هابيل وقابيل
منذ اللحظة التي انبثق فيها الوجود، لم يولد الإنسان كيانًا مكتملًا، بل تجسّد كمعادلة غير محسومة. فهو ليس خيرًا خالصًا ولا شرًا خالصًا، بل حقل توتر دائم بين قوتين متعارضتين تتنازعان جوهره.
إن ما نسميه “الخير” و“الشر” ليسا كيانين منفصلين، بل وجهان لطاقة واحدة تتجلى فينا بصورتين مختلفتين: قوة البناء وقوة الهدم.
وهذا التوأم المتصارع ليس شيئًا نكتسبه من الخارج بل يولد معنا، كما يولد النور مع الظل، وكأن الخليقة قررت أن تضع في الإنسان بذرة الخلاف منذ اللحظة الأولى كي يبقى السؤال مفتوحًا: ماذا سنفعل بحريتنا؟
إن قابيل وهابيل في داخلنا ليسا شخصيتين تاريخيتين، بل رمزين لمنطقين يتناوبان السيطرة:
منطق يريد أن يحفظ الحياة ويهبها معنى،
ومنطق يريد أن يفرض سلطته ولو على حساب كل شيء.
ولهذا، فإن الصراع البشري الخارجي ليس إلا صدى لصراع أعمق، صراع يسبق اللغة والوعي، صراع بين رغبة الإنسان في السمو ورغبته في الامتلاك.
ويخطئ من يظن أن هذا الصراع يمكن حسمه. فلو انتصر جانب واحد انتصارًا مطلقًا، لانتهت التجربة الإنسانية ذاتها:
لو ساد الخير بالكامل لتحوّل الإنسان إلى ملاك بلا إرادة،
ولو ساد الشر لانطفأت إمكانية الأخلاق من جذورها.
إن القيمة الحقيقية تكمن في المسافة بين القوتين، في تلك المنطقة الرمادية التي تُختبر فيها إرادتنا، وحيث تتشكل أخلاقنا واختياراتنا.
الصراع الأبدي إذن ليس لعنة، بل امتحان جوهري، جوهر إنسانيتنا نفسها.
فمن دون هذا الانقسام الداخلي، ما كان بإمكان الإنسان أن يسأل، أن يشك، أن يختار، أو أن يتحمل مسؤولية ذاته.
إنه الصراع الذي لا يتوقف، والذي بدأ مع الصرخة الأولى، وسيظل ملازمًا لنا ما دمنا كائنات قادرة على أن تقول: أنا.
فريدة توفيق الجوهري /لبنان


















