الدكتورة رشا علي الدين
أستاذ القانون الدولي الخاص، المحامية، والخبيرة التشريعية، واحدة من الأسماء التي استطاعت أن تجمع بين صرامة النص القانوني وحيوية الواقع العملي. حضورها لا يقتصر على قاعات المحاضرات أو صفحات البحوث، بل يمتد إلى ساحات التشريع، ومنصات التدريب القضائي، ودوائر صنع القرار القانوني في مصر والعالم العربي.
تنتمي الدكتورة رشا علي الدين إلى جيل قانوني آمن بأن المعرفة لا تكتمل إلا بالفعل، وبأن القانون ليس نصًا جامدًا بل أداة لحماية الإنسان وتنظيم حياته في عالم سريع التحول. تنقّلت بخبرتها بين الجامعة، والمحاماة، والاستشارات التشريعية، واللجان الوطنية، واكتسبت من التجربة الدولية بعدًا مقارنًا منح خطابها القانوني اتساعًا ومرونة.
في سيرتها المهنية محطات علمية وبحثية داخل مصر وخارجها، ومشاركات فاعلة في قضايا الإصلاح التشريعي، وملفات المرأة، والتحكيم، والاقتصاد الرقمي، إلى جانب نشاط تدريبي واسع مع القضاة وأعضاء الهيئات القضائية ومؤسسات الدولة. كل ذلك صنع شخصية قانونية حاضرة، تعرف كيف توازن بين النظرية والتطبيق، وبين النص وروحه.
ومن هنا كان لمجلة أزهار الحرف أن تحاور الدكتورة رشا علي الدين، وأن تقترب من تجربتها القانونية والإنسانية، وتتعرّف إلى رؤيتها لمستقبل القانون، ودور الأكاديمي والمحامي في صناعة الوعي وحماية العدالة، في حوار يفتح الأسئلة ولا يكتفي بالإجابات.
حاورتها روان أبو شقورة
—
■ س: يُقال إن الحياة العملية تختلف عن الحياة الأكاديمية الجامعية، فما مدى صحة هذا القول؟
ج: هذا القول صحيح إلى حدٍّ كبير، لكنه ليس حتميًا أو مطلقًا. فالحياة الجامعية تُقدّم الإطار النظري، والأسس الفكرية، والقيم الأكاديمية، بينما تفرض الحياة العملية أولويات مختلفة، مثل التنفيذ تحت ضغط الوقت والموارد، والتعامل مع أطراف متعددة المصالح. ويتمثل الدور الحاسم للجامعة اليوم في سد هذه الفجوة من خلال التركيز على دراسة الحالات العملية (Case Studies)، والتدريب الميداني (Internships)، وغرس المهارات الناعمة مثل التفاوض وصناعة القرار، إلى جانب البناء النظري الرصين.
■ س: تولّيتِ عدة مناصب إدارية في مراكز وكليات مختلفة، فما مقومات النجاح في المناصب الإدارية من واقع تجربتك؟
ج: النجاح الإداري لا يقوم على الجهد الفردي وحده، بل على منظومة متكاملة، في مقدمتها:
• وضوح الرؤية والاستراتيجية، من خلال تحديد أهداف قابلة للقياس والتنفيذ.
• فن التواصل والتفويض، القائم على الإصغاء، وبناء فرق عمل قوية، وتمكين الكفاءات.
• الشفافية والنزاهة، فهما الأساس الحقيقي لثقة الفريق والشركاء.
• المرونة والقدرة على اتخاذ القرار الصعب في التوقيت المناسب.
• التركيز على خدمة الهدف المؤسسي، بحيث تظل الإدارة وسيلة لتحقيق رسالة الكلية أو المركز، لا غاية في ذاتها.
■ س: الدول المتقدمة تدعم البحث العلمي بسخاء، فكيف ترين واقع البحث العلمي في الدول العربية عمومًا؟
ج: هناك إدراك متزايد لأهمية البحث العلمي في الدول العربية، إلا أن التحديات ما تزال كبيرة، أبرزها:
• ضعف التمويل، حيث لا تزال معظم الدول دون النسبة الموصى بها عالميًا من الناتج المحلي للبحث والتطوير.
• الفجوة بين البحث وسوق العمل، إذ لا تعالج كثير من الأبحاث مشكلات التنمية الفعلية أو تفتقر إلى آليات نقل المعرفة والتكنولوجيا.
• البيروقراطية وتعقيد الإجراءات، بما يثبط الابتكار.
• نقص حرية البحث في بعض المجالات الحساسة.
والنهوض الحقيقي يتطلب شراكة ثلاثية بين الجامعات بوصفها المنتج الفكري، والقطاع الصناعي والخاص كممول ومستفيد، والدولة باعتبارها المشرّع والداعم الاستراتيجي.
■ س: بصفتكِ حقوقية في مركز شؤون المرأة، ما أبرز المعوقات الواقعية التي تمنع المرأة من البوح بمشكلاتها؟
ج: تواجه المرأة عدة معوقات متشابكة، من أهمها:
• الموروث الاجتماعي والوصم المجتمعي والخوف من “العيب”.
• الثقافة الذكورية السائدة التي تُقلّل من شأن مشكلات المرأة أو تُحمّلها المسؤولية.
• الخوف من العواقب، خاصة الاقتصادية مثل فقدان مصدر الدخل، أو الاجتماعية كفقدان الحضانة أو الطلاق.
• ضعف الوعي بالحقوق وآليات الحماية القانونية.
• عدم الثقة الكافية في المؤسسات المعنية بالحماية أو الإنصاف.
■ س: هل نجحت التشريعات الحديثة في إزالة العنف والتمييز ضد المرأة، من واقع عضويتكِ باللجنة التشريعية بالمجلس القومي للمرأة؟
ج: التشريعات المصرية الحديثة، بما في ذلك تعديلات قانون العقوبات وتجريم ختان الإناث وتعزيز حماية الشهود والمبلّغين، تُعد خطوات إيجابية وجريئة. وقد أسهمت في:
• تجريم أفعال كانت محل تسامح مجتمعي سابقًا.
• تعزيز آليات الحماية، مثل أوامر الحماية للمعنّفات.
• التركيز على الوقاية والتوعية.
غير أن التحدي الحقيقي يظل في التطبيق الفعلي، وهو ما يتطلب تدريبًا مستمرًا للجهات التنفيذية، وتغييرًا ثقافيًا مجتمعيًا، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والمأوى الآمن للمعنّفات لتمكينهن من المطالبة بحقوقهن.
■ س: يُقال إن محامي النقض هو “ندّ القاضي”، فأي القضايا برعتِ فيها خلال مسيرتكِ العملية؟
ج: من أكثر المجالات ثراءً في مسيرتي العملية العمل على القضايا المرتبطة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمرأة في إطار القانون الدولي والوطني، فضلًا عن القضايا المعقّدة التي تتقاطع فيها قواعد القانون الدولي العام والخاص. والإنجاز الحقيقي في نظري لا يتمثل في كسب الدعوى فقط، بل في أن يتحول الحكم إلى سابقة قضائية تُسهم في تطوير الفقه القانوني وتوسيع دائرة الحقوق.
■ س: مصر تملك أرضًا خصبة وتاريخًا زراعيًا عريقًا، فلماذا لم تكن الزراعة الركيزة الاقتصادية الأولى للدولة؟
ج: رغم غنى التربة والتاريخ الزراعي، فإن هناك تحديات حدّت من الدور النسبي للزراعة، من بينها:
• التحدي المائي والاعتماد شبه الكامل على مصدر مائي واحد.
• تفتت الحيازات الزراعية بما يحد من الإنتاجية والاستثمار التكنولوجي.
• التركيز على محاصيل تقليدية بدل التوسع في المحاصيل ذات القيمة المضافة العالية.
• المنافسة العالمية وضرورة دعم المزارع المصري.
والحل يكمن في رؤية استراتيجية شاملة تربط بين إدارة الموارد المائية، وتطوير التقنيات والبذور، ودمج الصناعات التحويلية الزراعية، وفتح الأسواق التصديرية.
■ س: ما رؤيتكِ لمصير الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن أن يحل الروبوت محل المحامي مستقبلًا؟
ج: الذكاء الاصطناعي سيكون شريكًا لا بديلًا. سيؤدي أدوارًا هائلة في البحث القانوني، وتحليل السوابق، ومراجعة المستندات، وحتى التنبؤ باتجاهات الأحكام. لكنه لن يحل محل جوهر المهنة، لأن المحاماة والقضاء يقومان على القيم الإنسانية، والضمير، والحكم الأخلاقي، وفهم السياق الاجتماعي والنفسي. المستقبل للمحامي الذي يتقن أدوات الذكاء الاصطناعي، لكن الروبوت لن يعوّض “العقل القانوني الإنساني”.
■ س: كيف ترين القضية الفلسطينية حاضرًا ومستقبلًا من منظور القانون الدولي؟
ج: حاضرًا، ما يحدث يُعد اختبارًا قاسيًا لمنظومة القانون الدولي والضمير الإنساني. وما جرى ويجري في غزة يتعارض مع جوهر القانون الدولي الإنساني، لا سيما مبادئ حماية المدنيين، مع فشل واضح للمجتمع الدولي في فرض احترام القانون وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية.
أما مستقبلًا، فلا يمكن تحقيق سلام عادل ودائم إلا بالعودة إلى القانون الدولي، ووقف العدوان، وإعادة إعمار غزة، وإنهاء الاحتلال، وتطبيق حل الدولتين على أساس حدود 1967، بما يكفل للشعب الفلسطيني حقه الأصيل في تقرير المصير.
■ س: في ختام هذا الحوار، ماذا ترغبين من الحياة في هذه المرحلة؟
ج: أرغب في أن أكون جسرًا: جسرًا بين النظرية والتطبيق في القانون، وبين الأجيال لنقل الخبرة مع الانفتاح على الجديد، وجسرًا للمرأة المصرية والعربية نحو حقوقها الكاملة بلا خوف. أتمنى أن تترك مسيرتي أثرًا حقيقيًا في تطوير التشريع، وفي عقول طلابي، وفي حياة من ساعدناهم عبر العمل الحقوقي، وأن أواصل العطاء بروح قادرة على التعلّم دائمًا.



















