قراءة بعنوان الدلالات السيميائية لنص: الفاتورة
للقاص الأستاذ محمود أحمد علي.
بقلم الناقدة اللبنانية:
زينب الحسيني.
تمهيد: يقول المبدع يوسف إدريس في تعريف القصة القصيرة:
“إنها شكل فني مكثف وفعال للغاية، تشبه القنبلة الذرية التي تحتاج إلى موهبة لصياغتها كي تفتح آفاقا
في خيال المتلقي وفكره، ويجب أن تكون صادقة في تناول الواقع مع التركيز على القوة الإنفعالية وتجنب الزخرفة اللفظية التي تقتل الإنفعال”
النص هذا هو قصة قصيرة بديعة، مكثفة التعبير شيقة السرد، و سوف أحاول الإضاءة عليها شكلا ومضمونا.
– نبدأ بعتبة النص “فاتورة”
الفاتورة هي مستند تجاري يسلمه البائع للمشتري وتسجل فيه تفاصيل منتجات مباعة مع أسعارها وشروط الدفع.
العنوان “فاتورة” يترك المتلقي في شغف ليعرف ماهية هذه الفاتورة لكنه لا يكشف شيئا عن متن النص.
-الشخصيات الرئيسية :
-١ الزوج : وهو المريض الذي “ينطفىء رويدا رويدا” ونعرف انه كاتب يمتلك يراعا حرا و”يرفض دائما التصالح أو التسامح أو المقايضة على مصالح الوطن”
٢- الزوجة تكن لزوجها حبا
عظيما، ويؤلمها “انطفاؤه” فتخنقها عبراتها وتقول:
-ربنا يجعل يومي قبل يومك.
-شخصية ثانوية هي شخصية موظف الإستقبال.
– الحدث: نلاحظ تسارع الحدث في النص بدءا من العتبة الأولى للمتن وصولا
إلى القفلة وهذا شرط يميز القصة القصيرة، كما أن تسلسل الأحداث فيها محكم شيق السرد، وظفه الكاتب
لخدمة الحبكة الذكية، وبالتالي لخدمة الهدف أي (بؤرة النص) بغية إيصالها للمتلقي بلباقة وسلاسة.
**دراسة الدلالات السيميائية للقصة:
يوظف كاتبنا الدلالات السيميائية الإيحائية بغية إيصال الفكرة والتوصيف المراد، ونعرف بداية أن أهل البيت فقراء معوزون إذ أن (الشمعة الوحيدة داخل البيت راحت تبكي في صمت من آلام حرقتها) والزوجة “منهكة حد الإعياء” بسبب “انطفاء زوجها” وعازمة على إنقاذه ” من براثن المرض مهما كلفها الأمر ”
كل ما جاء في المتن يشي بأن مرض الزوج قديم، وأن كل “وعود الموظفين المتواصلة لعلاجه السريع على نفقة الدولة” قد باءت بالفشل، خلافا لاهتمام الدولة
“بالفنانين والفنانات، ولاعبي
كرة القدم”
وفيما نقرأ نطرح السؤال لم قلة الاهتمام هذه؟ لنقرأ جوابا تعرفه الزوجة تماما:
أن هذا التجاهل والتسويف
المتعمد يعود لأن الزوج/البطل هو (كما أسلفت) كاتب
حر القلم وقد جاءته
” تهديدات بالقتل، لأنه دائما يرفض التصالح أو التسامح
أو المقايضة على حساب مصالح الوطن..” ولم يبغ “يوما الغفران أو أن ينال حقه
من التكريم” وكان يقضي الليل ساهرا يكتب…
أما الزوجة فكانت لحرصها
على صحته ترجوه مرارا أن يتوقف عن الكتابة كي”ينام”
وتكون إجابته ” كيف أنام والقدس أسير”
ونتقدم في قراءة المتن ويحصل في المستشفى
أن يتجاهل الموظف اسم
الكاتب رغم انه معروف من خلال ما نشره و ينشره من كتب لا تعد، فترد الزوجة في غيظ:
” ألم تسمع عن كتاباته ؟”
فيجيب ” لا”
فتحس “أنها زهرة صبار تعيش بلا ماء…”
وعندما يفاجئها الموظف بطلبه ألفي جنيه لمعالجة زوجها، تصيبها صعقة؛ لأن
كل ما في جعبتها من مال
لا ينقذ زوجها!
وهنا تتأزم عقدة النص، ونحس بالالم والخيبة مما آل
إليه وضع البطل ذاك الكاتب الحر ، من حال مأساوية مستعصية الشفاء.
لكن الزوجة المتفانية لإنقاذ زوجها، ترى بابا للحل
وهو بيع ” الغوايش” التي تلبسها، وتعود بعدها وهي تحمل”الفاتورة” وثمن البيع،
وهنا يلتمع في ذهن المتلقي
العنوان/الفاتورة؛ الذي بقي
مستترا ليظهر فجأة.
أما الشخصية الثانوية وهي الموظف الحكومي، فيبدو أنه حقير لا يملك أية مشاعر إنسانية ، فقد ترك المريض في حالة تشبه الإغماء أو الموت في انتظار عودة الزوجة حاملة فلوس “الفاتورة” ومع قدوم الفاتورة،تحسنت سريرته ولان، وقال مرحبا:
-حالا…حالا…يا فندم
-الف سلامة.
ثم تحسنت المعاملة في المستشفى، واستقبل البطل بالترحاب..
وهنا تقترب الخاتمة :
فقد “راحت أصابع المريض/البطل، تتحرك في بطء شديد، ” وكان قد فقد قدرته
على الكلام ” فكتب لزوجته:
من فضلك إفتحي التلفاز على قناة الوحدة العربية.
فسمع:
الطائرات الإسرائيلية ما زالت
تحلق فوق سماء فلسطين،
تقصف بشدة مدينة(غزة)
التي تحولت شوارعها إلى برك من الدماء… هم يدفعون
بإرادتهم (فاتورة) نضالهم ضد
العدو ، وهنا يتبين لنا أن الفاتورة الأكبر والأغلى هي فاتورة الحرب والنضال والدماء… ثم تلتفت الزوجة
إلى زوجها “القابض بقوة فوق القلم” وكأنه الآلة الوحيدة التي لم يزل يمتلكها للنضال
وتقرأ في عينيه” دمعا هاربا
لم يستأذن بالرحيل…”
تنتهي القفلة لتفتح تساؤلات
وتساؤلات… عن حرب بدأت ولم تنته ولا انتهت تداعياتها
حتى اللحظة الراهنة .
وختاما، سأعقب على هذه القراءة بالقول بأن القصة رائعة وجد مؤثرة، كتبت بتوصيف واقعي متخيل، وإحساس إنساني شفيف ثري الدلالات والإيحاءات وبلغة مكثفة بليغة التعبير ، وظفها الكاتب ليصل إلى مبتغاه ، وهو القاص المعروف بامتهانه كتابة القص القصيرة الواقعية وبأدبه الملتزم الذي
يحاكي وجع الإنسان وقلقه
الوجودي في بحثه عن الحرية والعدالة والأمان، في زمن يسود فيه التوحش
وتسود شرائع الغاب؛ مما شوه وجه الإنسانية وعكر صفو الحياة والأمان والسلام..
تحياتي واحترامي للقاص المبدع الأستاذ محمود أحمد علي ، على هذه القصة الرائعة.

















