرت سابقا حالة الانبهار التي سيطرت على الكاتب في الحالة التي أصبحت عليها تلك المدن والاختلاف في طباع وعادات ساكنيها التي أصبحت تسمى (رجعية سببا من أسباب وصفها بالمجنونة، كما أنّ الاختلاف الكبير الذي طرأ على تلك المدن خلال فترة قصيرة زمنيا وعلى سكانها سبب أساس في وصفها بالمجنونة، وفي لحظات العودة إلى تاريخ تلك المدن وما قدمته للبشرية، ووضعُها الحالي حيث اعتمدت على التقليد بدلا عن الابتكار، والاهتمام بالقشور بدل الإضافة للجذور، كانت أيضا سببا من أسباب وصفها بالجنون، أما بالنسبة للبطل، كان بحثه في التفاصيل وتركيزه على تلك التفاصيل الصغيرة خاصة. بالإضافة إلى منح الصغير الذي يسكن ذلك الطفل الكبير الإفصاحَ عما يسكنه ضمن ضوابط، واحتفاظ البطل بحالة التمرّد التي سكنته وتسكنه حبيسة نفسه.
5_ تُظهر الرواية مزيجاً بين الجغرافيا والتاريخ، خصوصاً في رحلات البطل إلى الأردن ودمشق. كيف سعيت إلى الدمج بين هذين البعدين لتشكيل مفهوم “الأوطان” في الرواية؟
ج5_ أستاذتي الفاضلة، لديّ قناعة تامة ويقين إيماني بأنه لا تاريخ بلا جغرافيا، والجغرافيا لا تعني شيئا بدون الإنسان، فسواء في سوريا أو الأردن أو أغلب المدن التي زرتها كان للتاريخ مكانه المرتبط بالجغرافيا والإنسان، فحين دخلت البتراء أوّل مرة راحت تتداعي بعض التفاصيل من التاريخ الذي كتبته هذه المدن والحالة التي بتنا عليها، فالبتراء حين شعرت بالخيانة اختفت تحت التراب ألف عام ويزيد. وما ينطبق على البتراء ينطبق على كل الأمكنة التي زرتها.
6_كيف ترى أن الاستطراد في السرد ساعد في إبراز تفاصيل المدن مثل بيروت وبغداد وجعلها تنبض بالحياة؟
ج6_ بيروت مدينة مختلفة (وهنا بيروت كمكز للبنان الدولة)، وليست بيروت بحد ذاتها فهي مدهشة بكل تفاصيلها، فكل مكان فيها، وكل حارة وحي وشارع فيها يفرض عليك الاستطراد لما تحمله من تاريخ وجمال طبيعي وطيب التعامل مع إنسانها الذي اعتبره الأكرم عربيا، وأرض ضاربة جذورها في قلب التاريخ، فكل قلعة أو بيت يحدّثك ويفرض عليك الإسهاب في الحديث عنه، أما بغداد حقا أعترف بأني عجزت عن الكتابة عنها. وللعلم كثيرون سألوني لمَ كتبت عن هذه المدن ولم تكتب عن عماّن، ولم أجد إجابة عنها إلا بسؤال آخر: كيف يمكن للإنسان أن يكتب عن نفسه أو عن أمه وحنانها وعطائها.
بيروت وصيفة عمان (بمعني سيدة المدن وولية عهدها). عمان كانت ثم جاءت بيروت، وبعدها بالآلاف الأجيال ولدت بقية المدن.
7.هل تعتبر روايتك امتداداً لأدب الرحلات العربي التقليدي على نهج ابن بطوطة وابن جبير؟ أم أنك حاولت ابتكار شكل جديد من الرحلة يعتمد على التقنيات الروائية الحديثة كالحوار الداخلي وتعدد الأصوات؟
ج7_ لا أحب التصنيفات ولا أن أحشر في زاوية معينة، هنا أترك للقارئ حرية التصنيف حسبما يراه، ما عليّ فعلته وأخرجته للعلن وعلى المهتم أن يضعه أو يصنفه كما يحب، فبعض النقاد صنفها رواية، وبعضهم الآخر صنفها أدب رحلات، وبعضهم صنفها أدب السيرة الذاتية المندمجة مع سيرة المكان، وفي الواقع أخذت من كل صنف جزءًا، فمن الرواية أخذت النفس، ومن السيرة الذاتية أخذت جزءًا ومن أدب الرحلات جزءًا آخر ، فخرج العمل كما رأيته.
8_ نلمس في الرواية بساطة وتلقائية في وصفك للمدن وللناس، هل هذه البساطة تعكس شخصيتك أنت كما تظهر في صفحتك “آفاق حرة”؟ وهل تعتبر هذا الجانب جزءاً من فلسفتك في الكتابة؟
ج8_ ليست فلسفتي في الكتابة فقط، ولكنها فلسفتي في الحياة ككل، فأنا أعيش البساطة في حياتي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لأني أرى البساطة تعني الصدق في الحياة وفي التعامل مع الآخر والأشياء.
9. تتكرر فكرة “المدن المجنونة” في النص، ما المقصود بهذا الجنون؟ وهل هو نقد للواقع العربي المعاصر أم انعكاس لتشوّش الذاكرة واغتراب الإنسان؟
ج9 _ المقصود بالجنون هنا هو القفز المبرر والمنطقي حينا واللامنطقي في أحيان كثيرة، هذا الجنون المنعكس من الواقع العربي المتردّي، حاولت هذه المدن أن تغطيه في قفزات متتالية، ربمّا كان هذا القفز على حساب الإنسان الذي مارس هذا الجنون للتغطية على انهياره وترديه الداخلي.
تبارك الياسين تحاور محمد صوالحة
حين تتكلّم المدن… ويصغي المجنون تبارك الياسين تحاور الكاتب محمد صوالحة في مذكرات مجنون في مدن مجنونة ، يأخذنا...
اقرأ المزيد


















