ياسر أنور: مشروع ثقافي يعيد وصل الشعر بالحضارة واللغة
تعرفتُ على المهندس ياسر أنور منذ ما يقارب ربع قرن، في نقابة الصحفيين، خلال ندوة الورداني ناصف، ثم توالت اللقاءات في مركز الدكتور رفعت سيد أحمد للدراسات وغيرها من الفضاءات الثقافية.
وخلال هذه المسيرة من التعارف والحوار، تكشّفت لي ملامح مثقف يجمع بين روح الأصالة ووعي المعاصرة، ويتعامل مع الثقافة بجدية عميقة، لا بوصفها ترفًا فكريًا أو وسيلة ارتزاق، بل باعتبارها مشروعًا نهضويًا متكاملًا.
ويضاف إلى ذلك إجادته لأربع لغات، وامتلاكه أدوات الناقد المحترف، ما منح حضوره الثقافي عمقًا خاصًا وجعل مشروعه الفكري أكثر تماسًا مع الأسئلة الكبرى للهوية والمعرفة.
يمثّل الأديب والباحث ياسر أنور نموذجًا لافتًا للمثقف الموسوعي الذي جمع بين الحسّ الشعري العميق والاشتغال الفكري الجاد، فصاغ مشروعًا ثقافيًا متكاملًا يتجاوز حدود الإبداع الأدبي إلى إعادة مساءلة الجذور الحضارية واللغوية للهوية المصرية والعربية. انطلقت تجربته من الشعر بوصفه الفضاء الأول لتشكيل الوعي الجمالي، حيث بدا شعره معنيًا بالأسئلة الوجودية الكبرى، ومفتوحًا على الرمز والأسطورة والتاريخ، مستلهمًا التراث العربي في حوار حيّ مع المتنبي وليلى العامرية، ومع مفردات العشق والموت والقدر. ولم يكن الشعر عنده غاية جمالية خالصة، بل مدخلًا لرؤية معرفية أوسع، تتعامل مع اللغة باعتبارها كيانًا حيًا، قادرًا على حمل الذاكرة الحضارية وإعادة إنتاجها.
ومع اتساع أفق التجربة، انتقل ياسر أنور من دائرة الإبداع الشعري إلى فضاء البحث الفكري والفني، ولا سيما في ما يتصل بالقرآن الكريم، حيث قدّم قراءات تتجاوز التناول الوعظي أو التفسيري التقليدي، متعاملًا مع النص القرآني بوصفه خطابًا لغويًا ومعرفيًا وحضاريًا، قادرًا على محاورة العصر ومواجهة الأسئلة المعاصرة، من قضايا الإلحاد العلمي إلى بنية النص ودلالاته العميقة. وفي هذا السياق، حافظت كتاباته الفكرية على لغة مشحونة بالإيحاء، تجمع بين الدقة البحثية والنَّفَس الأدبي، بما يعكس خلفيته الشعرية ويمنح الطرح طابعًا خاصًا.
ويُعدّ اشتغاله على الحضارة المصرية القديمة والهيروغليفية أحد أبرز ملامح مشروعه الفكري، حيث قدّم رؤية تسعى إلى إعادة قراءة التاريخ المصري القديم من منظور لغوي وحضاري عربي. ففي كتبه المتعددة حول الهيروغليفية، يطرح أطروحة تقوم على الربط بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية، معتبرًا أن هذا الربط ليس مجرّد تشابه صوتي أو لغوي، بل امتداد حضاري يعكس وحدة الجذر الثقافي والروحي. ومن خلال هذه الرؤية، يعمل على تفكيك السرديات الغربية السائدة حول الحضارة المصرية، ويقترح قراءة بديلة ترى في مصر القديمة حضارة متجذّرة في محيطها العربي، لغويًا ودلاليًا.
ويبلغ هذا المشروع ذروته في الربط بين القرآن الكريم والهيروغليفية، حيث يقدّم تصورًا جدليًا يقوم على اعتبار القرآن نصًا كونيًا، قادرًا على كشف أنساق معرفية كامنة في الحضارات القديمة، وتصحيح كثير من التأويلات التاريخية والرمزية. ومن هنا، يطرح مفهوم الإعجاز الهيروغليفي في القرآن، بوصفه محاولة للكشف عن تقاطعات لغوية ورمزية، يرى فيها دليلًا على وحدة المصدر الحضاري واستمرارية الرسالة الإنسانية عبر العصور.
وإلى جانب ذلك، لم ينفصل حضور ياسر أنور الثقافي عن المجال العام، إذ أسهم من خلال مقالاته الصحفية وعمله الإعلامي في نقل أفكاره من نطاق البحث المتخصص إلى فضاء النقاش المجتمعي، جاعلًا من قضايا الحضارة واللغة والهوية موضوعًا حيًا للتداول. كما مثّلت الجوائز الأدبية التي نالها اعترافًا بمكانته الشعرية والفكرية، ودليلًا على تأثيره في المشهد الثقافي العربي.
وفي المحصلة، يقدّم ياسر أنور مشروعًا ثقافيًا يتسم بالتكامل والتداخل بين الشعر والفكر، وبين اللغة والتاريخ، وبين القرآن والحضارة المصرية القديمة. وهو مشروع يسعى إلى إعادة بناء الوعي بالهوية عبر قراءة جديدة للتراث، لا تنفصل عن أسئلة الحاضر ولا عن رهانات المستقبل، بما يجعل تجربته علامة فارقة في مسار البحث عن الجذور الحضارية واللغوية للأمة.



















